{ لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَا } أي يتسخر ويتسهل كما في قولك النار ينبغي أن تحرق الثوب أو يحسن ويليق أي حكمة كما في قولك الملك ينبغي أن يكرم العالم ، واختار غير واحد المعنى الأول ، وأصل { يَنبَغِي } مطاوع بغي بمعنى طلب وما طاوع وقبل الفعل فقد تسخر وتسهل ، والنفي راجع في الحقيقة إلى { يَنبَغِي } فكأنه قيل : لا يتسهل للشمس ولا يتسخر { أَن تدْرِكَ القمر } أي في سلطانه بأن تجتمع معه في الوقت الذي حده الله تعالى له وجعله مظهراً لسلطانه فإنه عز وجل جعل لتدبير هذا العالم بمقتضى الحكمة لكل من النيرين الشمس والقمر حداً محدوداً ووقتاً معيناً يظهر فيه سلطانه فلا يدخل أحدهما في سلطان الآخر بل يتعاقبان إلى أن يأتي أمر الله عز وجل ، وهذه الجملة لنفى أن تدرك الشمس القمر فيما جعل له وقوله تعالى : { وَلاَ الليل سَابِقُ النهار } لنفى أن يدرك القمر الشمس فيما جعل لها أي ولا آية الليل سابقة آية النهار وظاهر سلطانها في وقت ظهور سلطانها وإلى هذا المعنى يشير كلام قتادة . والضحاك . وعكرمة . وأبي صالح . واختاره الزمخشري ليناسب قوله تعالى : { لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَا } ولأن الكلام في الآيتين دل عليه قوله تعالى : { والشمس تَجْرِى } [ يس : 38 ] الآيتان وآخراً { كُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } وعبر بالإدراك أولاً وبالسبق ثانياً على ما في «الكشاف » لمناسبة حال الشمس من بطء السير وحال القمر من سرعته ، ولم يقل ولا القمر سابق الشمس ليؤذن على ما قال الطيبي بالتعاقب بين الليل والنهار وبنصوصية التدبير على المعاقبة فإنه مستفاد من الحركة اليومية التي مدار تصرف كل منهما عليها . وفي «الكشف » التحقيق أن المقصود بيان معاقبة كل من الشمس والقمر في ترتب الإضاءة وسلطانه على الاستقلال وكذلك اختلاف الليل والنهار فقيل : { وَلاَ الليل سَابِقُ النهار } كناية عن سبق آيته آيته فحصل الدلالة على الاختلاف أيضاً إدماجاً لأنها لا تنافي إرادة الحقيقة ، وجاء من ضرورة التقابل هذا المعنى في النهار أيضاً من قوله تعالى : { لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَا أَن تدْرِكَ القمر } ولما ذكر مع الشمس الإدراك المؤذن بأنها طالبة للحاق قيل : { لاَّ يَنبَغِي } رعاية للمناسبة وجىء بالفعل المؤذن بالتجدد ولما نفى السبق في المقابل أكد ذلك بأن جىء بالجملة الاسمية المحضة من دون الابتغاء لأنه مطلوب اللحوق اه .
ولم يذكر السر في إدخال حرف النفي على الشمس دون الفعل المؤذن بصفتها ويوشك أن يكون أخفى من السها وكان ذلك ليستشعر منه في المقام الخطابي أن الشمس إذا خليت وذاتها تكون معدومة كما هو شأن سائر الممكنات وإنما يحصل لها ما يحصل من علته التي هي عبارة عن تعلق قدرته تعالى به على وفق إرادته سبحانه الكاملة التي لا يأبى عنها شيء من أشياء عالم الإمكان ويفيد ذلك في غاية كونها مسخرة في قبضة تصرفه عز وجل لا شيء فوق تلك المسخرية وفيه تأكيد لما يفيده قوله تعالى : { ذلك تَقْدِيرُ العزيز العليم } [ يس : 38 ] ورد بليغ لمن إليها يسند التأثير .
وجوز أن يكون ذلك لإفادة كونها مسخرة لا يتسهل لها إلا ما أريد بها من حيث تقديم المسند إليه على الفعل وجعله بعد حرف النفي نحو ما أنا قلت هذا وما زيد سعى في حاجتك يفيد التخصيص أي ما أنا قلت هذا بل غيري وما زيد سعى في حاجتك بل غيره على ما حققه علماء البلاغة والمقصود من نفي تسهل إدراك القمر في سلطانه عن الشمس نفى أن يتسهل لها أن تطمس نوره وتذهب سلطانه ويرجع ذلك إلى نفي قدرتها على الطمس وإذهاب السلطان فيكون المعنى بناء على قاعدة التقديم أن الشمس لا تقدر على ذلك بل غيرها يقدر عليه وهو الله عز وجل وهذا بعد إثبات الجريان لها بتقدير العزيز العليم مشعر بكونها مسخرة لا يتسهل لها إلا ما أريد بها .
وقال بعض الفضلاء فيما كتبه على هامش تفسير البيضاوي عند قوله : وإلاء حرف النفي الشمس للدلالة على أنها مسخرة لا يتيسر لها إلا ما أريد بها وجه الدلالة أن الإيلاء المذكور يفيد التخصيص والابتغاء بمعنى الصحة والتسهيل المساوقين للاقتدار فيفيد الكلام أن الشمس ليس لها قدرة على إدراك القمر وسرعة المسير التي هي ضد لحركتها الخاصة بل القدرة عليهما لله سبحانه فهو فاعل لحركتها حقيقة ولها مجرد المحلية للحركة فصحت الدلالة المذكورة ثم قال : وتفصيل الكلام أن الله سبحانه ذكر أولاً أن الشمس تجري لمستقر لها إشارة إلى حركتها الخاصة ثم ذكر سبحانه أنه قدر القمر أيضاً في منازل الشمس حتى عاد كالعرجون القديم أي رجع إلى الشكل الهلالي وذلك إنما يكون عند قربه إلى الشمس ورجوعه إليها ولما كان للوهم سبيل إلى أن يتوهم أن جرى الشمس وسيرها وتقدير أنوار القمر وجرمه المرئي مما يستند إلى إرادتهما على سبيل إرادتنا التي تتعلق تارة بالشيء وأخرى بضده فيصح ويتيسر للنيرين الأمران كما يصحان لنا وأن يتوهم أن إسناد أمر الشمس والقمر إلى التقدير الإلهي من قبيل إسناد أفعالنا إليه من حيث أن الأقدار والتمكين منه تعالى وأنه سبحانه المبدأ والمنتهي إلى غير ذلك من الاعتبارات .
نبه جل شأنه بالتخصيص المذكور على دفع على هذا التوهم على سبيل التنبيه على كون الشيء مسخراً مضطراً في أمره بسلب اقتداره على ضده وإن لم يذكر جميع أضداده فأشار سبحانه إلى أن الحركة السريعة المفضية إلى إدراك القمر التي هي ضد الحركة الخاصة للشمس لا يصح استنادها إليها والقدرة عليها مختصة بغيرها { وَهُوَ العزيز العليم } حتى يظهر أن وجود الحركة الخاصة لها مستند إلى تقديره تعالى وتدبيره جل شأنه من غير مشاركة للشمس معه سبحانه ثم أردفع ذلك بحكم القمر حيث قال تعالى : { وَلاَ الليل سَابِقُ النهار } فإن الأقرب كون المعنى فيه ليس لآية الليل القدرة على أن تسبق آية النهار بحيث تفوتها ولا تكون لها مراجعة إليها ولحوق بها تنبيهاً على أن تقدير القمر في المنازل على الوجه المرصود الذي يعود به إلى الشكل الهلالي الشبيه بالعرجون ويفضي إلى مقاربة الشمس مستند أيضاً إلى تقديره تعالى وتدبيره سبحانه من غير مشاركة للقمر فيه فالجملتان في قوة التأكيد للآيتين السابقتين ولهذا فصلتا اه ، وفيه دغدغة لا تخفى على ذكي فتأمل .
وما أشار إليه من أن معنى { لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَا أَن تدْرِكَ القمر } أن الشمس لا قدرة لها على أن تدرك القمر في سيره لبطء حركتها الخاصة وسرعة حركته كذلك قاله غير واحد . وادعى النحاس أنه أظهر ما قيل في معناه وبينه وبين ما تقدم من المعنى قرب ما بل قال بعضهم : الفرق بين الوجهين بالاعتبار ، وقال بعض من ذهب إليه في { وَلاَ الليل سَابِقُ النهار } إن المراد أن القمر لا يسبق الشمس بالحركة اليومية وهي ما تكون له وكذا لسائر الكواكب بواسطة فلك الأفلاك فإن هذه الحركة لا يقع بسببها تقدم ولا تأخر وقيل المراد بقوله تعالى : { لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَا أَن تدْرِكَ القمر } إنه لا ينبغي لها أن تدركه في آثاره ومنافعه فإنه سبحانه خص كلاً منهما بآثار ومنافع كالتلوين بالنسبة للقمر والنضج بالنسبة للشمس ، وعن الحسن أن المراد أنهما لا يجتمعان فيما يشاهد من السماء ليلة الهلال خاصة أي لا تبقى الشمس طالعة إلى أن يطلع القمر ولكن إذا غربت طلع ، وقال يحيى : ابن سلام : المراد لا تدركه ليلة البدر خاصة لأنه يبادر المغيب قبل طلوعها وكلا القولين لا يعول عليهما ولا ينبغي أن يلتفت إليهما ، وقيل في معنى الجملة الثانية إن الليل لا يسبق النهار ويتقدم على وقته فيدخل قبل مضيه .
وفي «الدر المنثور » عن بعض الأجلة أي لا ينبغي إذا كان ليل أن يكون ليل آخر حتى يكون النهار ، وعليك بما تقدم فهو لعمري أقوم ، واستدل بالآية أن النهار سابق على الليل في الخلق . روى العياشي في تفسيره بالإسناد عن الأشعث بن حاتم قال كنت بخراسان حيث اجتمع الرضا رضي الله تعالى عنه والمأمون والفضل بن سهل في الإيوان بمرو فوضعت المائدة فقال الرضا : إن رجلاً من بني إسرائيل سألني بالمدينة : فقال النهار خلق قبل أم الليل فما عندكم ؟ فأرادوا الكلام فلم يكن عندهم شيء فقال الفضل للرضا : أخبرنا بها أصلحك الله تعالى قال نعم من القرآن أم من الحساب ؟ قال له الفضل : من جهة الحساب فقال رضي الله تعالى عنه : قد علمت يا فضل أن طالع الدنيا السرطان والكواكب في مواضع شرفها فزحل في الميزان والمشتري في السرطان والمريخ في الجدي والشمس في الحمل والزهرة في الحوت وعطارد في السنبلة والقمر في الثور فتكون الشمس في العاشر وسط السماء فالنهار قبل الليل ، ومن القررن قوله تعالى : { وَلاَ الليل سَابِقُ النهار } أي الليل قد سبقه النهار اه .
/ وفي الاستدلال بالآية بحث ظاهر وأما بالحساب فله وجه في الجملة . ورأى المنجمون أن ابتداء الدورة دائرة نصف النهار وله موافقة لما ذكر ، والذي يغلب على الظن عدم صحة الخبر من مبتدئه فالرضي أجل من أن يستدل بالآية على ما سمعت من دعواه وفهم الإمام من قوله تعالى : { وَلاَ الليل سَابِقُ النهار } أن الليل مسبوق لا سابق ومن قوله سبحانه : { يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً } [ الأعراف : 54 ] أن الليل سابق لأن النهار يطلبه ، وأجاب عما يلزم عليه من كون الليل سابقاً مسبوقاً بأن المراد من الليل هنا آيته وهو القمر وهو لا يسبق الشمس بالحركة اليومية والمراد من الليل هناك نفس الليل وكل واحد لما كان في عقب الآخر كان طالبه . وتعقبه أبو حيان بأن فيه جعل الضمير الفاعل في { يَطْلُبُهُ } عائداً على النهار وضمير المفعول عائداً على { الليل } والظاهر أن ضمير الفاعل عائد على ما هو الفاعل في المعنى وهو الليل لأنه كان قبل دخول همزة النقل { يغشى وَهُوَ الذي } وضمير المفعول عائد على { النهار } لأنه المفعول قبل النقل وبعده وحينئذٍ كلتا الآيتين تفيد أن النهار سابق فلا سؤال انتهى . فتأمل ولا تغفل .
وقرأ عمار بن عقيل { سَابِقُ } بغير تنوين { النهار } بالنصب قال المبرد : سمعته يقرأ فقلت ما هذا ؟ قال : أردت سابق النهار بالتنوين فحذفت لأنه أخذ . وفي «البحر » حذف التنوين لالتقاء الساكنين { وَكُلٌّ } أي كل واحد من الشمس والقمر إذ هما المذكوران صريحاً والتنوين عوض عن المضاف إليه وقدره بعضهم ضمير جمع العقلاء ليوافق ما بعد أي كلهم وقدره آخر اسم إشارة أي كل ذلك أي المذكور الشمس والقمر { فِى فَلَكٍ } هو كما قال الراغب مجرى الكوكب سمي به لاستدارته كفلكة المغزل وهي الخشبة المستديرة في وسطه وفلكة الخيمة وهي الخشبة المستديرة التي توضع على رأس العمود لئلا تتمزق الخيمة .
{ يَسْبَحُونَ } أي يسيرون فيه بانبساط وكل من بسط في شيء فهو يسبح فيه ، ومنه السباحة في الماء ، وهذا المجرى في السماء ولا مانع عندنا أن يجري الكوكب بنفسه في جوف السماء وهي ساكنة لا تدور أصلاً وذلك بأن يكون فيها تجويف مملوء هواء أو جسماً آخر لطيفاً مثله يجري الكوكب فيه جريان السمكة في الماء أو البندقة في الأنبوب المستدير مثلاً أو تجويف خال من سائر ما يشغله من الأجسام يجري الكوكب فيه أو بأن تكون السماء بأسرها لطيفة أو ما هو مجرى الكوكب منها لطيفاً فيشق الكوكب ما يحاذيه وتجري كما تجري السمكة في البحر أو في ساقية منه وقد انجمد سائره وانقطاع كرة الهواء عند كرة النار المماسة لمقعر فلك القمر عند الفلاسفة وانحصار الأجسام اللطيفة بالعناصر الثلاثة وصلابة جرم السماء وتساوي أجزائها واستحالة الخرق والالتئام عليها واستحالة وجود الخلاء لم يتم دليل على شيء منه ، وأقوى ما يذكر في ذلك شبهات أوهن من بيت العنكبوت وأنه ورب السماء لأوهن البيوت .
ويجوز أن يكون الفلك عبارة عن جسم مستدير ويكون الكوكب فيه يجري بجريانه في ثخن السماء من غير دوران للسماء ، ولا مانع من أن يعتبر هذا الفلك لبعض الكواكب الفلك الكلي ويكون فيه نحو ما يثبته أهل الهيئة لضبط الحركات المختلفة من الأفلاك الجزئية لكن لا يضطر إلى ذلك بناءً على القواعد الإسلامية كما لا يخفى إلا أن في نسبة السبح إلى الكوكب نوع أباء بظاهره عن هذا الاحتمال ، وفي كلام الأئمة من الصحابة وغيرهم إيماءً إلى بعض ما ذكرنا .
/ أخرج ابن جرير . وابن أبي حاتم . وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس أنه قال في الآية ؛ { كُلٌّ فِى فَلَكٍ } فلكة كفلكة المغزل يسبحون يدورون في أبواب السماء كما تدور الفلكة في المغزل . وأخرج الأخيران عن مجاهد أنه قال : لا يدور المغزل إلا بالفلكة ولا تدور الفلكة إلا بالمغزل والنجوم في فلكة كفلكة المغزل فلا يدرن إلا بها ولا تدور إلا بهن . وفي الفتوحات المكية للشيخ الأكبر قدس سره جعل الله تعالى السموات ساكنة وخلق فيها سبحانه نجوماً وجعل لها في عالم سيرها وسباحتها في هذه السموات حركات مقدرة لا تزيد ولا تنقص وجعلها عاقلة سامعة مطيعة وأوحى في كل سماء أمرها ثم أنه عز وجل لما جعل السباحة للنجوم في هذه السموات حدثت لسيرها طرق لكل كوكب طريق وهو قوله تعالى : { والسماء ذَاتِ الحبك } [ الذاريات : 7 ] فسميت تلك الطرق أفلاكاً فالأفلاك تحدث بحدوث سير الكواكب وهي سريعة السير في جرم السماء الذي هو مساحتها فتخرق الهواء المماس لها فيحدث لسيرها أصوات ونغمات مطربة لكون سيرها على وزن معلوم فتلك نغمات الأفلاك الحادثة من قطع الكواكب المسافات المساوية فهي تجري في هذه الطرق بعادة مستمرة قد علم بالرصد مقادير ودخول بعضها على بعض في السير وجعل سيرها للناظرين بين بطء وسرعة وجعل سبحانه لها تقدماً وتأخراً في أماكن معلومة من السماء تعينها أجرام الكواكب لإضائتها دونها إلى آخر ما قال .
وقال الإمام : إن الله تعالى قادر على أن يجعل الكوكب بحيث يشق السماء فيجعل دائرة متوهمة كما لو جرت سمكة في الماء على الاستدارة وهذا هو المفهوم من قوله تعالى : { فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } والظاهر أن حركة الكوكب على هذا الوجه .
وأرباب الهيئة انكروا ذلك للزوم الخرق والالتئام ان انشق موضع الجري والتأم أو الخلاء ان انشق ولم يلتئم والكل محال عندهم وعندنا لا محالية في ذلك وما يلزم هنا الخرق والالتئام لأنه المفهوم من يسبحون ولا دليل لهم على الاستحالة فيما عدا المحدد وهو هناك شبهة ضعيفة لا دليل ، وظاهر الآية أن كل واحد من من النيرين في فلك أي في محرى خاص به وهذا مما يشهد به الحس وذهب إلى نحوه فلاسفة الإسلام كغيرهم من الفلاسفة بيد أنه يقولون باتحاد الفلك والسماء ولما سمعوا عن قبلهم أن كلا من السبع السيارة في فلك وكل الكواكب الثوابت في فلك وفوق كل ذلك فلك يحرك الجميع من المشرق إلى المغرب ويسمى فلك الأفلاك لتحريكه إياها والفلك الأعظم لإحاطته بها والفلك الأطلس لأنه كاسمه غير مكوكب وسمعوا عن الشارع ذكر السموات السبع والكرسي والعرش أرادوا أن يطبقوا بين الأمرين فقالوا : السموات السبع في كلام الشارع هي الأفلاك السبعة في كلام الفلاسفة فلكل من السيارات سماء من السموات والكرسي هو فلك الثوابت والعرش هو الفلك المحرك للجميع المسمى بفلك الأفلاك وقد أخطؤوا في ذلك وخالفوا سلف الأمة فيه فالفلك غير السماء ، وقوله تعالى مع ما هنا { أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ الله سَبْعَ سموات طِبَاقاً وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشمس سِرَاجاً } [ نوح : 15 ، 16 ] لا يدل على الاتحاد لما قلنا من أن الكواكب في الفلك والفلك في السماء فيكون الكوكب فيها بلا شبهة فلا يحوج الجمع إلى القول بالعينية ولم يقم دليل على كرية العرش بل ظاهر ما ورد في الأخبار من أن له قوائم يدل على عدم الكرية ، نعم ورد ما يدل بظاهره أنه مقبب وهذا شيء غير ما يزعمونه فيه وكذا الكرسي لم يدل دليل على كريته كما يزعمون ومع هذا ليس عندهم دليل تام على كون الثوابت كلها في فلك فيجوز أن تكون في أفلاك كممثلات كلها فوق زحل أو بعضها فوقه وبعضها بين أفلاك العلوية وهي لا تكسف الثوابت التي عروضها أكثر من عروضها ولا لها اختلاف منظر ليعرف بأحد الوجهين كون الجميع فوق العلوية أو كتداوير ولا يلزم اختلاف أبعاد بعضها من بعض لجواز تساوي أجرام التداوير وحركاتها ولا اختلاف حركاتها بالسرعة والبطء للبعد والقرب وموافقة الممثل ومخالفته لأنا لا نسلم أن حركاتها لا تختلف بذلك المقدار ولا اختلاف أبعادها من الأرض لأنها غير محققة ، ويجوز أيضاً أن تكون كلها مركوزة في محدب ممثل زحل على أنه يتحرك الحركة البطيئة والمعدل الحركة السريعة ، وأيضاً يجوز أن يكون فيما سموه الفلك الأطلس كواكب لا ترى لصغرها جداً أو ترى وهي سريعة الحركة ولم يرصد كل كوكب ليتحقق بطء حركة الجميع ، وأيضاً يجوز أن تكون السيارات أكثر من سبع فيحتاج إلى أزيد من سبع سموات ، ويقرب هذا ظفر أهل الارصاد الجديدة بكوكب سيار غير السبع سموع باسم من ظفر به وأدركه وهو هرشل ، وبالجملة لا قاطع فيما قالوه ، وللشيخ الأكبر قدس سره في هذا الباب كلام رخر مبناه الكشف وهو أن العرش الذي استوى الرحمن سبحانه عليه سرير ذو أركان أربعة ووجوه أربعة هي قوائمه الأصلية وهي الماء الجامد وفي جوفه الكرسي وهو على شكله في التربيه لا في القوائم ومقره على الماء الجامد أيضاً وبين مقعر العرش وبينه فضاء واسع وهواء مخترق وفي .
جوق الكرسي خلق الله تعالى الفلك الأطلس جسماً شفافاً مستديراً مقسماً إلى اثنين عشر قسماً هي البروج المعروفة وفي جوفه الفلك المكوكب وما بينهما الجنات وبعد أن خلق الله تعالى الأرضين واكتسى الهواء صورة الدخان خلق الله سبحانه السموات السبح وجعل في كل منها كوكباً وهي الجواري ، وزعم الخفاجي أن المراد بالفلك في الآية الفلك الأعظم لأن الشمس والقمر وكذا سائر الكواكب تتحرك بحركته فالسباحة عنده عبارة عن الحركة القسرية ، وفي القلب من ذلك شيء ، ثم على ما هو الظاهر من أن لكل واحد فلكاً يخصه ذهبوا إلى أن فلك الشمس فوق فلك القمر لما أنه يكسفها والمكسوف فوق التكاسف ضرورة ، وذكر معظم أهل الهيئة أن الفلك الأدنى فلك القمر وفوقه فلك عطارد وفوقه فلك الزهرة وفوقه فلك الشمس وفوقه فلك المريخ وفوقه فلك المشتري وفوقه فلك زحل واستدلوا على بعض ذلك بالكسف وعلى بعضه الآخر بأن فيه حسن الترتيب وجودة النظام ، ولا مانع فيما أرى من القول بذلك لكن لا على الوجه الذي قال به أهل الهيئة من كون السموات هي الأفلاك الدائرة بل على وجه يتأتى معه القول بسكون السموات ودوران الكواكب في أفلاكها ومجاريها بعضها فوق بعض ، وقد مر لك ما ينفعك في هذا المقام فراجعه ، وجوز كون ضمير { يَسْبَحُونَ } عائداً على الكواكب ويشعر بها ذكر الشمس والقمر والليل والنهار ، ورجح على الأول بأن الاتيان بضمير الجمع عليه ظاهر لا يحتاج إلى تكلف بخلافه على الأول فإنه محوج إلى أن يقال اختلاف أحوال الشمس والقمر في المطالع وغيرها نزل منزلة تعدد أفرادهما فكان المرجح شموساً وأقماراً ، وظني أنه لا يحتاج إلى ذلك بناء على أنه قد يعتبر الإثنان جمعاً أو بناء على ما قال الإمام من أن لفظ كل يجوز أن يوحد نظراً إلى لفظه وأن يجمع نظراً إلى كونه بمعنى الجميع وأما التثنية فلا يد عليها اللفظ ولا المعنى قال : فعلى هذا يحسن أن يقال زيد وعمرو كل جاء وكل جاؤوا ولا يحسن كل جاءاً بالتثنية ، واستدل بالاتيان بضمير جمع العقلاء على أن الشمس والقمر من ذوي العقول .
وأجيب بأن ذاك لما أن المسند إليهما فعل ذوي العقول كما في قوله تعالى في حق الأصنام { مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ } [ الصافات : 92 ] وقوله سبحانه : { أَلا تَأْكُلُونَ } [ الصافات : 91 ] والظواهر غير ما ذكر مع المستدلين . واستدل بالآية بعض فلاسفة الإسلام القائلين باتحاد السماء والفلك على استدارة السماء وجعلوا من اللطائف فيها أن { كُلٌّ فِى فَلَكٍ } لا يستحيل بالانعكاس نحو كلامك كمالك وسر فلا كبابك الفر من وقالوا : لا يعكر على ذلك أنه سبحانه سماها سقفاً في قوله عز قائلاً : { والسقف المرفوع } [ الطور : 5 ] لأن السقف المقبب لا يخرج عن كونه سقفاً بالتعبيب ، وأنت تعلم أن السموات غير الأفلاك ومع هذا أقول باستدارة السموات كما ذهب إليه بعض السلف ، وبعض ظواهر الأخبار يقتضي أنها أنصاف كرات كل سماء نصف كرة كالقبة على أرض من الأرضين السبع وإليه ذهب الشيخ الأكبر وقال بالاستدارة لفلك المنازل دون السموات السبع وادعى أن تحت الأرضين السبع التي على كل منها سماء ماء ، وتحته هواء ، وتحته ظلمة وعليه فليتأمل في كيفية سير الكوكب بعد غروبه حتى يطلع .
ثم إن الفلاسفة الذاهبين إلى استدارة السماء تمسكوا في ذلك بأدلة أقربها على ما قيل دليلان ، الأول أنامتي قصدنا عدة مساكن على خط واحد من عرض الأرض وحصلنا الكواكب المارة على سمت رأس في كل واحدة منها ثم اعتبرنا أبعاد ممرات تلك الكواكب في دائرة نصف النهار بعضها من بعض وجداناها على نسب المسافات الأرضية بين تلك المساكن ، وكذلك وجدنا ارتفاع القطب فيها متفاضلاً بمثل تلك النسب فتحدب السماء في العرض مشابه لتحدب الأرض فيه لكن هذا التشابه موجود في كل خط من خطوط العرض وكذا في كل خط من خطوط الطول فسطح السماء بأسره مواز لسطح الظاهر من الأرض بأسره وهذا السطح مستدير حساً فكذا سطح السماء الموازي له ، والثاني أن أصحاب الأرصاد دونوا في كتبهم مقادير اجرام الكواكب وأبعاد ما بينها في الأماكن المختلفة في وقت واحد كما في أنصاف نهار تلك الأماكن مثلا متساوية وهذا يدل على تساوي أبعاد مراكز الكواكب عن مناظر الأبصار المستلزم لتساوي أبعادها عن مركز العالم لاستدارة الأرض المستلزم لكون جرم السماء كربا . ونوقش في هذا بأنه إنما يصح أن لو كان الفلك ساكناً والكوكب متحركاً إذ لو كان الفلك متحركاً جاز أن يكون مربعاً وتكون مساواة أبعاد مراكز الكواكب عن مناظر الأبصار وتساوي مقادير الإجرام للكواكب حاصلة ، وفي الأول بأنه إنما يصح لو كان الاعتبار المذكور موجوداً في كل خط من خطوط الطول والعرض ولا يخفى جريان كل من المناقشتين في كل من الدليلين ، ولهم غير ذلك من الأدلة مذكورة بما لها وعليها في مطولات كتبهم .
قوله تعالى : { لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر } أي : لا يدخل النهار على الليل قبل انقضائه ، ولا يدخل الليل على النهار قبل انقضائه ، وهو قوله تعالى : { ولا الليل سابق النهار } أي : هما يتعاقبان بحساب معلوم لا يجيء أحدهما قبل وقته . وقيل : لا يدخل أحدهما في سلطان الآخر ، لا تطلع الشمس بالليل ولا يطلع القمر بالنهار وله ضوء ، فإذا اجتمعا وأدرك كل واحد منهما صاحبه قامت القيامة . وقيل : { لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر } أي : تجتمع معه في فلك واحد ، ( ( ولا الليل سابق النهار ) ) أي : لا يتصل ليل بليل لا يكون بينهما فاصل . { وكل في فلك يسبحون } يجرون .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر} فتضيئ مع ضوء القمر؛ لأن الشمس سلطان النهار، والقمر سلطان الليل.
{ولا الليل سابق النهار}: ولا يدرك سواد الليل ضوء النهار، فيغلبه على ضوئه.
{وكل} الليل والنهار {في فلك يسبحون} في دوران يجرون يعني الشمس والقمر، يقول: وكلاهما في دوران يجريان إلى يوم القيامة.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"لا الشّمْسُ يَنْبَغِي لَها أنْ تُدْرِكَ القَمَرَ" يقول تعالى ذكره: لا الشمس يصلح لها إدراك القمر، فيذهب ضوؤها بضوئه، فتكون الأوقات كلها نهارا لا ليل فيها، "وَلا اللّيْلُ سابِقُ النّهارِ "يقول تعالى ذكره: ولا الليل بفائت النهار حتى تذهب ظلمته بضيائه، فتكون الأوقات كلها ليلاً...
وقوله: "وكُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ" يقول: وكلّ ما ذكرنا من الشمس والقمر والليل والنهار في فلك يَجْرُون.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يخبر عن قدرته وعلمه وتدبيره، ودلّ إجراؤه إياهما على مجرى واحد وسنن واحد منذ أنشأهما، وقدّرهما إلى آخر ما ينتهي إليه هذا العالم؛ أنه كان بعلم ذاتي وتدبير أزلي لا مستفاد ولا مكتسب.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القَمَر} بل هما يسيران دائبين ولكلَ حدٌّ لا يعدوه ولا يقصر دونه، فإذا جاء سلطان هذا ذهب ذلك وإذا جاء سلطان ذلك ذهب هذا، فذلك قوله: {وَلاَ الْلَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ}. فإذا اجتمعا وأدرك كل واحد صاحبه قامت القيامة وذلك قوله سبحانه: {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [القيامة: 9].
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
معنى يسبحون يسيرون فيه بانبساط، وكل ما انبسط في شيء فقد سبح فيه، ومنه السباحة في الماء.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
إن قلت: لم جعلت الشمس غير مدركة، والقمر غير سابق؟ قلت: لأنّ الشمس لا تقطع فلكها إلا في سنة، والقمر يقطع فلكه في شهر، فكانت الشمس جديرة بأن توصف بالإدراك لتباطىء سيرها عن سير القمر، [والقمر] خليقاً بأن يوصف بالسبق لسرعة سيره.
إشارة إلى أن كل شيء من الأشياء المذكورة خلق على وفق الحكمة، فالشمس لم تكن تصلح لها سرعة الحركة بحيث تدرك القمر وإلا لكان في شهر واحد صيف وشتاء فلا تدرك الثمار وقوله: {ولا الليل سابق النهار} قيل في تفسيره إن سلطان الليل وهو القمر ليس يسبق الشمس وهي سلطان النهار...
الفلك ماذا؟ نقول الجسم المستدير أو السطح المستدير أو الدائرة؛ لأن أهل اللغة اتفقوا على أن فلكة المغزل سميت فلكة لاستدارتها، وفلكة الخيمة هي الخشبة المسطحة المستديرة التي توضع على رأس العمود لئلا يمزق العمود الخيمة وهي صفحة مستديرة،
جهود القرافي في التفسير 684 هـ :
سمي الحول عاما؛ لأن الشمس عامت فيه حتى قطعت جملة الفلك، ولذلك قال الله تعالى: {وكل في فلك يسبحون}...
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
إيلاء حرف النفي {الشمس} للدلالة على أنها مسخرة لا يتيسر لها إلا ما أريد بها.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
الآية من الاحتباك: نفى أولاً إدراك الشمس لقوتها دليلاً على ما حذف من الثانية من نفي إدراك القمر للشمس، وذكر ثانياً سبق الليل النهار لما له من القوة بما يعرض من النهار فيغشيه دليلاً على حذف سبق النهار الليل أولاً {وكل} أي من المذكورات حقيقة ومجازاً {في فلك} محيط به، ولما ذكر لها فعل العقلاء، وكان على نظام محرر لا يختل، وسير مقدر لا يعوج ولا ينحل، فكان منزهاً عن آفة تلحقه، أو ملل يطرقه، عبر بما تدور مادته على القدرة والشدة والاتساع فقال: آتياً بضمير العقلاء جامعاً لأنه أدل على تسخيرهم كلهم دائماً: {يسبحون} حثاً على تدبر ما فيها من الآيات التي غفل عنها -لشدة الإلف لها- الجاهلون.
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
الجمع في قوله {يَسْبَحُونَ} باعتبار اختلاف مطالعهما، فكأنهما متعدّدان بتعدّدها، أو المراد: الشمس والقمر والكواكب...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
قيل المراد بقوله تعالى: {لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَا أَن تدْرِكَ القمر} إنه لا ينبغي لها أن تدركه في آثاره ومنافعه؛ فإنه سبحانه خص كلاً منهما بآثار ومنافع كالتلوين بالنسبة للقمر والنضج بالنسبة للشمس...
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
الآية الرابعة: المقصود هنا أن الله سبحانه بديع السماوات والأرض جعل لكل من الشمس والقمر مدارا مستقلا يسبح فيه، فلا يحجب أحدهما ضوء الآخر إلا نادرا حين ما يحدث كسوف الشمس أو خسوف القمر.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
أخيراً يقرر دقة النظام الكوني الذي يحكم هذه الأجرام الهائلة، ويرتب الظواهر الناشئة عن نظامها الموحد الدقيق:
(لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر، ولا الليل سابق النهار، وكل في فلك يسبحون)..
ولكل نجم أو كوكب فلك، أو مدار، لا يتجاوزه في جريانه أو دورانه. والمسافات بين النجوم والكواكب مسافات هائلة. فالمسافة بين أرضنا هذه وبين الشمس تقدر بنحو ثلاثة وتسعين مليوناً من الأميال. والقمر يبعد عن الأرض بنحو أربعين ومائتي ألف من الأميال.. وهذه المسافات على بعدها ليست شيئاً يذكر حين تقاس إلى بعد ما بين مجموعتنا الشمسية وأقرب نجم من نجوم السماء الأخرى إلينا. وهو يقدر بنحو أربع سنوات ضوئية. وسرعة الضوء تقدر بستة وثمانين ومائة ألف من الأميال في الثانية الواحدة! [أي إن أقرب نجم إلينا يبعد عنا بنحو مائة وأربعة مليون مليون ميل!].
وقد قدر الله خالق هذا الكون الهائل أن تقوم هذه المسافات الهائلة بين مدارات النجوم والكواكب. ووضع تصميم الكون على هذا النحو ليحفظه بمعرفته من التصادم والتصدع -حتى يأتي الأجل المعلوم- فالشمس لا ينبغي لها أن تدرك القمر. والليل لا يسبق النهار، ولا يزحمه في طريقه، لأن الدورة التي تجيء بالليل والنهار لا تختل أبداً فلا يسبق أحدهما الآخر أو يزحمه في الجريان!
وحركة هذه الأجرام في الفضاء الهائل أشبه بحركة السفين في الخضم الفسيح. فهي مع ضخامتها لا تزيد على أن تكون نقطاً سابحة في ذلك الفضاء المرهوب.
وإن الإنسان ليتضاءل ويتضاءل، وهو ينظر إلى هذه الملايين التي لا تحصى من النجوم الدوارة والكواكب السيارة، متناثرة في ذلك الفضاء، سابحة في ذلك الخضم، والفضاء من حولها فسيح فسيح وأحجامها الضخمة تائهة في ذلك الفضاء الفسيح!!!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لما جرى ذكر الشمس والقمر في معرض الآيات الدالة على انفراده تعالى بالخلق والتدبير وعلى صفات إلهيته التي من متعلِّقاتها تعلق صفة القدرة بآية الشمس وسيرها، والقمر وسيره، وقد سمّاها بعض المتكلمين صفات الأفعال وكان الناس يعرفون تقارب الشمس والقمر فيما يراه الراءون، وكانوا يقدرون سيرهما بأسمات معلَّمة بعلامات نجومية تسمى بُروجاً بالنسبة لسير الشمس، وتسمى منازل بالنسبة لسير القمر، وكانوا يعلمون شدة قرب المنازل القمرية من البروج الشمسية فإن كل برج تسامته منزلتان أو ثلاث منازل، وبعض نجوم المنازل هي أجزاء من نجوم البروج، زادهم الله عبرة وتعليماً بأن للشمس سيراً لا يلاقي سير القمر، وللقمر سيراً لا يلاقي سير الشمس ولا يمر أحدهما بطرائق مسير الآخر وأن ما يتراءى للناس من مشاهدة الشمس والقمر في جو واحد وفي حجمين متقاربين، وما يتراءى لهم من تقارب نجوم بروج الشمس ونجوم منازل القمر، إن هو إلا من تخيلات الأبصار وتفاوت المقادير بين الأجرام والأبعاد.
فالكرة العظيمة كالشمس تبدو مقاربة لكرة القمر في المرأى وإنما ذلك من تباعد الأبعاد فأبعاد فلك الشمس تفوت أبعاد فلك القمر بمئات الملايين من الأميال، حتى يلوح لنا حجم الشمس مقارباً لحجم القمر. فبين الله أنه نظم سير الشمس والقمر على نظام يستحيل معه اتصال إحدى الكرتين بالأخرى لشدة الأبعاد بين مداريهما.
فمعنى: {لا الشَّمْسُ يَنْبغي لها أن تُدْرِكَ القَمَر} نفي انبغاء ذلك، أي نفي تأتِّيه، لأن انبغى مطاوع بغى الذي هو بمعنى طلب، فانبغى يفيد أن الشيء طُلب فحصل للذي طَلبه، يقال: بغاه فانبغَى له، فإثبات الانبغاء يفيد التمكن من الشيء فلا يقتضي وجوباً، ونفي الانبغاء يفيد نفي إمكانه ولذلك يكنى به عن الشيء المحظور، يقال: لا ينبغي لك كذا، ففرقٌ ما بين قولك: ينبغي أن لا تفعل كذا، وبين قولك: لا ينبغي لك أن تفعل كذا، قال تعالى: {قالوا سبحانك ما كان ينبغي أن نتخذ من دونك من أولياء} [الفرقان: 18].
والإِدراك: اللحاق والوصول إلى البُغية فقوله: {أن تُدرك} فاعل {يَنْبَغِي} فأفاد الكلام نفي انبغاء إدراك الشمسِ القمرَ. والمعنى: نفي أن تصطَدم الشمس بالقمر، خلافاً لما يبدو من قرب منازلهما فإن ذلك من المسامتة لا من الاقتراب. وصوغ هذا بصيغة الإِخبار عن المسند إليه بالمسند الفعلي لإِفادة تقوّي حكم النفي فذلك أبلغ في الانتفاء مما لو قيل: لا ينبغي للشمس أن تدرك القمر.
وافتتاح الجملة بحرف النفي قبل ذكر الفعل المنفي ليكون النفي متقرراً في ذهن السامع أقوى مما لو قيل: الشمسُ لا ينبغي لها أن تدرك القمر، فكان في قوله: {لا الشَّمْسُ ينبغي لها أن تُدْرِكَ القَمَر} خُصوصيتان.
ولمَّا ذكر الشمس والقمر وكانت الشمس مقارنة للنهار في مخيلات البشر، وكان القمر مقارناً لليل، وكان في نظام الليل والنهار منافع للناس اعترض بذكر نظام الشمس والقمر أثناء الاعتبار بنظام الليل والنهار.
ومعنى: {ولاَ الليْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} أن الليل ليس بمفلتٍ للنهار، فالسبق بمعنى التخلص والنجاة، {أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا} في سورة العنكبوت} (4)، والمعنى: أن انسلاخ النهار على الليل أمر مسخّر لا قبل لليل أن يتخلف عنه.
ولا يستقيم تفسير السبق هنا بمعناه المشهور وهو الأوَّلية بالسير؛ لأن ذلك لا يُتصور في تداول الليل والنهار، ولا أن يكون المراد بالسبق ابتداءَ التكوين إذ لا يتعلق بذلك غرض مهم في الآية، على أن الشأن أن تكون الظلمة أسبق في التكوين. والغرض التذكير بنعمة الليل ونعمة النهار فإن لكليهما فوائد للناس فلو تخلص أحدهما من الآخرِ فاستقرّ في الأفق لتعطلت منافع جمّة من حياة الناس والحيوان.
وفي الكلام اكتفاء، أي لأن التقدير: ولا القمرُ يدرك الشمسَ، ولا النهارُ سابق الليل.
وقوله: {وكُلٌّ في فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} عطف على جملة {لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر}. والواو عاطفة ترجيحاً لِجانب الإِخبار بهذه الحقيقة على جانب التذييل، وإلا فحقّ التذييل الفصل. وما أضيف إليه {كلّ} محذوف، وتنوين {كل} تنوين عوض عن المضاف إليه المحذوفِ، فالتقدير: وكلّ الكواكب.
وزيدت قرينة السياق تأكيداً بضمير الجمع في قوله: {يَسْبَحُونَ} مع أن المذكور من قبل شيئان لا أشياء، وبهذا التعميم صارت الجملة في معنى التذييل.
والفَلَك: الدائرة المفروضة في الخلاء الجوّي لسير أحد الكواكب سيراً مطّرداً لا يحيد عنه، فإن أهل الأرصاد الأقدمين لما رصدوا تلك المدارات وجدوها لا تتغير ووجدوا نهايتها تتصل بمبتداها فتوهموها طرائق مستديرة تسير فيها الكواكب كما تتقلب الكرة على الأرض وربما توسعوا في التوهم فظنوها طرائق صلبة ترتكز عليها الكواكب في سيرها وبعض الأمم يتوهمون الشمس في سيرها مجرورة بسلاسل وكلاليب وكان ذلك في معتقد القبط بمصر.
وسمّى العرب تلك الطرائق أفلاكاً واحدها فَلَك: اشتقوا له اسماً من اسم فَلْكَة المِغْزَل، وهي عُود في أعلاه خشبة مستديرة متبطحة مثل التفاحة الكبيرة تلفُّ المرأة عليها خيوط غزلها التي تفتلها لتديرها بكفّيها فتلتف عليها خيوط الغزل، فتوهموا الفلك جسماً كُرويا وتوهموا الكواكب موضوعة عليه تدور بدورته؛ ولذلك قدروا الزمان بأنه حركة الفَلَك. وسمّوا ما بين مبدأ المُدّتين حتى ينتهي إلى حيث ابتدأ دورة الفلك. ولكن القرآن جاراهم في الاسم اللغوي؛ لأن ذلك مبلغ اللغة وأصلح لهم ما توهموا بقوله:
{يَسْبَحُونَ}، فبطل أن تكون أجرام الكواكب ملتصقة بأفلاكها ولزم من كونها سابحة؛ أن طرائق سيرها دوائر وهمية؛ لأن السبح هنا سبح في الهواء لا في الماء، والهواء لا تخطط فيه الخطوط ولا الأخاديد.
وجيء بضمير {يَسْبَحُونَ} ضمير جمع مع أن المتقدم ذِكره شيئان هما الشمس والقمر لأن المراد إفادة تعميم هذا الحكم للشمس والقمر وجميع الكواكب وهي حقيقة علمية سبق بها القرآن.
وجملة {كل في فلك} فيها محسن الطرد والعكس فإنها تقرأ من آخرها كما تقرأ من أولها.
لا يقال: فلان لا يدرك فلاناً إلا إذا كان سابقه، كذلك الشمس لا تدرك القمر؛ لأنه كما قُلْنا سابقها وأسرع منها؛ لأنه يقطع دورته في شهر، وتقطع الشمس دورتها في سنة...
وقوله سبحانه: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} يسبحون من السبح، وهو قَطْع المسافة على ماء لين، فهي حركة فيها انسيابية، ليست على أرض تدبّ عليها الأقدام، وهذا مثال لحركة الأفلاك، وهذه الحركة السبحية يكون كل جزء منها مُوزَّعاً على جزء من الزمن.
وهذه الحركة ليس لدينا المقاييس التي ندركها بها، إنما نعرفها من جملة الزمن مع جملة الحركة، فمثلاً لو وُلد لك مولود وجلستَ ترقبه وتلاحظ نموه، فإنك لا تلاحظ هذا النمو، ولا يكبر الولد في عين أبيه أبداً، لماذا؟
لأن نموه لا يأتي قفزةً واحدة يمكن ملاحظتها، إنما يُوزَّع النمو على الزمن، لكن إذا غِبْتَ عن ولدك عدة شهور أو سنوات فإنك تلاحظ نموه حين تعود وتراه؛ لأنك تلاحظ مجموع النمو طوال فترة غيابك عنه.
فمعنى: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} يعني: يسيرون سيراً انسيابياً متتابعاً يُوزَّع على الزمن.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
الآية الأخيرة من هذه الآيات، تتحدّث عن ثبات ودوام ذلك النظم في السنين والشهور، والنهار والليل، فقد وضع الله سبحانه وتعالى لها نظاماً وبرنامجاً لا يقع بسببه أدنى اضطراب أو اختلال في وضعها وحركتها، وبذا ثبت تاريخ البشر وانتظم بشكل كامل، تقول الآية: (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكلّ في فلك يسبحون).
يحتمل أن يكون المقصود من (السباحة) هنا حركة الشمس في فلكها مع المنظومة الشمسية والمجرّة التي نحن فيها، حيث أنّ الثابت علمياً حالياً أنّ المنظومة الشمسية التي نعيش فيها جزء من مجرّة عظيمة هي بدورها في حالة دوران. إذ أنّ «فلك» كما يقول أرباب اللغة بمعنى: بروز واستدارة ثدي البنت، ثمّ أطلقت على القطعة المدوّرة من الأرض أو الأشياء المدوّرة الاُخرى أيضاً، ومنه اُطلق على مسير الكواكب الدوراني.
«يسبحون» من مادة «سباحة» وهي كما يقول «الراغب» في المفردات: المرّ السريع في الماء والهواء. واستعير لحركة النجوم في الفلك والتسبيح تنزيه الله تعالى، وأصله المرّ السريع في عبادة الله!» ولذا فإنّها في الآية إشارة إلى الحركة السريعة للأجرام السماوية، والآية تشبهها بالموجودات العاقلة المستمرة في دورانها، وقد ثبت حالياً أنّ الأجرام السماوية تنطلق بسرعة هائلة في الفضاء.