روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي [إخفاء]  
{خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ بِٱلۡحَقِّۖ يُكَوِّرُ ٱلَّيۡلَ عَلَى ٱلنَّهَارِ وَيُكَوِّرُ ٱلنَّهَارَ عَلَى ٱلَّيۡلِۖ وَسَخَّرَ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَۖ كُلّٞ يَجۡرِي لِأَجَلٖ مُّسَمًّىۗ أَلَا هُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡغَفَّـٰرُ} (5)

وقوله سبحانه : { خُلِقَ السموات والأرض بالحق } إثبات لما ذكر أولاً من الوحدة والقهر ، وفيه أيضاً ما ستعمله إن شاء الله تعالى أي خلق هذا العالم المشاهدة ملتبساً بالحق والصواب مشتملاً على الحكم والمصالح .

وقوله تعالى : { يُكَوّرُ اليل عَلَى النهار وَيُكَوّرُ النهار عَلَى الليل } بيان لكيفية تصرفه فيما ذكر بعد بيان الخلق فإن حدوث الليل والنهار منوط بتحريك أجرام سماوية ، والتكوير في الأصل هو اللف واللي من كان العمامة على رأسه وكورها ، والمراد على ما روى عن قتادة يغشى أحدهما الآخر ، وهو على ما قيل على معنى يذهب أحدهما ويغشى مكانه الآخر أي يلبسه مكانه فيصير أسود مظلماً بعد ما كان أبيض منيراً وبالعكس فالمغشى حقيقة المكان ، ويجوز أن يكون المغشي الليل والنهار على الاستعارة ويكون المكان ظرفاً ، والمقصود أنه لما كان أحدهما غاشياً للآخر أشبه اللباس الملفوف على لابسه في ستره إياه واشتماله عليه وتغطيه به .

وتحقيقه أن أحدهما لما كان محيطاً على جميع ما أحاط به الآخر من غير أن يكون ثم شيء زائد غير الظهور والخفاء جعل إحاطته على محاط الآخر إحاطة عليه مجاز ملابسته وعبر عنها بالغشيان والتكوير للشبه المذكور .

وجوز أن يكون المراد أن كل واحد من الليل والنهار يغيب الآخر إذا طرأ عليه فشبه في تغييبه إياه بشيء ظاهر لف عليه ما غيبه عن مطامح الأبصار ورجح الأول بأن فيه مع اعتبار الستر اعتبار اللي وإحاطة الأطراف ثم إن هذا لظهوره تشبيه مبذول وأن يكون المراد أن هذا يكر على هذا كروراً متتابعاً فشبه ذلك بتتابع أكوار العمامة بعضها على إثر بعض قيل وهو الأرجح لأنه اعتبر فيه ما اعتبر مع الأول مع النظر إلى المطرد فيه لفظ الكور فإنه لف بعد لف وهو أيضاً كذلك إلا أن أكوار العمامة متظاهرة وفيما نحن فيه متعاورة وهذا مما لا بأس به فإن كل لية تسمى كوراً حقيقة .

وأخرج ابن جرير . وابن أبي حاتم عن ابن عباس أن المعنى يحمل أحدهما على الآخر ، وفسر هذا الحمل بالضم والزيادة أي يزيد الليل على النهار ويضمه إليه بأن يجعل بعض أجزاء الليل نهاراً فيطول النهار ويقصر الليل ويزيد النهار على الليل ويضمه إليه بأن يجعل سبحانه بعض أجزاء النهار ليلاً فيطول الليل ويقصر النهار .

وإلى هذا ذهب الراغب وهو معنى واضح والآية عليه كقوله تعالى : { يُولِجُ اليل فِى النهار وَيُولِجُ النهار فِى الليل } [ الحج : 61 ] في قول ، وذكر بعض الفضلاء أنها على المعنى الأول فيها شيء من قوله تعالى : { جَعَلَ الليل والنهار خَلْفِهِ لّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ } [ الفرقان : 62 ] وعلى المعنى الثاني فيها شيء من قوله تعالى : { والليل إِذَا يغشى والنهار إِذَا تجلى } [ الليل : 1 ، 2 ] وعلى الثالث شيء من قوله سبحانه : { يغشي الليل النها يطلبه حثيثا } [ الأعراف : 54 ] وإنها يحتمل أن يكون فيها الاستعارة التبعية والمكنية والتخييلية والتمثيلية والتمثيل أولى بالاعتبار ؛ وأياً ما كان فصيغة المضارع للدلالة على التجدد .

{ وَسَخَّرَ الشمس والقمر } جعلهما منقادين لأمره عز وجل { كُلٌّ يَجْرِى لأجل مُّسَمًّى } بيان لكيفية تسخيرهما أي كل منهما يجري لمنتهى دورته أو منقطع حركته ، وقد مر تمام الكلام عليه ، وفيه دليل على أن الشمس متحركة ، وزعم بعض الكفرة أنها ساكنة وأنها مركز العالم وسمعت في هذه الأيام أنه ظهر في الإفرنج منذ سنتين تقريباً من يزعم أنها تتحرك على مركز آخر كما تتحرك الأرض عليها نفسها بزعمهم وزعم بعض المتقدمين ، ولهم في الهيئة كلام غير هذا وفيه الغث والسمين إلا أن نفيهم السماوات الناطقة بها الشرائع بالكلية من العجب العجاب وأنظارهم السخيفة تفضي بهم إلى ما هو أعجب من ذلك عند ذوي العقول السليمة نسأل الله تعالى السلامة والتوفيق ، ولي عزم على تأليف كتاب أبين فيه إن شاء الله تعالى ما هو الأقرب إلى الحق من الهيئتين القديمة والجديدة متحركاً على محور الانصاف ساكتاً عن سلوك مسالك الاعتساف والله تعالى الموفق لذلك .

{ إِلاَّ هُوَ العزيز } القادر على عقاب المصرين { الغفار } لذنوب التائبين أو الغالب الذي يقدر أن يعاجلهم بالعقوبة وهو سبحانه يحلم عليهم ويؤخرهم إلى أجل مسمى فيكون قد سمي الحلم عنهم وقد ترك تعجيل العقوبة بالمغفرة التي هي ترك العقاب على طريق الاستعارة للمناسبة بينهما في الترك .

وجوز كون ذلك من باب المجاز المرسل ، والأول أبلغ وأحسن ، وهذان الوجهان في { العزيز الغفار } قد ذكرهما الزمخشري ، وظن بعضهم أن الداعي للأول رعاية مذهب الاعتزال حيث خص فيه المغفرة بذنوب التائبين فتركه وقال : العزيز القادر على كل ممكن الغالب على كل شيء الغفار حيث لم يعاجل بالعقوبة وسلب ما في هذه الصنائع من الرحمة وعموم المنفعة وما علينا أن نفسر كما فسر ونقول بأن مغفرته تعالى لا تخص التائبين بل قد يغفر جل شأنه لغيرهم إلا أن التقييد ليلائم ما تقدم أتم ملاءمة ، ففي «الكشف » أن الوجه الأول من ذينك الوجهين المذكورين يناسب قوله تعالى : { خُلِقَ السموات والأرض بالحق } من وجهين . أحدهما : ما فيه من الدلالة على كمال القدرة وكمال الرحمة المقتضي لعقاب المصر وغفران ذنوب التائب ، وثانيهما : أن قوله تعالى : { خُلِقَ السموات } الخ مسوق لأمرين إثبات الوحدة والقهر المذكورين فيما قبل نفياً للولد بل حسبما للشرك من أصله والتسلق إلى ما مهد أولاً من العبادة والإخلاص لئلا يزول عن الخاطر فقيل { بالحق } كما قيل هنالك { إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق } [ الزمر : 2 ] وادمج فيه أن إنزال الكتاب كما يدل على استحقاقه تعالى للعبادة فكذلك خلق السموات والأرض بالحق والحكمة التي منها الجزاء على ما سلف فالتذييل بإلا هو العزيز الغفار للترغيب في طلب المغفرة بالعبادة والإخلاص والتحذير عن خلاف ذلك سواء خالف أصل الدين كالكفر أو خالف الإخلاص فيه كسائر المعاصي في غاية الملاءمة ، وإنما أفرد مخالفة الدين بالذكر صريحاً في قوله تعالى : { والذين اتخذوا } [ الزمر : 3 ] الخ تحذيراً من حالهم لأنها هاتكة لعصمة النجاة فكانت أحق بالتحذير ، ورمز إلى هذا الثاني بالتذييل المذكور تكميلاً للمعنى المراد ومدار هذه السورة الكريمة على الأمر بالعبادة والإخلاص والتحذير من الكفر والمعاصي ، والوجه الثاني من ذينك الوجهين يناسب حديث الشرك والتذييل به لتوكيد تفظيع ما نسبوا إليه ، ولما ذكر تنزيل الكتاب وعقب بالأوصاف المقتضية للعبادة والإخلاص ذيله بقوله سبحانه : { أَلاَ لِلَّهِ الدين الخالص } [ الزمر : 3 ] على ما تحقق وجهه وقد نقلناه نحن عنه فيما مر ، ثم لما ذكر بعده عظيم ما نسبوا إليه سبحانه : من الشرك والأولاد وما دل على تنزهه تعالى بالألوهية ناسب أن يذيله بقوله تعالى : { أَلا هُوَ العزيز الغفار } للتوكيد المذكور ، وقد آثر هذا العلامة الطيبي ويعلم مما ذكرنا وجه رجحان الأول اه ، والوجه الثاني من وجهي المناسبة على الوجه الأول أولى الوجهين ، والآية على ما ذكره البعض يجوز ارتباطها بما عندها من الخلق والتكوير والتسخير

ومن باب الإشارة : { يُكَوّرُ اليل عَلَى النهار وَيُكَوّرُ النهار عَلَى اليل } [ الزمر : 5 ] فيه إشارة إلى أحوال السائرين إلى الله سبحانه من القبض والبسط والصحو والسكر والجمع والفرق والستر والتجلي وغير ذلك

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ بِٱلۡحَقِّۖ يُكَوِّرُ ٱلَّيۡلَ عَلَى ٱلنَّهَارِ وَيُكَوِّرُ ٱلنَّهَارَ عَلَى ٱلَّيۡلِۖ وَسَخَّرَ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَۖ كُلّٞ يَجۡرِي لِأَجَلٖ مُّسَمًّىۗ أَلَا هُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡغَفَّـٰرُ} (5)

قوله تعالى : { خلق السماوات والأرض بالحق يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل } قال قتادة : يغشي هذا هذا ، كما قال :{ يغشي الليل النهار } ( الأعراف-54 ) ، وقيل : يدخل أحدهما على الآخر ، كما قال { يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل } ( الحج-61 ) وقال الحسن ، والكلبي : ينقص من الليل ، فيزيد في النهار ، وينقص من النهار فيزيد في الليل ، فما نقص من الليل دخل في النهار ، وما نقص من النهار دخل في الليل ، ومنتهى النقصان تسع ساعات ، ومنتهى الزيادة خمس عشرة ساعة ، وأصل التكوير اللف والجمع ، ومنه كور العمامة . { وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمىً ألا هو العزيز الغفار } .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ بِٱلۡحَقِّۖ يُكَوِّرُ ٱلَّيۡلَ عَلَى ٱلنَّهَارِ وَيُكَوِّرُ ٱلنَّهَارَ عَلَى ٱلَّيۡلِۖ وَسَخَّرَ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَۖ كُلّٞ يَجۡرِي لِأَجَلٖ مُّسَمًّىۗ أَلَا هُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡغَفَّـٰرُ} (5)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

ثم عظم نفسه فقال: {خلق السماوات والأرض بالحق} لم يخلقهما باطلا لغير شيء.

{يكور} يسلط {الليل على النهار ويكور النهار} ويسلط النهار {على الليل} انتقاص كل واحد منهما من الآخر.

{وسخر الشمس والقمر} لبني آدم {كل يجري} الشمس والقمر {لأجل مسمى} ليوم القيامة يدل على نفسه بصنعه ليعرف توحيده.

{ألا هو العزيز} في ملكه {الغفار} لمن تاب إليه.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره واصفا نفسه بصفتها:"خَلَقَ السّمَوَاتِ والأرْضَ بالحَقّ يَكُوّرُ اللّيْلَ على النهارِ وَيُكَوّرُ النّهارَ على اللّيْلِ": يقول: يغشّي هذا على هذا، وهذا على هذا، كما قال "يُولِجُ اللّيْلَ فِي النّهارِ وَيُولِجُ النّهارَ فِي اللّيْلِ"...

وقوله: "وَسَخّرَ الشّمْسَ والقَمَرَ": يقول تعالى ذكره: وسخر الشمس والقمر لعباده، ليعلموا بذلك عدد السنين والحساب، ويعرفوا الليل من النهار لمصلحة معاشهم. "كُلّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمّى "يقول: كُلّ ذلك يعني الشمس والقمر يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمّى يعني إلى قيام الساعة، وذلك إلى أن تكوّر الشمس، وتنكدر النجوم. وقيل: معنى ذلك: أن لكل واحد منهما منازل، لا تعدوه ولا تقصر دونه. "ألا هُوَ العَزِيزُ الغَفّارُ "يقول تعالى ذكره: ألا إن الله الذي فعل هذه الأفعال وأنعم على خلقه هذه النعم هو العزيز في انتقامه ممن عاداه، الغفار لذنوب عباده التائبين إليه منها بعفوه لهم عنها.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{خلق السماوات والأرض بالحق} يحتمل قوله: {بالحق} بالحق الذي لله عليهم ولما لبعض على بعض من الحق، ويحتمل أن يكون قوله: {بالحق} للحق، وهو البعث، ما لو لم يكن البعث لكان خلقهما عبثا باطلا...

{يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل} يذكر دلالة وحدانيته حيث جعل منافع الليل متصلة بمنافع النهار، ومنافع النهار متصلة بمنافع الليل على اختلافهما وتناقضهما وتضادهما؛ ليعلم أنهما فعل واحد، وكذلك كان جعل منافع السماء متصلة بمنافع الأرض على بعد ما بينهما؛ ليعلم أن منشئهما واحد، إذ لو كان عددا لامتنع ذلك؛ إذ المعروف من عادة الملوك انفراد كل بملكه وسلطانه، فإن لم يمتنع ذلك دل أنه فعل واحد. وكذلك ما ذكر من تسخير الشمس والقمر لهم ولمنافعهم، ودل اتساقهما وجريانهما على سير واحد منذ كانا إلى آخر ما يكونان، ويدوران على أن منشئهما واحد عالم مدبر، عرف حاجة الخلق إليهما إلى أبد الآبدين، ومنافعهم بذلك.

{كل يجري لأجل مسمى} أي كل مما ذكر يجري إلى الوقت الذي جعل له، لا يتقدم ولا يتأخر، ولا ينقطع ما كان بالخلق حاجة.

{ألا هو العزيز الغفار} هو العزيز بذاته، لا يتعزز بما ذكروا له من الأولاد، ولا بطاعة من أطاعه.

{الغفار} لمن كان أهلا للمغفرة، ولا تخرج مغفرته إياه عن الحكمة.

{يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل}... وقال بعضهم: يكور أي يلف هذا بهذا، وهو من كور العمامة، ومنه قوله: {إذا الشمس كورت} [التكوير: 1] أي جمعت ولفت، وأصل التكوير اللف والجمع، وهو قول أبي عوسجة والقتبي...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

خَلَقَهما وهو مُحِقٌّ في خلقهما...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

التكوير: فيه أوجه، منها: أن الليل والنهار خلفة يذهب هذا ويغشى مكانه هذا، وإذا غشي مكانه فكأنما ألبسه ولف عليه كما يلف اللباس على اللابس، ومنها: أن هذا يكر على هذا كروراً متتابعاً، فشبه ذلك بتتابع أكوار العمامة بعضها على أثر بعض.

{ألا هُوَ العزيز} الغالب القادر على عقاب المصرين.

{الغفار} الغالب الذي يقدر على أن يعالجهم بالعقوبة وهو يحلم عنهم ويؤخرهم إلى أجل مسمى، فسمى الحلم عنهم: مغفرة...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

اعلم أن الآية المتقدمة دلت على أنه تعالى بين كونه منزها عن الولد بكونه إلها واحدا وقهارا غالبا: كامل القدرة، فلما بنى تلك المسألة على هذه الأصول ذكر عقيبها ما يدل على كمال القدرة وعلى كمال الاستغناء، وأيضا فإنه تعالى طعن في إلهية الأصنام فذكر عقيبها الصفات التي باعتبارها تحصل الإلهية.

واعلم أن الدلائل التي ذكرها الله تعالى في إثبات إلهيته، إما أن تكون فلكية أو عنصرية:

أما الفلكية فأقسام أحدها: خلق السموات والأرض، وهذا المعنى يدل على وجود الإله القادر من وجوه كثيرة.

والثاني: اختلاف أحوال الليل والنهار وهو المراد ههنا من قوله: {يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل} وذلك لأن النور والظلمة عسكران مهيبان عظيمان، وفي كل يوم يغلب هذا ذاك تارة، وذلك هذا أخرى، وذلك يدل على أن كل واحد منهما مغلوب مقهور، ولا بد من غالب قاهر لهما يكونان تحت تدبيره وقهره وهو الله سبحانه وتعالى، والمراد من هذا التكوير أنه يزيد في كل واحد منهما بقدر ما ينقص عن الآخر، والمراد من تكوير الليل والنهار ما ورد في الحديث: « نعوذ بالله من الحور بعد الكور» أي: من الإدبار بعد الإقبال.

ولما ذكر الله هذه الأنواع الثلاثة من الدلائل الفلكية قال: {ألا هو العزيز الغفار} فإنه لما كان الإخبار عن كونه عظيم القدرة يوجب الخوف والرهبة فكونه غفارا يوجب كثرة الرحمة، وكثرة الرحمة توجب الرجاء والرغبة،...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{خلق السماوات والأرض} أي أبدعهما من العدم.

{بالحق} خلقاً متلبساً بالأمر الثابت الذي ليس بخيال ولا سحر، على وجه لا نقص فيه بوجه، ولا تفاوت ولا خلل يقول أحد فيه أنه مناف للحكمة.

ولما كان من أدل الأشياء على صفتي الوحدانية والقهر، وتمام القدرة وكمال الأمر، بعد إيجاد الخافقين اختلاف الملوين، وكان التكوير -وهو إدارة الشيء على الشيء بسرعة وإحاطته به بحيث يعلو عليه ويغلبه ويغطيه- أدل على صفة القهر من الإيلاج، قال مبيناً لوقت إيجاد الملوين: {يكور} أي خلقهما أي صورهما في حال كونه يلف ويلوي ويدير فيغطي مع السرعة والعلو والغلة تكويراً كثيراً متجدداً مستمراً إلى أجله.

{الّيل على النهار} بأن يستره به فلا يدع له أثراً، ولعظمة هذا الصنع أعاد العامل فقال: {ويكور النهار} عالياً تكويره وتغطيته {على الّيل}.

ولما كانت الظلمة سابقة على الضياء، وكان الليل إنما هو ظلمة يسبقها ضياء بطلوع الشمس، رتب سبحانه هذا الترتيب على حسب الإيجاد، ولذلك قدم آية النهار فقال معبراً بالماضي بخلقه الآيتين مسخرتين على منهاج معلوم لكل منها لا يتعداه، وحد محدود لا يتخطاه.

{وسخر} أي ذلل وأكره وقهر وكلف لما يريد من غير نفع للمسخر.

{الشمس} التي محت ما كان من الظلام فأوجبت اسم النهار.

{والقمر} آية الليل. ولما أخبر بقهرهما، بين ما صرفهما فيه، فقال بياناً لهذا التسخير: {كل} أي منهما {يجري} أي بقضائنا الذي لا مرد له، وهذا آية لاختلاف أحوال العبد لأن خلقه جامع، فيختلف في القبض والبسط والجمع والفرق والأخذ والرد والصحو والسكر...

{ألا هو} أي وحده {العزيز} ولما كان ربما قال متعنت: فما له لا يأخذ من يخالفه؟ وكانت صفة القهر والعزة ربما أقنطت العصاة فأخرتهم عن الإقبال، قال مبيناً لسبب التأخير ومستعطفاً: {الغفار} أي الذي له صفة الستر على الذنوب متكررة فيمحو ذنوب من يشاء عيناً، وأثراً بمغفرته ويأخذ من يشاء بعزته...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

هذه اللفتة إلى ملكوت السماوات والأرض، وإلى ظاهرة الليل والنهار، وإلى تسخير الشمس والقمر توحي إلى الفطرة بحقيقة الألوهية التي لا يليق معها أن يكون هناك ولد ولا شريك.

والنظر المجرد إلى السماوات والأرض يوحي بوحدة الإرادة الخالقة المدبرة. وما كشفه الإنسان -حتى اليوم- من دلائل الوحدة فيه الكفاية. فقد اتضح أن الكون المعروف للبشر مؤلف كله من ذرات متحدة في ماهيتها، وأنها بدورها تتألف من إشعاعات ذات طبيعة واحدة. وقد اتضح كذلك أن جميع الذرات وجميع الأجرام التي تتألف منها سواء في ذلك الأرض التي نسكنها أم الكواكب والنجوم الأخرى في حركة دائمة، وأن هذه الحركة قانون ثابت لا يتخلف لا في الذرة الصغيرة ولا في النجم الهائل. واتضح أن لهذه الحركة نظاماً ثابتاً هو الآخر يوحي بوحدة الخلق ووحدة التدبير.. وفي كل يوم يكشف الإنسان عن جديد من دلائل الوحدة في تصميم هذا الوجود. ويكشف عن حق ثابت في هذا التصميم لا يتقلب مع هوى، ولا ينحرف مع ميل، ولا يتخلف لحظة ولا يحيد...

(خلق السماوات والأرض بالحق) وأنزل الكتاب بالحق، فهو الحق الواحد في ذلك الكون وفي هذا الكتاب. وكلاهما صادر من مصدر واحد. وكلاهما آية على وحدة المبدع العزيز الحكيم...

(يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل) وهو تعبير عجيب يقسر الناظر فيه قسراً على الالتفات إلى ما كشف حديثاً عن كروية الأرض، ومع أنني في هذه الظلال حريص على ألا أحمل القرآن على النظريات التي يكشفها الإنسان؛ لأنها نظريات تخطى ء وتصيب، وتثبت اليوم وتبطل غدا، والقرآن حق ثابت يحمل آية صدقه في ذاته، ولا يستمدها من موافقة أو مخالفة لما يكشفه البشر الضعاف المهازيل! مع هذا الحرص فإن هذا التعبير يقسرني قسراً على النظر في موضوع كروية الأرض. فهو يصور حقيقة مادية ملحوظة على وجه الأرض. فالأرض الكروية تدور حول نفسها في مواجهة الشمس؛ فالجزء الذي يواجه الشمس من سطحها المكور يغمره الضوء ويكون نهاراً. ولكن هذا الجزء لا يثبت لأن الأرض تدور. وكلما تحركت بدأ الليل يغمر السطح الذي كان عليه النهار. وهذا السطح مكور فالنهار كان عليه مكوراً والليل يتبعه مكوراً كذلك. وبعد فترة يبدأ النهار من الناحية الأخرى يتكور على الليل. وهكذا في حركة دائبة: (يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل).. واللفظ يرسم الشكل، ويحدد الوضع، ويعين نوع طبيعة الأرض وحركتها. وكروية الأرض ودورانها يفسران هذا التعبير تفسيراً أدق من أي تفسير آخر لا يستصحب هذه النظرية...

(وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى) والشمس تجري في مدارها. والقمر يجري في مداره. وهما مسخران بأمر الله. فما يزعم أحد أنه يجريهما. وما يقبل منطق الفطرة أن يجريا بلا محرك، يدبرهما بمثل هذا النظام الدقيق الذي لا يختل شعرة في ملايين السنين. وستجري الشمس وسيجري القمر (لأجل مسمى).. لا يعلمه إلا الله سبحانه.

(ألا هو العزيز الغفار) فمع القوة والقدرة والعزة، هو غفار لمن يتوب إليه وينيب، ممن يكذبون عليه ويكفرون به، ويتخذون معه آلهة، ويزعمون له ولداً -وقد سبق حديثهم- والطريق امامهم مفتوح ليرجعوا إلى العزيز الغفار.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

هذه الجملة بيان لجملة {هو الله الواحد القهار} [الزمر: 4] فإن خلق هذه العوالم والتصرف فيها على شدتها وعظمتها يبين معنى الوحدانية ومعنى القهّارية، فتكون جملة {هو الله الواحد القهار} ذات اتصالين: اتصالٍ بجملة {لو أراد الله أن يتَّخِذَ ولداً} [الزمر: 4] كاتصال التذييل، واتصالٍ بجملة {خلق السماوات والأرض بالحق} اتصالَ التمهيد، أي خلقها خلقاً ملابساً للحق وهو هنا ضد العبث، قال تعالى: {وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق} [الدخان: 38- 39]...

وجملة {يُكَوّرُ الَّيْلَ} أوثر المضارع في هذه الجملة لاستحضار حالة التكوير تبعاً لاستحضار آثارها؛ فإن حالة تكوير الله الليل على النهار غير مشاهدة وإنما المشاهد أثرها، وتجدد الأثر يدل على تجدد التأثير، والتكوير حقيقته: اللف والليُّ، يقال: كَوَّر العمامةَ على رأسه إذا لواها ولفَّها، وهو تمثيل بديع قابل للتجزئة بأن تشبه الأرض بالرأس ويشبه تعاور الليل والنهار عليها بلف طيات العمامة.

والأجل هو أجل فنائهما فإن جريهما لما كان فيه تقريب فنائهما، جعل جريهما كأنه لأجل الأجل أي لأجل ما يطلبه ويقتضيه أجل البقاء، وذلك كقوله تعالى:

{والشمس تجري لمستقرٍ لها} [يس: 38]، فالتنكير في (أجل) للإِفراد، ويجوز أن يكون المراد بالأجل أجل حياة الناس الذي ينتهي بانتهاء الأعمار المختلفة. وليس العمر إلا أوقاتاً محدودة وأنفاساً معدودة. وجري الشمس والقمر تُحسب به تلك الأوقات والأنفاس، فصار جريهما كأنه لأجل...

{أَلا هُوَ العزيز الغفار} استئناف ابتدائي هو في معنى الوعيد والوعد.

وفي وصف {الغَفَّارُ} مناسبة لذكر الأجل؛ لأن المغفرة يظهر أثرها بعد البعث الذي يكون بعد الموت وانتهاء الأجل تحريضاً على البدار بالتوبة قبل الموت حين يفوت التدارك. وفي افتتاح الجملة بحرف التنبيه إيذان بأهمية مدلولها الصريح والكنائي.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

«غفار» صيغة مبالغة مشتقّة من المصدر (غفران) وتعني في الأصل لبس الإِنسان لشيء يقيه من التلوّث، وعندما تستخدم بشأن الباري، عز وجل فإنّها تعني ستره لعيوب وذنوب عباده النادمين وحفظهم من عذابه وجزائه.