اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ بِٱلۡحَقِّۖ يُكَوِّرُ ٱلَّيۡلَ عَلَى ٱلنَّهَارِ وَيُكَوِّرُ ٱلنَّهَارَ عَلَى ٱلَّيۡلِۖ وَسَخَّرَ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَۖ كُلّٞ يَجۡرِي لِأَجَلٖ مُّسَمًّىۗ أَلَا هُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡغَفَّـٰرُ} (5)

قوله : { خَلَقَ السماوات والأرض بالحق } لما بين في الآية المتقدمة كونه منزهاً عن الولد بكونه إلهاً واحداً قهاراً أي كامل القدرة ذكر عقيبها ما يدل على الاستغناء . وأيضاً لما أبطل إلهيَّة الأصنام ذكر عقيبها الصفات التي باعتبارها تحصل الإلهية ، وقد تقدم أن الدَّلائل التي يذكرها الله تعالى في إثبات الإلهية إمّا أن تكون فلكية أو أرضيَّة أما الفلكية فأقسام :

أحدها : خلق السموات والأرض . وقد تقدم شرحها في تفسير قوله تعالى : { الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ السماوات والأرض } [ الأنعام : 1 ] .

وثانيها : اختلاف أحوال الليل والنهار ، وهو المراد ههنا من قوله : { يُكَوِّرُ الليل عَلَى النهار } . وفي هذه الجملة وجهان :

أظهرهما : أنها مستأنفة ، أخبر تعالى بذلك . والثاني : أنها حال ، قاله أبو البقاء ، وفيه ضعفٌ من حيث أن تكوير أحدهما على الآخر إنما كان بعد خلق السموات والأرض إلا أن يقال : هي حالٌ مقدرة ، وهُو خلاف الأصل .

والتكوير : اللَّفُ واللَّيُّ يقال : كَارَ العَمَامَةَ على رأسه وكَوَّرهَا ، ومعنى تكوير الليل على النهار وتكوير النهار على الليل على هذا المعنى أن الليل والنهار خلفة يذهب هذا ويغشى مكانه هذا وإذا غشي مكانه فكأنما لف عليه وألبسه كما يلف اللباس على اللابس أو أن كل واحد منهما يغيِّب الآخر إذا طرأ عليه فشبه في تغييبه إياه بشيء لف عليه ما غيبه عن مطامح الأبصار أو إن هذا يَكر على هذا كُرُوراً متتابعاً فشبه ذلك بتتابع إكرار العِمَامَة بعضها على بعض . قاله الزمخشري . وهذا أوفق للإشتقاق من أشياء قد ذكرت . وقال الراغب : كَوْرُ الشيء إدارته وضمّ بعضه إلى بعض كَكَوْر العِمَامَة ، وقوله : { يُكَوِّرُ الليل عَلَى النهار } إشارة إلى جرَيَان الشمس في مطالعها وانتقاص الليل والنهار وازديادهما . وكوَّره إذا ألقاه مجتمعاً . واكْتَار الفرس إذا رد ذَنَبَهُ في عَدُوِهِ ، وكَوارَةُ النَّحْل معروفة ، والكُور الرَّحْلُ . وقيل لكل مِصر كُورةٌ وهي البقعة التي يجتمع فيها قرًى ومحال . قال ابن الخطيب : إن النور والظلمة عسكران عظيمان ، وفي كل يوم يغلب هذا ذاك وذاك هذا ، وذلك يدل على أن كل واحد منهما يكون مغلوباً مقهوراً ، ولا بد من غالب قاهر لهما يكونان تحت تدبيره وقهره وهو الله تعالى ، والمراد من هذا التكوير أنه يزيد في كل واحد منهما بقدر ما ينقص من الآخر ، والمراد من تكوير الليل والنهار ما ورد في الحديث : «نَعُوذُ باللَّهِ من الحَوْر بَعْدَ الكَوْرٍ » أي من النقصان بعد الزيادة ، وقيل : من الإدبار بعد الإقبال .

قوله : { وَسَخَّرَ الشمس والقمر } فإن الشمس سلطانُ النهار ، والقمرَ سلطان الليل وأكثر مصالح هذا العالم مربوطةٌ بهما كل يجري لأجل مسمى إلى يوم القيامة لا يزالان يَجْريَانِ إلى هذا اليوم ، فإذا كان يوم القيامة ذهبا ، والمراد من هذا التسخير أن هذه الأفلاك تدور كَدَوَرَانِ المنْجَنُون على حدٍّ واحدٍ .

ثم قال : { أَلا هُوَ العزيز الغفار } ومعناه أن خلق هذه الأجرام العظيمة وإنْ دلّ على كونه عزيزاً أي كامل القدرة إلا أنه غفارٌ عظيم الرحمة والفضل والإحسان ، فإنه لما كان الإخبار عن كونه عظيم القدرة يوجب الخوف والرهبة فكوْنُهُ غفاراً كثير الرحمة يوجب الرجاء والرغبة .