روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي [إخفاء]  
{وَقَالُواْ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي صَدَقَنَا وَعۡدَهُۥ وَأَوۡرَثَنَا ٱلۡأَرۡضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ ٱلۡجَنَّةِ حَيۡثُ نَشَآءُۖ فَنِعۡمَ أَجۡرُ ٱلۡعَٰمِلِينَ} (74)

{ وَقَالُواْ } عطف على { قَالَ } [ الزمر : 73 ] أو على الجواب المقدر بعد { خالدين } أو على مقدر غيره أي فدخلوها وقالوا : { الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ } بالبعث والثواب { وَأَوْرَثَنَا الأرض } يريدون المكان الذي استقروا فيه فإن كانت أرض الآخرة التي يمشي عليها تسمى أرضاً حقيقة فذاك وإلا فإطلاقهم الأرض على ذلك من باب الاستعارة تشبيهاً له بأرض الدنيا ، والظاهر الأول ، وحكي عن قتادة . وابن زيد . والسدي أن المراد أرض الدنيا وليس بشيء ، وإيراثها تمليكها مخلفة عليهم من أعمالهم أو تمكينهم من التصرف فيها تمكين الوارث فيما يرثه بناءً على أنه لا ملك في الآخرة لغيره عز وجل وإنما هو إباحة التصرف والتمكين مما هو ملكه جل شأنه ، وقيل : ورثوها من أهل النار فإن لكل منهم مكاناً في الجنة كتب له بشرط الإيمان .

{ نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَاء } أي يتبوأ كل منا في أي مكان أراده من جنته الواسعة لا أن كلاً منهم يتبوأ في أي مكان من مطلق الجنة أو من جنات غيره المعينة لذلك الغير ، فلا يقال : إنه يلزم جواز تبوؤ الجميع في مكان واحد وحدة حقيقة وهو محال أو أن يأخذ أحدهم جنة غيره وهو غير مراد ، وقيل : الكلام على ظاهره ولكل منهم أن يتبوأ في أي مكان شاء من مطلق الجنة ومن جنات غيره إلا أنه لا يشاء غير مكانه لسلامة نفسه وعصمة الله تعالى له عن تلك المشيئة ، وقال الإمام : قالت حكماء الإسلام : إن لكل جنتين جسمانية وروحانية ومقامات الثانية لا تمانع فيها فيجوز أن يكون في مقام واحد منها ما لا يتناهى من أربابها ، وهذه الجملة حالية فالمعنى أورثنا مقامات الجنة حالة كوننا نسرح في منازل الأرواح كما نشاء .

وقد قال بعض متألهي الحكماء : الدار الضيقة تسع ألف ألف من الأرواح والصور المثالية التي هي أبدان المتجردين عن الأبدان العنصرية لعدم تمانعها كما قيل :

سم الخياط مع الأحباب ميدان *** وفسر المقام الروحاني بما تدركه الروح من المعارف الإلهية وتشاهده من رضوان الله تعالى وعنايته القدسية مما لا عين رأت ولا أذن سمعت .

وتعقب بأن هذا أن عد من بطون القرآن العظيم فلا كلام وإلا فحمل الجنة على مثل ذلك مما لا تعرفه العرب ولا ينبغي أن يفسر به ، على أنه ربما يقال : يرد عليه أنه يقتضي أن لكل أحد أن يصل إلى مقام روحاني من مقاماتها مع أن منها ما يخص الأنبياء المكرمين والملائكة المقربين ، والظاهر أنه لا يصل إلى مقاماتهم كل أحد من العارفين فافهم ولا تغفل { فَنِعْمَ أَجْرُ العاملين } من كلام الداخلين عند الأكثر والمخصوص بالمدح محذوف أي هذا الأجر أو الجنة ، ولعل التعبير بأجر العاملين دون أجرنا للتعريض بأهل النار أنهم غير عاملين ، وقال مقاتل : هو من كلام الله تعالى .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَقَالُواْ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي صَدَقَنَا وَعۡدَهُۥ وَأَوۡرَثَنَا ٱلۡأَرۡضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ ٱلۡجَنَّةِ حَيۡثُ نَشَآءُۖ فَنِعۡمَ أَجۡرُ ٱلۡعَٰمِلِينَ} (74)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

فلما دخلوها {وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض} يعني أرض الجنة بأعمالنا.

{نتبوأ من الجنة حيث نشاء} يعني نتنزل منها حيث نشاء رضاهم بمنازلهم منها.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

"وَقالُوا الحَمْدُ لِلّهِ الّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ": وقال الذين سيقوا زمرا ودخلوها: الشكر خالص لله الذي صدقنا وعده، الذي كان وعدناه في الدنيا على طاعته، فحققه بإنجازه لنا اليوم.

"وأوْرَثَنا الأرْضَ": وجعل أرض الجنة التي كانت لأهل النار لو كانوا أطاعوا الله في الدنيا فدخلوها، ميراثا لنا عنهم...

"نَتَبَوّأُ مِنَ الجَنّةِ حَيثُ نَشاءُ": نتخذ من الجنة بيتا، ونسكن منها حيث نحبّ ونشتهي...

"فَنِعْمَ أجْرُ العامِلِينَ": فنعم ثواب المطيعين لله، العاملين له في الدنيا، الجنة لمن أعطاه الله إياها في الآخرة...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} لا شك أن الله عز وجل إذا وعد صدق وعده لكن معنى قولهم: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} الحمد لله الذي جعلنا مستحقين وعده إذ وعده لا شك أنه يصدق، ولا قوة إلا بالله.

{نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} يحتمل قوله {حيث نشاء] نرغب فيها، وهم لا يرغبون النزول في منازل غيرهم. ويحتمل أن يكون قوله: {نتبوّأ من الجنة حيث نشاء} أي جميع أمكنة الجنة مختار، ليس مما نتخيّر في الدنيا مكانا دون مكان لأن جميع أمكنتها، ليست بمختارة، فيقع فيها الاختيار.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{والأرض} عبارة عن المكان الذي أقاموا فيه واتخذوا مقراً ومتبوّأ.

أورثوها أي ملكوها وجعلوا ملوكها، وأطلق تصرفهم فيها كما يشاؤون، تشبيهاً بحال الوارث وتصرفه فيما يرثه واتساعه فيه، وذهابه في إنفاقه طولاً وعرضاً.

فإن قلت: ما معنى قوله: {حَيْثُ نَشَاءُ} وهل يتبوأ أحدهم مكان غيره؟ قلت: يكون لكل واحد منهم جنة لا توصف سعة وزيادة على الحاجة، فيتبوأ من جنته حيث يشاء ولا يحتاج إلى جنة غيره...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

{وأورثنا الأرض} وإنما عبر عنه بالإرث لوجوه:

(الأول) أن الجنة كانت في أول الأمر لآدم عليه السلام، لأنه تعالى قال: {فكلا منها رغدا حيث شئتما} فلما عادت الجنة إلى أولاد آدم كان ذلك سببا لتسميتها بالإرث.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{أجر العاملين} ترغيباً في الأعمال وحثاً على عدم الاتكال...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

عطف هذا الكلام يؤذن بأن قولهم ذلك غيرُ جواب لقول الملائكة بل حَمدوا الله على ما منحهم من النعيم الذي وعَدهم به.

{أورثنا الأرض} كلام جرى مجرى المثل لمن ورث الملك قال تعالى: {أن الأرض يرثها عبادي الصالحون} [الأنبياء: 105] فعبر القرآن عن مراد أهل الجنة المختلفي اللغات بهذا التركيب العربي الدال على معاني ما نطقوا به من لغاتهم المختلفة، ويجوز أن يكون أهل الجنة نطقوا بكلام عربي ألهمهم الله إياه فقد جاء في الآثار أن كلام أهل الجنة بالعربية الفصحى.

لفظ {الأرض} جار على مراعاة التركيب التمثيلي؛ لأن الأرض قد اضمحلت أو بدلت ويجوز أن يكون لفظ {الأرض} مستعاراً للجنّة؛ لأنها قرارهم كما أن الأرض قرار الناس في الحياة الأولى.

وإطلاق الإِيراث استعارة تشبيهاً للإِعطاء بالتوريث في سلامته من تعب الاكتساب. والتبؤ: السكنى والحلول، والمعنى: أنهم يتنقلون في الغرف والبساتين تفنناً في النعيم.

وأرادوا ب {العاملين} أنفسَهم، أي عاملي الخير وهذا من التصريح بالحقائق فليس فيه عيب تزكية النفس؛ لأن ذلك العالم عالم الحقائق الكاملة المجردة عن شوب النقائص.

واعلم أن الآيات وَصفت مصير أهل الكفر ومصير المتقين يوم الحشر، وسكتت عن مصير أهل المعاصي الذين لم يلتحقوا بالمتقين بالتوبة من الكبائر وغفرانِ الصغائر باجتناب الكبائر، وهذه عادة القرآن في الإِعراض عن وصف رجال من الأمة الإِسلامية بمعصية ربهم إلا عند الاقتضاء لبيان الأحكام، فإن الكبائر من أمر الجاهلية فما كان لأهل الإِسلام أن يقعوا فيها فإذا وقعوا فيها فعليهم بالتوبة، فإذا ماتوا غير تائبين فإن الله تعالى يحصي لهم حسنات أعمالهم وطيبات نواياهم فيُقاصُّهم بها إن شاء، ثم هم فيما دون ذلك يقتربون من العقاب بمقدار اقترابهم من حال أهل الكفر في وفرة المعاصي فيؤمر بهم إلى النار، أو إلى الجنة، ومنهم أهل الأعراف. وقد تقدمت نبذة من هذا الشأن في سورة الأعراف...