{ مُّظْلِمُونَ والشمس } عطف على { الليل } [ ييس : 37 ] أي وآية لهم الشمس .
وقوله تعالى : { تَجْرِى } الخ استئناف لبيان كونها آية ، وقيل : { الشمس } مبتدأ وما بعده خبر والجملة عطف على { الليل نسلخ } [ يس : 37 ] وقيل غير ذلك فلا تغفل ، والجري المر السريع ، وأصله لمر الماء ولما يجري بجريه والمعنى تسير سريعاً { لِمُسْتَقَرّ لَّهَا } لحد معين تنتهي إليه من فلكها في آخر السنة شبه بمستقر المسافر إذا قطع مسيره من حيث أن في كل انتهاء إلى محل معين وإن كان للمسافر قرار دونها ، وروى هذا عن الكلبي واختاره ابن قتيبة ، والمستقر عليه اسم مكان واللام بمعنى إلى وقرئ بها بدل اللام ، وجوز أن تكون تعليلية أو لمنتهى لها من المشارق اليومية والمغارب لأنها تتقصاها مشرقاً مشرقاً ومغرباً مغرباً حتى تبلغ أقصاها ثم ترجع فذلك حدها ومستقرها لأنها لا تعدوه .
وروى هذا عن الحسن وهو متفق في أن المستقر اسم مكان واللام على ما سمعت ، ومختلف باعتبار أن الأول من استقرار المسافر تشبيهاً لانتهاء الدورة بانتهاء السفرة وهذا باعتبار مقنطرات الارتفاع وبلوغ أقصاها ومقنطرات الانخفاض كذلك والاستقرار باعتبار عدم التجاوز عن الأول في استقصاء المشارق وعن الثاني في استقصاء المغارب أو لحد لها من مسيرها كل يوم في رأي عيوننا وهو المغرب ، والمستقر عليه اسم مكان أيضاً واللام كما سمعت أو لكبد السماء ودائرة نصف النهار فالمستقر واللام على نظير ما تقدم .
وكون ذلك محل قرارها إما مجاز عن الحركة البطيئة أو هو باعتبار ما يتراىء ؛ قال ذو الرمة يصف فرسه وجريه في الظهيرة وشدة الحر
: معروريا رمض الرضراض تركضه *** والشمس حيرى لها بالجو تدويم
أو لاستقرار لها ومكث في كل برج من البروج الإثني عشر على نهج مخصوص فالمستقر مصدر ميمي واللام داخلة على الغاية أو الحامل ، وقيل : تجري لبيتها وهو برج الأسد ، واستقرارها عبارة عن حسن حالها فيه ، وهذا غير مقبول إلا عند أهل الأحكام ولا يخفى حكمهم على محققي الإسلام ، وقال قتادة . ومقاتل المعنى تجري إلى وقت لها لا تتعداه ، قال الواحدي : وعلى هذا مستقرها انتهاء سيرها عند انقضاء الدنيا وهذا اختيار الزجاج كما قال النووي : في «شرح صحيح مسلم » ، ومستقر عليه اسم زمان وفي غير واحد من الصحاح عن أبي ذر أتدري أين تذهب هذه الشمس ؟ قلت الله تعالى ورسوله أعلم قال : تذهب لتسجد فتستأذن فيؤذن لها ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها وتستأذن فلا يؤذن لها فيقال لها ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها فذلك قوله عز وجل : { والشمس تَجْرِى لِمُسْتَقَرّ لَّهَا } وفي رواية أتدرون أين تذهب هذه الشمس ؟ قالوا : الله تعالى ورسوله أعلم قال إن هذه تجري حتى تنتهي إلى مستقرها وتحت العرش فتخر ساجدة الحديث وفي ذلك عدة رواسات وقد روى مختصراً جداً .
وأخرج أحمد . والبخاري . ومسلم . وأبو داود . والترمذي . والنسائي . وابن أبي حاتم . وأبو الشيخ وابن مردويه . والبيهقي عن أبي ذر قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى : { والشمس تَجْرِى لِمُسْتَقَرّ لَّهَا } قال مستقرها تحت العرش فالمستقر اسم مكان والظاهر أن للشمس فيه قراراً حقيقة ، قال النووي : قال جماعة بظاهر الحديث ، قال الواحدي : وعلى هذا القول إذا غربت الشمس كل يوم استقرت تحت العرش إلى أن تطلع ، ثم قال النووي : وسجودها بتمييز وإدراك يخلقه الله تعالى فيها .
وذكر ابن حجر الهيتمي في «فتيه الحديثية » أن يسجودها تحت العرش إنما هو عند غروبها وحكى فيها عن بعضهم أنها تطلع من حيث جئت فتنزل من سماء إلى سماء حتى تطلع من المشرق وبنزولها إلى سماء الدنيا يطلع الفجر ، وفيها أيضاً أخرج أبو الشيخ عن عكرمة أنها إذا غربت دخلت نهراً تحت العرش فتسبح ربها حتى إذا أصبحت استعفت ربها عن الخروج فيقول سبحانه لم فتقول أنى إذا خرجت عبدت من دونك ، والسجود تحت العرش قد جاء أيضاً من روايات الإمامية ولهم في ذلك أخبار عجيبة منها أن الشمس عليها سبعون ألف كلاب وكل كلاب يجره سبعون ألف ملك من مشرقها إلى مغربها ثم ينزعون منها النور فتخر ساجدة تحت العرش ثم يسألون ربهم هل نلبسها لباس النور أم لا ؟ فيجابون بما يريده سبحانه ثم يسألونه عز وجل هل نطلعها من مشرقها أو مغربها ؟ فيأتيهم النداء بما يريد جل شأنه ثم يسألون عن مقدار الضوء فيأتيهم النداء بما يحتاج إليه الخلق من قصر النهار وطوله .
وفي الهيئة السنية للجلال السيوطي أخبار من هذا القبيل والصحيح من الإخبار قليل ، وليس لي على صحة إخبار الإمامية وأكثر ما في الهيئة السنية تعويل نعم ما تقدم عن أبي ذر مما لا كلام في صحته وماذا يقال في أبي ذر وصدق لهجته ، والأمر في ذلك مشكل إذا كان السجود والاستقرار كل ليلة تحت العرش سواء قيل إنها تطلع من سماء إلى سماء حتى تصل إليه فتسجد أن قيل إنها تستقر وتسجد تحته من غير طلوع فقد صرح إمام الحرمين وغيره بأنه لا خلاف في أنها تغرب عند قوم وتطلع على آخرين والليل يطول عند قوم ويقصر عند آخرين وبين الليل والنهار اختلاف ما في الطول والقصر عند خط الاستواء ، وفي بلاد بلغار قد يطلع الفجر قبل أن يغيب شفق الغروب ، وفي عرض تسعين لا تزال طالعة ما دامت في البروج الشمالي وغاربة ما دامت في البروج الجنوبية فالسنة نصفها ليل ونصفها نهار على ما فصل في موضعه ، والأدلة قائمة على أنها لا تسكن عند غروبها وإلا لكانت ساكنة عند طلوعها بناء على أن غروبها في أفق طلوع في غيره ، وأيضاً هي قائمة على أنها لا تفارق فلكها فكيف تطلع من سماء إلى سماء حتى تصل إلى العرش بل كون الأمر ليس كذلك أظهر من الشمس لا يحتاج إلى بيان أصلاً وكذا كونها تحت العرش دائماً بمعنى احتوائه عليها وكونها في جوفه كسائر الأفلاك التي فوق فلكها والتي تحته وقد سألت كثيراً من أجلة المعاصرين عن التوفيق بين ما سمعت من الأخبار الصحيحة وبين ما يقتضي خلافها من العيان والبرهان فلم أوفق لأن أفوز منهم بما يروي الغليل ويشفي العليل ، والذي يخطر بالبال في حل ذلك الإشكال والله تعالى أعلم بحقيقة الحال أن الشمس وكذا سائر الكواكب مدركة عاقلة كما ينبئ عن ذلك قوله تعالى الآتي : { كُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ يس : 40 ] حيث جيء بالفعل مسنداً إلى ضمير جمع العقلاء وقوله تعالى : { إِنّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا والشمس والقمر رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ } [ يوسف : 4 ] لنحو ما ذكر يدل وعليه ظاهر ما روى عن أبي ذر من أنها تسجد وتستأذن فإن المتبادر من الاستئذان ما يكون بلسان القال دون لسان الحال .
وخلق الله تعالى الإدراك والتمييز فيها حال السجود والاستئذان ثم سلبه عنها مما لا حاجة إلى التزامه بل هو بعيد غاية البعد والشواهد من الكتاب والسنة وكلام العترة على كونها ذات إدراك وتمييز مما لا تكاد تحصى كثرة وبعض يدل على ثبوت ذلك لها بالخصوص وبعضها يدل على ثبوته لها باعتبار دخولها في العموم أو بالمقايسة إذ لا قائل بالفرق ومتى كانت كذلك فلا يبعد أن يكون لها نفس ناطقة كنفس الإنسان بل صرح بعض الصوفية بكونها ذات نفس ناطقة كاملة جداً ، والحكماء أثبتوا النفس للفلك وصرح بعضهم بإثباتها للكواكب أيضاً وقالوا : كل ما في العالم العلوي من الكواكب والأفلاك الكلية والجزئية والتداوير حي ناطق والأنفس الناطقة الإنسانية إذا كانت قدسية قد تنسلخ عن الأبدان وتذهب متمثلة ظاهرة بصور أبدانها أو بصور أخرى كما يتمثل جبريل عليه السلام ويظهر بصورة دحية أو بصورة بعض الأعراب كما جاء في «صحيح الأخبار » حيث يشاء الله عز وجل مع بقاء نوع تعلق لها بالأبدان الأصلية يتأتى معه صدور الأفعال منها كما يحكى عن بعض الأولياء قدست أسرارهم أنهم يرون في وقت واحد في عدة مواضع وما ذاك إلا لقوة تجرد أنفسهم وغاية تقدسها فتمثل وتظهر في موضع وبدنها الأصلي في موضع آخر
. لا تقل دارها بشرقي نجد *** كل نجد للعامرية دار
وهذا أمر مقرر عند السادة الصوفية مشهور فيما بينهم وهو غير طي المسافة وإنكار من ينكر كلاً منهما عليهم مكابرة لا تصدر إلا من جاهل أو معاند ، وقد عجب العلامة التفتازاني من بعض فقهاء أهل السنة أي كابن مقاتل حيث حكم بالكفر على معتقد ما روى عن إبراهيم بن أدهم قدس سره أنهم رأوه بالبصرة يوم التروية ورؤي ذلك اليوم بمكة ، ومبناه زعم أن ذلك من جنس المعجزات الكبار وهو مما لا يثبت كرامة لولي وأنت تعلم أن المعتمد عندنا جواز ثبوت الكرامة للولي مطلقاً إلا فيما يثبت بالدليل عدم إمكانه كالإتيان بسورة مثل إحدى سور القرآن ، وقد أثبت غير واحد تمثل النفس وتطورها لنبينا صلى الله عليه وسلم بعد الوفاة وادعى أنه عليه الصلاة والسلام قد يرى في عدة مواضع في وقت واحد مع كونه في قبره الشريف يصلي ، وقد تقدم الكلام مستوفي في ذلك ، وصح أنه صلى الله عليه وسلم رأى موسى عليه السلام يصلي في قبره عند الكثيب الأحمر ورآه في السماء وجرى بينهما ما جرى في أمر الصلوات المفروضة ، وكونه عليه السلام عرج إلى السماء بجسده الذي كان في القبر بعد أن رآه النبي صلى الله عليه وسلم مما لم يقله أحد جزماً والقول به احتمال بعيد ، وقد رأى صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به جماعة من الأنبياء غير موسى عليه السلام في السموات مع أن قبورهم في الأرض ولم يقل أحد إنهم نقلوا منها إليها على قياس ما سمعت آنفاً ، وليس ذلك مما ادعى الحكميون استحالته من شغل النفس الواحدة أكثر من بدن واحد بل هو أمر وراءه كما لا يخفى على من نور الله تعالى بصيرته فيمكن أن يقال : إن للشمس نفساً مثل تلك الأنفس القدسية وأنها تنسلخ عن الجرم المشاهد المعروف مع بقاء نوع من التعلق لها به فتعرج إلى العرش فتسجد تحته بلا واسطة وتستقر هناك وتستأذن ولا ينافي ذلك سير هذا الجرم المعروف وعدم سكونه حسبما يدعيه أهل الهيئة وغيرهم ويكون ذلك إذا غربت ولجاوزت الأفق الحقيقي وانقطعت رؤية سكان المعمور من الأرض إياها ولا يضر فيه طلوعها إذ ذاك في عرض تسعين ونحوه لأن ما ذكرنا من كون السجود والسكون باعتبار النفس المنسلخة المتمثلة بما شاء الله تعالى لا ينافي سير الجرم المعروف بل لو كانا نصف النهار في خط الاستواء لم يضر أيضاً ، ويجوز أن يقال سجودها بعد غروبها عن أفق المدينة ولا يضر فيه كونها طالعة إذ ذاك في أفق آخر لما سمعت إلا أن الذي يغلب على الظن ما ذكر أولاً ، وعلى هذا الطرز يخرج ما يحكي أن الكعبة كانت تزور واحداً من الأولياء بأن يقال إن الكعبة حقيقة غير ما يعرفه العامة وهي باعتبار تلك الحقيقة تزور واحداً من الأولياء بأن يقال إن الكعبة حقيقة غير ما يعرفه العامة وهي باعتبار تلك الحقيقة تزول والناس يشاهدونها في مكانها أحجاراً مبنية .
وقد ذكر الشيخ الأكبر قدس سره في الفتوحات كلاماً طويلاً ظاهراً في أن لها حقيقة غير ما يعرفه العامة وفيه أنه كان بينه وبينها زمان مجاورته مراسلات وتوسلات ومعاتبة دائمة وأنه دون بعض ذلك في جزء سماه تاج الوسائل ومنهاج الرسائل وقد سأل نجم الدين عمر النسفي مفتي الإنس والجن عما يحكي أن الكعبة كانت تزور الخ هل يجوز القول به فقال : نقض العادة على سبيل الكرامة لأهل الولاية جائز عند أهل السنة وارتضاه العلامة السعد وغيره لكن لم أرض من خرج زيارتها على هذا الطرز ، وظاهر كلام بعضهم أن ذلك بذهاب الجسم المشاهد منها إلى المزور وانتقاله من مكانه ، ففي عدة الفتاوي والولوالجية وغيرهما لو ذهبت الكعبة لزيارة بعض الأولياء فالصلاة إلى هوائها ، ويمكن أن يكون أريد به غير ما يحكى فإنه والله تعالى أعلم لم يكن بانتقال الجسم المشاهد ثم الجمع بين الحديث في الشمس وبين ما يقتضيه الحس وكلام أهل الهيئة بهذا الوجه لم أره لأحد بيد أني رأيت في بعض مؤلفات عصرينا الرشتي رئيس الطائفة الإمامية الكشفية أن سجدة الشمس عند غروبها تحت العرش عبارة عن رفع الآنية ونزع جلباب الماهية وهو عندي نوع من الرطانة لا يفهمه من لا خبرة له باصطلاحاته ولو كان ذا فطانة : وقال في موضع آخر بعد أن ذكر حديث الكلاليب السابق إن ذلك لا ينافي كلام أهل الهيئة ولا بقدر سم الخياط ولم يبين وجه عدم المنافاة مع أنها أظهر من الشمس معتذراً بأن الكلام فيه طويل ولا أظنه لو كان آتياً به إلا من ذل القبيل ، وهذا ما عندي فليتأمل والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل .
وقرأ عبد الله . وابن عباس . وزين العابدين . وابنه الباقر . وعكرمة . وعطاء بن أبي رباح { لا مُّسْتَقِرٌّ لَهَا } بلا نافية للجنس وبناء { مُّسْتَقِرٌّ } على الفتح فتقتضي انتفاء كل مستقر حقيقي لجرمها المشاهد وذلك في الدنيا أي هي تجري في الدنيا دائماً لا تستقر . وقرأ ابن أبي عبلة بلا أيضاً إلا أنه رفع { مُّسْتَقِرٌّ } ونونه على إعمالها إعمال ليس كما في قوله
: تعز فلا شيء على الأرض باقيا *** ولا وزر مما قضى الله واقياً {
ذلك } إشارة إلى الجري المفهوم من { تَجْرِى } أي ذلك الجري البديع الشأن المنطوي على الحكم الرائقة التي تحار في فهمها العقول والأذهان { تَقْدِيرُ العزيز } الغالب بقدرتها على كل مقدور { العليم } المحيط علمه بكل معلوم ، وذكر بعضهم في حكمة جريها حتى تسجد كل ليلة تحت العرش ما يقتضيه الخبر السابق تجدد اكتساب النور من العرش ويترتب عليه في عال الطبيعة والعناصر ما يترتب وباكتسابها النور من العرش صرح به غير واحد ، ومن العجيب ما ذكره الرشتي أنها تستمد النور من ظاهر العرش وتمد فلك القمر ومن باطن العرش وتمد فلك زحل وتستمد من ظاهر الكرسي وتمد فلك عطارد ومن باطنه وتمد فلك المشتري وتستمد من ظاهر تقاطع نقطتي المنطقتين وتمد فلك الزهرة ومن باطنه وتمد فلك المريخ ، وليت شعري من أين استمد فقال ما قال وذلك مما لم نجد فيه نقلاً ولا نظن أنه مر بخيال ، وقال الشيخ الأكبر : قدس سره إن نور الشمس ما هو من حيث عينها بل هو من تجل دائم لها من اسمه تعالى النور ونور سائر السيارات من نورها وهو في الحقيقة من تجلي اسمه سبحانه النور فما ثم إلا نوره عز وجل . وادعى كثير من أجلة المحققين أن نور جميع الكواكب ثوابتها وسياراتها مستفاد من ضوء الشمس وهو مفاض عليها من الفياض المطلق جل جلاله وعم نواله . وفي الآية رد على القائلين بأن الشمس ساكنة وهي مركز العالم والكواكب والأرض كرات دائرة عليها .
وكذلك نزيل هذه الظلمة ، التي عمتهم وشملتهم ، فتطلع الشمس ، فتضيء الأقطار ، وينتشر الخلق لمعاشهم ومصالحهم ، ولهذا قال : { وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا } [ أي : دائما تجري لمستقر لها ] قدره اللّه لها ، لا تتعداه ، ولا تقصر عنه ، وليس لها تصرف في نفسها ، ولا استعصاء على قدرة اللّه تعالى . { ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ } الذي بعزته دبر هذه المخلوقات العظيمة ، بأكمل تدبير ، وأحسن نظام . { الْعَلِيمُ } الذي بعلمه ، جعلها مصالح لعباده ، ومنافع في دينهم ودنياهم .
قوله تعالى : { والشمس تجري لمستقر لها } أي : إلى مستقر لها ، قيل : إلى انتهاء سيرها عند انقضاء الدنيا وقيام الساعة . وقيل : إنها تسير حتى تنتهي إلى أبعد مغاربها ، ثم ترجع فذلك مستقرها ؛ لأنها لا تجاوزها . وقيل : مستقرها نهاية ارتفاعها في السماء في الصيف ، ونهاية هبوطها في الشتاء ، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : مستقرها تحت العرش .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن اسماعيل ، حدثنا الحميدي ، أنبأنا وكيع عن الأعمش ، عن إبراهيم التيمي ، عن أبيه عن أبي ذر قال : " سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله عز وجل : { والشمس تجري لمستقر لها } قال : مستقرها تحت العرش " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا الحميدي ، أنبأنا وكيع ، حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن أبيه ، عن أبي ذر قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر حين غربت الشمس : أتدري أين تذهب ؟قال : قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش ، فتستأذن فيؤذن لها ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها ، وتستأذن فلا يؤذن لها ، فيقال لها : ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها ، فذلك قوله تعالى : { والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم } وروى عمرو بن دينار عن ابن عباس : { والشمس تجري لا مستقر لها } وهي قراءة ابن مسعود ، أي : لا قرار لها ولا وقوف . فهي جارية أبداً
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{لمستقر لها}: لوقت لها إلى يوم القيامة.
{ذلك}: الذي ذكر من الليل والنهار، والشمس والقمر يجري في ملكه بما قدر من أمرهما وخلقهما {تقدير العزيز العليم}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله تعالى: {والشّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرّ لَهَا} يقول تعالى ذكره: والشمس تجري لموضع قرارها، بمعنى: إلى موضع قرارها...
وقوله:"ذلكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ" يقول: هذا الذي وصفنا من جري الشمس لمستقرّ لها، تقدير العزيز في انتقامه من أعدائه، العليم بمصالح خلقه، وغير ذلك من الأشياء كلها، لا يخفى عليه خافية.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{والشمس تجري لمستقرٍّ لها}... أي لنهاية لها وغاية.
{ذلك تقدير العزيز العليم} العزيز: الذي لا يعجزه شيء، ويعز من أن يغلبه شيء.
والعليم: الذي يعز من أن يخفى عليه شيء.
وقال بعضهم: العزيز الذي أظهر أثر الذُّل في غيره، ولا يرى أحد إلا وأثر الذّل والحاجة فيه ظاهر.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
{ذلك تقدير العزيز العليم} أي: من قدر الشمس على ذلك إلا القادر الذي لا يضام، العالم بما يفعله.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
على ترتيبٍ معلوم لا يتفاوت في فصول السنة، وكل يومٍ لها مشرِقٌ جديد ولها مغرِبٌ جديد.. وكل هذا بتقدير العزيز العليم.
{والشمس تجري لمستقر لها} إشارة إلى نعمة النهار بعد الليل كأنه تعالى لما قال: {وآية لهم الليل نسلخ منه النهار} ذكر أن الشمس تجري فتطلع عند انقضاء الليل فيعود النهار بمنافعه.
نقول المختار هو أن المراد من المستقر المكان أي تجري لبلوغ مستقرها وهو غاية الارتفاع والانخفاض، فإن ذلك يشمل المشارق والمغارب والمجرى الذي لا يختلف والزمان وهو السنة والليل فهو أتم فائدة.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان هذا الجري على نظام لا يختل على مر السنين وتعاقب الأحقاب تكل الأوهام عن استخراجه، وتتحير الأفهام في استنباطه، عظمه بقوله: {ذلك} أي الأمر الباهر للعقول؛ وزاد في عظمه بصيغة التفعيل في قوله: {تقدير} وأكد ذلك لافتاً القول عن مطلق مظهر العظمة إلى تخصيصه بصفتي العزة والعلم تعظيماً لهذه الآية تنبيهاً على أنها أكبر آيات السماء فقال: {العزيز} أي الذي لا يقدر أحد في شيء من أمره على نوع مغالبة، وهو غالب على كل شيء.
{العليم} أي المحيط علماً بكل شيء الذي يدبر الأمر، فيطرد على نظام عجيب ونهج بديع لا يعتريه وهن ولا يلحقه يوماً نوع خلل، إلى أن يريد سبحانه إبادة هذا الكون فتسكن حركاته وتفنى موجوداته...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
الشمس تدور حول نفسها. وكان المظنون أنها ثابتة في موضعها الذي تدور فيه حول نفسها. ولكن عرف أخيراً أنها ليست مستقرة في مكانها. إنما هي تجري. تجري فعلاً. تجري في اتجاه واحد في الفضاء الكوني الهائل بسرعة حسبها الفلكيون باثني عشر ميلاً في الثانية! والله -ربها الخبير بها وبجريانها وبمصيرها- يقول: إنها تجري لمستقر لها. هذا المستقر الذي ستنتهي إليه لا يعلمه إلا هو سبحانه. ولا يعلم موعده سواه. وحين نتصور ان حجم هذه الشمس يبلغ نحو مليون ضعف لحجم أرضنا هذه. وأن هذه الكتلة الهائلة تتحرك وتجري في الفضاء، لا يسندها شيء، ندرك طرفاً من صفة القدرة التي تصرف هذا الوجود عن قوة وعن علم: (ذلك تقدير العزيز العليم)...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{الشمس} يجوز أن يكون معطوفاً على {اللَّيْلُ} من قوله: {وءايَةٌ لهم اللَّيْلُ} [يس: 37] عطفَ مفرد على مفرد ويقدر له خبر مماثل لخبر الليل، والتقدير: والشمس آية لهم، وتكون جملة {تَجْرِي} حالاً من {الشمس} مثل جملة {نَسْلَخُ منه النَّهَارَ} [يس: 37].
ويجوز أن يكون عطفَ جملة على جملة ويكون قوله: {تَجْرِي} خبراً عن {الشمس}. وأيَّاما كان فهو تفصيل لإِجمال جملة {وءاية لهم الليل نسلخ منه النهار} [يس: 37] الخ كما دل عليه قوله الآتي: {ولا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} [يس: 40]، وكان مقتضى الظاهر من كونه تفصيلاً أن لا يعطف فيقال: الشمسُ تجري لمستقر لها، فخولف مقتضى الظاهر؛ لأن في هذا التفصيل آيةً خاصة وهي آية سير الشمس والقمر.
وقدم التنبيه على آية الليل والنهار لما ذكرناه هنالك؛ فكانت آية الشمس المذكورة هنا مراداً بها دليل آخر على عظيم صنع الله تعالى وهو نظام الفصول.
وجملة {تَجْرِي لِمُسْتقر لها} يحتمل الوجوه التي ذكرناها في جملة {أحييناها} [يس: 33] من كونها حالاً أو بياناً لجملة {وءَايَةٌ لهُم} [يس: 37] أو بدل اشتمال من {وءَايَةٌ}.
والجري حقيقته: السير السريع وهو لذوات الأرْجل، وأطلق مجازاً على تنقل الجسم من مكان إلى مكان تنقلاً سريعاً بالنسبة لتنقل أمثال ذلك الجسم، وغلب هذا الإِطلاق فساوى الحقيقة وأريد به السير في مسافات متباعدة جِدَّ التباعد فتقطعها في مدة قصيرة بالنسبة لتباعد الأرض حول الشمس. وهذا استدلال بآثار ذلك السير المعروفةِ للناس معرفةً إجمالية بما يحسبون من الوقت وامتداد الليل والنهار وهي المعرفة لأهل المعرفة بمراقبة أحوالها من خاصة الناس وهم الذين يرقبون منازل تنقلها المسماة بالبروج الاثني عشر، والمعروفةِ لأهل العلم بالهيئة تفصيلاً واستدلالاً وكل هؤلاء مخاطبون بالاعتبار بما بلغه علمهم.
والمستقر: مكان الاستقرار، أي القرار أو زمانه، فالسين والتاء فيه للتأكيد مثل: استجاب بمعنى أجاب. واللام في لِمُستَقَرٍ} يجوز أن تكون لام التعليل على ظاهرها، أي تجري لأجل أن تستقر، أي لأجل أن ينتهي جريها كما ينتهي سير المسافر إذا بلغ إلى مكانه فاستقر فيه، وهو متعلق ب {تجري} على أنه نهاية له؛ لأن سير الشمس لما كانت نهايته انقطاعَه نُزّل الانقطاع عنه منزلة العلة كما يقال: « لِدُوا للموت وابنوا للخراب».
وتنزيل النهاية منزلة العلة مستعمل في الكلام، ومنه قوله تعالى: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً} [القصص: 8]. والمعنى: أنها تسير سيراً دائباً مشاهداً إلى أن تبلغ الاحتجاب عن الأنظار.
ويجوز أن تكون اللام بمعنى (إلى)، أي تجري إلى مكان استقرارها وهو مكان الغروب، شبه غروبها عن الأبصار بالمستقَر والمأوَى الذي يأوي إليه المرء في آخر النهار بعد الأعمال...
واعلم أن قوله: {لِمُستقر لها} إدماج للتعليم في التذكير وليس من آية الشمس للناس؛ لأن الناس لا يشعرون به فهو كقوله تعالى: {ليقضى أجل مسمى} [الأنعام: 60] عقب الامتنان بقوله: {وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم} [الأنعام: 60].
الشمس هي آلة الضوء الذي نسلخه عن الليل، ومعنى {تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَـا} أي: لشيء ولغاية تستقر عندها...
فمعنى {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَـا} أي: الشمس بمجموعتها، وما يدور حولها من كواكب تجري إلى نجم يسميه علماء الفلك (الفيجا) والعرب تسميه (النسر) الواقع... ومعنى {لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَـا} المستقر إما أن يكون نهاية العام، ثم تبدأ عاماً جديداً، وتشرق من أول مطلع لها، أو أن المستقر آخر عمرها ونهايتها حيث تنفض وتُكوَّر وتنتهي.
لكن، ما الذي يحرك هذه المجموعة الشمسية؟ وكيف تجري بهذه السرعة؟ ونحن نعلم أن الحركة تحتاج إلى طاقة تمدها، فما الطاقة التي تحرك هذه المجموعة بهذه الصورة وهذا الاستمرار؟ قالوا: إنها تجري، لأن الله خلقها على هيئة الحركة والجريان، لذلك تجري لا يُوقفِها شيء، وستظل جارية إلى أن يشاء الله، فلا يلزمها إذن طاقة تحركها، ومثال ذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَٰوَٰتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ} [فاطر: 41].
وفي علم الحركة قانون اسمه قانون العطالة، وهو أن كل متحرك يظل على حركته، إلى أنْ تُوقفه، وكل ساكن يظلُّ على سكونه إلى أنْ تُحركه، وهذا القانون فسَّر لنا حركة الأقمار الصناعية ومراكب الفضاء التي تظل متحركة لفترات طويلة.
ونتساءل: ما الفترة التي تحركها طوال هذه المدة؟ إنها تتحرك؛ لأنها وضعت في مجالها على هيئة الحركة فتظل متحركة لا يُوقِفها شيء لأنها فوق مجال الجاذبية. إذن: كل الذي احتاجته هذه الآلات من الطاقة هي طاقة الصاروخ الذي يحملها، إلى أنْ يعبر بها مجال الجاذبية الأرضية، أما هي فتظل دائرة بلا طاقة وبلا وقود.
ثم يُذكِّرنا الحق سبحانه بفضله في هذه الحركة، فيقول {ذَلِكَ} أي: ما سبق من حركة الليل والنهار وجريان الشمس {تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} يعني: كل هذا الجريان وكل هذه الحركة إنما هما بتقدير الله، وكلمة {الْعَزِيزِ} هنا مناسبة تماماً، فالمعنى أنه تعالى العزيز الذي لا تغلبه القوانين؛ لأنه سبحانه خالق القوانين.