اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَٱلشَّمۡسُ تَجۡرِي لِمُسۡتَقَرّٖ لَّهَاۚ ذَٰلِكَ تَقۡدِيرُ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡعَلِيمِ} (38)

قوله : { والشمس تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا } يحتمل أن تكون الواو للعطف على «اللَّيْل » تقديره : " وآيَةٌ لَهُم اللَّيلُ نسلخ والشمسُ تَجْري والقمر قدرناه » فهي كلها آية وقوله : «والشمس تجري » إشارة إلى سبب سلخ النهار فإنها تجري لمستقر لها بأمر الله فمغرِب الشمس سالخ النّهار فذكر السبب بين صحة الدعوة ويحتمل أن يقال بأن قوله : { والشمس تجري لمستقر لها } إشارة إلى نعمة النهار بعد الليل كأنه تعالى لما قال : { وآية لهم الليل نسلخ منه النهار } ذكر أن الشمس تجري فتطلع عند انقضاء الليل فيعود النهار لمنافعه{[46187]} .

قال المفسرون : إن الأصل هي الظلمة والنهار داخل عليها فإذا غربت الشمس سلخ النهار من الليل فتظهر الظلمة{[46188]} .

قوله : «لمستقر » قيل : في الكلام حذف مضاف تقديره تَجْري لِمَجْرى{[46189]} مُسْتَقَرٍّ لها وعلى هذا فاللام للعلة أي : لأجل جري مستقر لها . والصحيح أنه{[46190]} لا حذف وأن اللام بمعنى «إلى »{[46191]} . ويدل على ذلك قراءة بعضهم «إلَى مُسْتَقَرٍّ »{[46192]} . وقرأ عبد الله وابن عباس وعكرمة وزيْن العابدين{[46193]} وابنُه الباقر{[46194]} والصَّادِق{[46195]} ابن الباقر : لاَ مُسْتَقَّر بلا النافية للجنس وبناء «مُسْتَقَر » على الفتح و «لها » الخبر{[46196]} . وابن عبلة لا مُسْتَقَرٌّ بلا العاملة عمل ليس «فمستقر » اسمها و «لها » في محل نصب خبرها{[46197]} ، كقوله :

4182- تَعَزَّ فَلاَ شَيْءٌ عَلَى الأَرْضِ بَاقِيا . . . وَلاَ وَزَرٌ مِمَّا قَضَى اللَّهُ وَاقِيَا{[46198]}

والمراد ( بذلك ) أنها لا تستقر في الدنيا بل هي دائمة الجَرَيان وذلك إشارة إلى جريها المذكور .

فصل :

قيل : المراد بالمستقر يوم القيامة فعندها تستقر ولا يبقى لها حركة{[46199]} . وقيل : تَسِيرُ حتَّى تَنْتَهِيَ إلى أبعد مغاربها فلا تتجاوزه ثم ترجع{[46200]} . وقيل : الليل{[46201]} . وقيل : نهاية ارتفاعها{[46202]} في الصيف ونهاية هبوطها في الشتاء . وروى أبو ذَرّ قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر حين غربَتِ الشمس : «تدري أين تذهب » ؟ قلت : الله ورسوله أعلم قال : فإنها{[46203]} تذهب حتى تسجُدَ تحت العرش فتستأذنَ فيؤذَنَ لها ويوشك أن تسجد فلا يقبل ( منها ){[46204]} وتستأذن فلا يؤذن لها يقال لها : ارْجِعِي من حيث جئت فتطلع من مغربها فذلك قوله : { والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم } . وروى عَمْرُو بن{[46205]} دِينَار عن ابن عباس والشمس ( تجري ){[46206]} لا مستقرّ لها أي : لا قرار لها ولا وقوف وهي جارية أبداً .

قوله : { ذَلِكَ } إشارة إلى جَرْي الشَّمْس أي : ذلك الجري تقدير الله ، ويحتمل أن يكون إشارة إلى المستقر أي : ذلك المستقر تقدير الله العزيز الغالب والعليم الكامل العلم أي : قادر على إجرائها على الوجه الأنفع وذلك من وجوه :

الأول : أن الشمس لو مرّت كل يوم على مُسَامَتَةٍ{[46207]} واحدة لاحترقت ( الأرض ){[46208]} التي تُسَامِتُها بمرورها عليها كل يوم وبقي الجمود مستولياً على الأماكن الأُخَر فقدر الله لها بُعْداً لتجمع{[46209]} الرطوبات في باطن الأرض والإسخان في زمان الشتاء ثم قدر قربها بتدريج ليخرج النبات والثمار من الأرض والشجر ويَنْضُجَ ويَجفَّ .

الثاني : قدر لها في كل يوم طُلُوعاً وفي كل ليلة غروباً ، لئلا تَكِلَّ القوى والأبصار بالسهر والتعب ولئلا يَخْرُبَ العالم بترك العِمَارة{[46210]} بسبب الظلمة الدائمة .

الثالث : جعل سيرها أبطأ من سير القمر وأسرع من سير زُحَلَ لأنها كاملة النور فلو كانت بطيئةً السير لدامتْ زماناً كثيراً في مُسَامَتَةِ شيء واحد فتحرقه ولو كانت سريعة السير لما حصل لها لبث بقَدْر ما ينضج{[46211]} من الثمار في بُقْعَةٍ وَاحِدَةٍ{[46212]} .


[46187]:في "ب" بمنافعه وهو الموافق لما في الرازي.
[46188]:وانظر هذا كله في تفسير الإمام الفخر الرازي 26/70 و71.
[46189]:كذا هنا من "ب" وفي "أ" مجرى. وهذا الكلام نقله المؤلف عن أبي حيان الذي نقله عن أبي عبد الله الرازي. انظر: البحر 7/336 والدر المصون 4/517.
[46190]:في "ب" أن لا حذف بدون ضمير.
[46191]:المرجع الأخير السابق.
[46192]:نقلها صاحب الكشاف في كشافه 3/322 بدون نسبة وكذلك أبو حيان في بحره 7/336 وانظر كذلك مختصر ابن خالويه 126. قال: "والشمس تجري إلى مستقرها" في بعض المصاحف.
[46193]:علي بن حسين بن علي عرض على أبيه الحسين وعرض عليه ابنه الحسين. غاية النهاية 1/534.
[46194]:محمد بن علي السابق أبو جعفر عرض على أبيه. توفي سنة 118 هـ. الغاية 2/202.
[46195]:جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي عرض على آبائه. توفي سنة 148 هـ. المرجع السابق 1/196-197.
[46196]:الكشاف والبحر المرجعان السابقان. وانظر المحتسب 2/212 وهي من الشواذ وحسنها الفراء وقال: "من قال: لا مستقر لها أو لا مستقر لها فهما وجهان حسنان" المعاني 2/377.
[46197]:المراجع السابقة.
[46198]:من الطويل وهو مما جهل شاعره. والوزر الملجأ. والشاهد "فلا شيء" و "لا وزر" حيث أعمل لا عمل ليس في موضعين. وقد تقدم.
[46199]:هذا قول مقاتل.
[46200]:وهذا قول مجاهد. وانظر: زاد المسير 7/17و 18.
[46201]:قالهما الرازي 26/71.
[46202]:قالها الرازي 26/71.
[46203]:كذا كما رواه الترميذي وحسنه فيها نقله عنه الإمام القرطبي في الجامع 15/27 فإنها وفي "أ" إنها فالتصحيح من الحديث و "ب".
[46204]:سقط من "ب".
[46205]:هو قهرمان آل الزبير شعيب أبو يحيى البصري عن سالم وعن جعفر بن سليمان. انظر: خلاصة الكمال 288.
[46206]:سقط من "ب".
[46207]:أي طريقة. وفي الرازي: تمر على مسامتة شيء لم تمر من أمسها على تلك المسامتة ولو قدر الله مرورها على مسامتة واحدة لاحترقت.
[46208]:سقط من "ب".
[46209]:في "أ" لتجتمع وما هنا في "ب" موافق للرازي.
[46210]:في "ب" العبادة.
[46211]:في "ب" يتضح.
[46212]:وانظر: تفسير الإمام الفخر 26/72.