فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَٱلشَّمۡسُ تَجۡرِي لِمُسۡتَقَرّٖ لَّهَاۚ ذَٰلِكَ تَقۡدِيرُ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡعَلِيمِ} (38)

{ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا } يحتمل أن تكون الواو للعطف على الليل والتقدير : وآية لهم الشمس ، ويجوز أن تكون ابتدائية ، والشمس مبتدأ وما بعدها الخبر ، ويكون الكلام مستأنفا مشتملا على ذكر آية مستقلة . قيل : وفي الكلام حذف ، والتقدير تجري لمجرى مستقر لها أي تنتهي في سيرها لأجل مستقر لها .

وقيل : اللام بمعنى إلى ، قيل : والمراد بالمستقر يوم القيامة فعنده تستقر فلا تبقى لها حركة ، وقيل : مستقرها هو أبعد ما تنتهي إليه ولا تجاوزه ، وقيل : نهاية ارتفاعها في الصيف ، ونهاية هبوطها في الشتاء ، وقيل : مستقرها تحت العرش لأنها تذهب إلى هنالك فتسجد فتستأذن في الرجوع فيؤذن لها ، وهذا هو الراجح .

وقال الحسن : إن للشمس في السنة ثلثمائة وستين مطلعا تنزل في كل يوم مطلعا ، لا تنزل إلى الحول ، فهي تجري في تلك المنازل وهو مستقرها .

وقيل : إن الشمس في الليل تسير وتشرق على عالم آخر من أهل الأرض ، وإن كنا لا نعرفه{[1396]} ، ويؤيد هذا القول ما قاله الفقهاء في باب المواقيت . كالشمس الرملي من أن الأوقات الخمسة تختلف باختلاف الجهات والنواحي فقد يكون المغرب عندنا عصرا عند آخرين ، ويكون الظهر صبحا عند آخرين ، وهكذا ، وقيل غير ذلك ، وقرئ لا مستقر لها بلا التي لنفي الجنس ، وبناء مستقر على الفتح وقرئ لا مستقر ، بلا التي بمعنى ليس ، ومستقر اسمها ولها خبرها .

{ ذَلِكَ } أي ذلك الجري على ذلك الحساب الذي يكل النظر عن استخراجه وتتحير الأفهام عن استنباطه { تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ } أي الغالب القاهر بقدرته على كل مقدور { الْعَلِيمِ } أي المحيط علمه بكل شيء ، ويحتمل أن تكون الإشارة راجعة إلى المستقر أي ذلك المستقر تقدير الله .

أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي ذر قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله : { والشمس تجري لمستقر لها } قال : مستقرها تحت العرش{[1397]} .

وفي لفظ للبخاري وغيره من حديثه قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد عند غروب الشمس فقال : يا أبا ذر أتدري أين تغرب الشمس ؟ قلت الله ورسوله أعلم . قال : إنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فذلك قوله : والشمس تجري لمستقر لها .

وفي لفظ من حديثه أيضا عند أحمد والترمذي والنسائي وغيرهم ، قال : ( يا أبا ذر أتدري أين تذهب هذه ؟ قلت الله ورسوله أعلم قال : فإنها تذهب حتى تسجد بين يدي ربها فتستأذن في الرجوع فيأذن لها ، وكأنها قد قيل لها : اطلعي من حيث جئت فتطلع من مغربها ، ثم قرأ ذلك مستقر لها ، وذلك قراءة عبد الله وأخرج الترمذي والنسائي وغيرهما من قول ابن عمر نحوه .

قال النووي : اختلف المفسرون فيه ، فقال جماعة بظاهر الحديث ، قال الواحدي : فعلى هذا القول إذا غربت الشمس كل يوم استقرت تحت العرش إلى أن تطلع ، وقيل : تجري إلى مستقر لها وأصل لا تتعداه وعلى هذا فمستقرها انتهاء سيرها عند انقضاء الدنيا ، وأما سجود الشمس فهو تمييز وإدراك يخلقه الله فيها والله وأعلم .


[1396]:ينبغي التعليق على قوله: وقيل: إن الشمس في الليل تسير وتشرق على عالم آخر من أهل الأرض وأن كنا لا نعرفه.......الخ......بالقول: إن الشمس تشرق على عالم آخر حينما تغيب عنا، ولكن لا تسير الشمس بل بسير ودوران الأرض نفسها، كما أثبت العلم حديثا.
[1397]:رواه البخاري في صحيحه 6/ 214 و 8/416 و 13/350 ومسلم 1/139 والترمذي 2/155 وقال: هذا حديث حسن صحيح والسيوطي في الدر 5/263 وللنووي في شرح مسلم 2/195 كلام فليراجع هناك.