روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي [إخفاء]  
{قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا ٱثۡنَتَيۡنِ وَأَحۡيَيۡتَنَا ٱثۡنَتَيۡنِ فَٱعۡتَرَفۡنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلۡ إِلَىٰ خُرُوجٖ مِّن سَبِيلٖ} (11)

{ قَالُواْ رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين } صفتان لمصدري الفعلين ، والتقدير امتنا امتاتتين اثنتين وأحييتنا إحياءتين اثنتين .

وجوز كون المصدرين موتتين وحياتين وهما إما مصدران للفعلين المذكورين أيضاً بحذف الزوائد أو مصدارن لفعلين آخرين يدل عليهما المذكوران فإن الإماتة والإحياء ينبئان عن الموت والحياة حتماً فكأنه أمتنا فمتنا موتتين اثنتين على طرز قوله

: وعض زمان يا ابن مروان لم يدع *** من المال إلا مسحت أو مجلف

أي لم يدع فلم يبق إلا مسحت الخ ، واختلف في المراد بذلك فقيل : أرادوا بالاماتة الأولى خلقهم أمواتاً وبالثانية إماتتهم عند انقضاء آجالهم وبالإحياءة الأولى إحياءتهم بنفخ الروح فيهم وهم في الأرحام وبالثانية إحياءتهم بإعادة أرواحهم إلى أبدانهم للبعث . وأخرج هذا ابن جرير . وابن أبي حاتم . وابن مردويه عن ابن عباس وجماعة من الحاكم وصححه عن ابن مسعود ، وعبد بن حميد . وابن المنذر عن قتادة ، وروى أيضاً عن الضحاك وأبي مالك وجعلوا ذلك نظير آية البقرة { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنتُمْ أمواتا فأحياكم ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } [ البقرة : 28 ] والإماتة إن كانت حقيقة في جعل الشيء عادم الحياة سبق بحياة أم لا فالأمر ظاهر وإن كانت حقيقة في تصيير الحياة معدومة بعد أن كانت موجودة كما هو ظاهر كلامهم حيث قالوا : إن صيغة الأفعال وصيغة التفعيل موضوعتان للتصيير أي النقل من حال إلى حال ففي إطلاقها على ما عدا إماته أولى خفاء لاقتضاء ذلك سبق الحياة ولا سبق فيما ذكر ، ووجه بأن ذلك من باب المجاز كما قرروه في ضيق فم الركية ووسع أسفلها قالوا : إن الصانع إذا اختار أحد الجائزين وهو متمكن منهما على السواء فقد صرف المصنوع الجائز عن الآخرة فجعل صرفه عنه كنقله منه يعني أنه تجوز بالأفعال أو التفعيل الدال على التصيير وهو النقل من حال إلى حال أخرى عن لازمه وهو الصرف عما في حيز الإمكان ، ويتبعه جعل الممكن الذي تجوز إرادته بمنزلة الواقع ، وكذا جعل الأمر في ضيق فم الركية مثلاً بإنشائه على الحال الثانية بمنزلة أمره بنقله عن غيرها ، ولذا جعله بعض الأجلة بمنزلة الاستعارة بالكناية فيكون مجازاً مرسلاً مستتبعاً للاستعارة بالكناية ، فالمراد بالاماتة هناك الصرف لا النقل ، وذكر بعضهم أنه لا بد من القول بعموم المجاز لئلا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز في الآية استعمال المشترك في معنييه بناء على زعم أن الصيغة مشتركة بين الصرف والنقل ، ومن أجاز ما ذكر لم يحتج للقول بذلك . وفي «الكشف » آثر جار الله أن إحدى الإماتتين ما ذكر في قوله تعالى : { وَكُنتُمْ أمواتا فأحياكم } [ البقرة : 28 ] وإطلاقها عليه من باب المجاز وهو مجاز مستعمل في القرآن ، وقد ذكر وجه التجوز ، وتحقيق ذلك يبتني على حرف واحد وهو أن الإحياء معناه جعل الشيء حياً فالمادة الترابية أو النطفية إذا أفيضت عليها الحياة صدق أنها صارت ذات حياة على الحقيقة إذ لا يحتاج إلى سبق موت على الحقيقة بل إلى سبق عدم الحياة فهناك إحياء حقيقة ، وأما الإماتة فإن جعل بين الموت والحياة التقابل المشهوري استدعى المسبوقية بالحياة فلا تصح الإماتة قبلها حقيقة ، وإن جعل التقابل الحقيقي صحت ، لكن الظاهر في الاستعمال بحسب عرفي العرب والعجم أنه مشهوري انتهى ، وأراد بالمشهوري والحقيقي ما ذكروه في التقابل بالعدم والملكة فإنهم قالوا : المتقابلان بالعدم والملكة وهما أمران يكون أحدهما وجودياً والآخر عدم ذلك الوجودي في موضوع قابل له إن اعتبر قبوله بحسب شخصه في وقت اتصافه بالأمر العدمي فهو العدم والملكة المشهوران كالكوسجية فإنها عدم اللحية عما من شأنه الوقت أن يكون ملتحياً فإن الصبي لا يقال له كوسج ، وإن اعتبر قبوله أعم من ذلك بأن لا يقيد بذلك الوقت كعدم اللحية عن الطفل أو يعتبر قبوله بحسب نوعه كالعمى للأكمه أو جنسه القريب كالعمى للعقرب أو البعيد كعدم الحركة الإرادية عن الجبل فإن جنسه البعيد أعني الجسم الذي هو فوق الجماد قابل للحركة الإرادية فهو العدم والملكة الحقيقيات لكن في بناء اقتضاء المسبوقية بالحياة وعدمه على ذلك خفاء ، وإن ضم إليه التعبير بصيغة الماضي كما لا يخفى على المتدبر .

ثم وجه تسبب الإماتة مرتين والإحياء كذلك لقوله تعالى : { فاعترفنا بِذُنُوبِنَا } أنهم قد أنكروا البعث فكفروا وتبع ذلك من الذنوب ما لا يحصى لأن من لم يخش العاقبة تخرق في المعاصي فلما رأوا الإماتة والإحياء قد تكرر عليهم علموا بأن الله تعالى قادر على الإعادة قدرته على الإنشاء فاعترفوا بذنوبهم التي اقترفوها من إنكار البعث وما تبعه من معاصيهم .

وقال السدي : أرادوا بالإماتة الأولى إماتتهم عند انقضاء آجالهم وبالإحياءة الأولى إحياءتهم في القبر للسؤال وبالإماتة الثانية إماتتهم بعد هذه الإحياءة إلى قيام الساعة وبالإحياءة الثانية إحياءتهم للبعث ، واعترض عليه بأنه يلزم هذا القائل ثلاث إحياءات فكان ينبغي أن يكون المنزل أحييتنا ثلاثاً فإن ادعى عدم الاعتداد بالإحياءة المعروفة وهي التي كانت في الدنيا لسرعة انصرامها وانقطاع آثارها وأحكامها لزمه أن لا يعتد بالإماتة بعدها .

وقال بعض المحققين في الانتصار له : إن مراد الكفار من هذا القول اعترافهم بما كانوا ينكرونه في الدنيا ويكذبون الأنبياء حين كانوا يدعونهم إلى الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر لأن قولهم هذا كالجواب عن النداء في قوله تعالى : { يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ الله } [ غافر : 10 ] كأنهم أجابوا أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام دعونا وكنا نعتقد أن لا حياة بعد الموت فالآن نعترف بالموتين والحياتين لما قاسينا من شدائدهما وأحوالهما فالذنب المعترف به تكذيب البعث ، ولهذا جعل مرتباً على القول وإنما ذكروا الإماتتين ليذكروا الإحياءين إذ كلتا الحياتين كانتا منكرتين عندهم دون الحياة المعروفة ومقام هذه الآية غير مقام قوله تعالى : { وَكُنتُمْ أمواتا فأحياكم } [ البقرة : 28 ] فإن هذه كما سمعت لبيان الإقرار والاعتراف منهم في الآخرة بما أنكروه في الدنيا وتلك لبيان الامتنان الذي يستدعي شكر المنعم أو لبيان الدلائل لتصرفهم عن الكفر .

ويرجح هذا القول إن أمر إطلاق الاماتة على كلتا الإماتتين ظاهر . وتعقبه في «الكشف » بأنه لا قرينة في اللفظ تدل على خروج الإحياء الأول مع أن الإطلاق عليه أظهر والمقابلة تنادي على دخوله . ويكفي في الاعتراف إثبات إحياء واحد منهما غير الأول ، وقيل : إنما قالوا : { أَمَتَّنَا اثنتين } لأنهما نوعان إحياء البعث وإحياء قبله ، ثم إحياء البعث قسمان إحياء في القبر وإحياء عند القيام ولم يذكر تقسيمه لأنهم كانوا منكرين لقسميه .

وتعقب بأن ذكر الإماتة الثانية التي في القبر دليل على أن التقسيم ملحوظ ، والمراد التعدد الشخصي لا النوعي نعم هذا يصلح تأييداً لما اختاره جار الله ، وروى عن جمع من السلف من أن الإحياءات وإن كانت ثلاثاً إنما سكت عن الثانية لأنها داخلة في إحياءة البعث قاله «صاحب الكشف » ثم قال : وعلى هذا فالإماتة على مختار جار الله إماتة قبل الحياة وإماتة بعدها وطويت إماتة القبر كما طويت إحياءته ولك أن تقول إن الإماتة نوع واحد بخلاف الإحياء فروعي التعدد فيها شخصاً بخلافه ، وذكر الإماتة الثانية لأنها منكرة عندهم كالحياتين ، ويجب الاعتراف بها لا للدلالة على أن التعدد في الإحياء شخصي والحق أن ذلك وجه لكن قوله تعالى : { اثنتين } ظاهر في المرة فلذا آثر من آثر الوجه الأول وإن كانت الإماتة فيه غير ظاهرة ذهاباً إلى أن ذلك مجاز مستعمل في القرآن فتأمل .

وقال الإمام : إن أكثر العلماء احتجوا بهذه الآية في إثبات عذاب القبر وذلك أنهم أثبتوا لأنفسهم وموتتين فإحدى الموتتين مشاهد في الدنيا فلا بد من إثبات حياة أخرى في القبر حتى يصير الموت الذي عقيبها موتاً ثانياً ، وذلك يدل على حصول حياة في القبر ، وأطال الكلام في تحقيق ذلك والانتصار له ، والمنصف يرى أن عذاب القبر ثابت بالأحاديث الصحيحة دون هذه الآية لقيام الوجه المروي عمن سمعت أولاً فيها ، وقد قيل : إنه الوجه لكني أظن أن اختيار الزمخشري له لدسيسة اعتزالية ، وقال ابن زيد في الآية أريد إحياؤهم نسماً عند أخذ العهد عليهم من صلب آدم ثم إماتتهم بعد ثم إحياؤهم في الدنيا ثم إماتتهم ثم إحياؤهم وهذا صريح في أن الإحياءات ثلاث ، وقد أطلق فيه الإحياء الثالث ؛ والأغلب على الظن أنه عني به إحياء البعث ، وقيل : التثنية في كلامهم مثلها في قوله تعالى :

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا ٱثۡنَتَيۡنِ وَأَحۡيَيۡتَنَا ٱثۡنَتَيۡنِ فَٱعۡتَرَفۡنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلۡ إِلَىٰ خُرُوجٖ مِّن سَبِيلٖ} (11)

فتمنوا الرجوع و { قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ } يريدون الموتة الأولى وما بين النفختين على ما قيل أو العدم المحض قبل إيجادهم ، ثم أماتهم بعدما أوجدهم ، { وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ } الحياة الدنيا والحياة الأخرى ، { فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ } أي : تحسروا وقالوا ذلك ، فلم يفد ولم ينجع ، ووبخوا على عدم فعل أسباب النجاة ، فقيل لهم :

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا ٱثۡنَتَيۡنِ وَأَحۡيَيۡتَنَا ٱثۡنَتَيۡنِ فَٱعۡتَرَفۡنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلۡ إِلَىٰ خُرُوجٖ مِّن سَبِيلٖ} (11)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين} يعني كانوا نطفا فخلقهم فهذه موتة وحياة، وأماتهم عند آجالهم، ثم بعثهم في الآخرة، فهذه موتة وحياة أخرى، فهاتان موتتان وحياتان.

{فاعترفنا بذنوبنا} بأن البعث حق {فهل إلى خروج من سبيل} قالوا: فهل لنا كرة إلى الدنيا.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

... عن ابن عباس، قوله:"رَبّنا أمَتَنّا اثْنَتَيْنِ وأحْيَيْتَنا اثْنَتَيْنِ" قال: هو كقوله: "كَيْفَ تَكْفُرُونَ باللّهِ وكُنتُمْ أمْوَاتا... "الآية...

عن أبي مالك في هذه الآية أمَتّنا اثْنَتَيْنِ وأحْيَيْتَنا اثْنَتَيْنِ قال: خلقتنا ولم نكن شيئا ثم أمتنا، ثم أحييتنا...

وقال آخرون:...عن السديّ، قوله: "أمتَنّا اثْنَتَيْنِ وأحْيَيْتَنا اثْنَتَيْنِ" قال: أميتوا في الدنيا، ثم أحيوا في قبورهم، فسئلوا أو خوطبوا، ثم أميتوا في قبورهم، ثم أحيوا في الآخرة.

وقال آخرون:... قال ابن زيد، في قوله "رَبّنا أمَتّنا اثْنَتَيْنِ وأحْيَيْتَنا اثْنَتَيْنِ" قال: خلقهم من ظهر آدم حين أخذ عليهم الميثاق، وقرأ: "وَإذْ أخَذَ رَبّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهورِهِمْ ذُرّيّتَهُمْ"، فقرأ حتى بلغ "المُبْطِلُونَ" قال: فنسّاهم الفعل، وأخذ عليهم الميثاق... قال: فلما أخذ عليهم الميثاق، أماتهم ثم خلقهم في الأرحام، ثم أماتهم، ثم أحياهم يوم القيامة، فذلك قول الله: "رَبّنا أمَتّنا اثْنَتَيْنِ وأحْيَيْتَنا اثْنَتَيْنِ فاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا"...

وقوله: "فاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا" يقول: فأقررنا بما عملنا من الذنوب في الدنيا، "فَهَلْ إلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ" يقول: فهل إلى خروج من النار لنا سبيل، لنرجع إلى الدنيا، فنعمل غير الذي كنا نعمل فيها.

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

الكفار يعترفون بذنوبهم التي اقترفوها في الدنيا لا يمكنهم جحدها، وإنما تمنوا الخروج مما هم فيه من العذاب...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

فلا خروج ولا سبيل إليه، وهذا كلام من غلب عليه اليأس والقنوط، وإنما يقولون ذلك تعللاً وتحيراً...

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

المقصود من هذا كله: أن الكفار يسألون الرجعة وهم وقوف بين يدي الله، عز وجل، في عرصات القيامة...وفي هذه الآية الكريمة تلطفوا في السؤال، وقدموا بين يدي كلامهم مُقدّمة، وهي قولهم: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} أي: قدرتك عظيمة، فإنك أحييتنا بعد ما كنا أمواتا، ثم أمتنا ثم أحييتنا، فأنت قادر على ما تشاء، وقد اعترفنا بذنوبنا، وإننا كنا ظالمين لأنفسنا في الدار الدنيا.

{فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} أي فهل أنت مجيبنا إلى أن تعيدنا إلى الدار الدنيا؟ فإنك قادر على ذلك؛ لنعمل غير الذي كنا نعمل.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما كان من أعظم ذنوبهم إنكار البعث، وكانوا قد استقرأوا العوائد، وسبروا ما جرت به الأقدار في الدهور والمدائد، من أن كل ثان لا بد له من ثالث، وكان الإحياء لا يطلق عرفاً إلا من كان عن موت، حكى سبحانه جوابهم بقوله الذي محطه الإقرار بالبعث والترفق بالاعتراف بالذنب حيث لا ينفع لفوات شرطه وهو الغيب: {قالوا ربنا} أي أيها المحسن إلينا بما تقدم في دار الدنيا.

{أمتَّنا اثنتين} قيل: واحدة عند انقضاء الآجال في الحياة الدنيا وأخرى بالصعق بعد البعث أو الإرقاد بعد سؤال القبر، والصحيح أن تفسيرها آية البقرة {كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم} [آية: 28] وأما الصعق فليس بموت، وما في القبر فليس بحياة حتى يكون عنه موت، وإنما هو إقدار على الكلام كما أقدر سبحانه الحصى على التسبيح والحجر على التسليم، وسورة البقرة {وأحييتنا اثنين} واحدة في البطن، وأخرى بالبعث بعد الموت، أو واحدة بالبعث وأخرى بالإقامة من الصعق، أو الإقامة في القبر.

{بذنوبنا} الحاصلة بسبب إنكار البعث؛ لأن من لم يخش العاقبة بالغ في متابعة الهوى، فذلك توبة لنا.

{فهل إلى خروج} أي من النار ولو على أدنى أنواع الخروج بالرجوع إلى الدنيا فنعمل صالحاً.

{من سبيل} فنسلكه فنخرج ثم تكون لنا موتة ثالثة وإحياءة ثالثة إلى الجنة التي جعلتها جزاء من أقر بالبعث...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

(فهل إلى خروج من سبيل؟) بهذا التنكير الموحي باللهفة واليأس المرير...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

جواب عن النداء الذي نودوا به من قِبل الله تعالى فحكي مقالهم على طريقة حكاية المحاورات بحذف حرف العطف، طمعوا أن يكون اعترافهم بذنوبهم وسيلة إلى منحهم خروجاً من العذاب، خروجاً مَّا ليستريحوا منه ولو بعضَ الزمن؛ وذلك لأن النداء الموجه إليهم من قبل الله أوهمهم أن فيه إقبالاً عليهم.

والمقصود من الاعتراف هو اعترافهم بالحياة الثانية؛ لأنهم كانوا ينكرونها وأما الموتتان والحياة الأولى فإنما ذُكِرْن إِدماجاً للاسْتدلال في صُلب الاعتراف تزلفاً منهم، أي أيقَنَّا أن الحياة الثانية حق، وذلك تعريض بأن إقرارهم صدق لا مواربة فيه ولا تصنع؛ لأنه حاصل عن دليل، ولذلك جعل مسبباً على هذا الكلام بعطفه بفاء السببية في قوله: {فاعترفنا بذُنُوبنا}...

وتفرع قولهم: {فاعترفنا بذُنُوبنا} على قولهم: {وأحييتنا اثنتين} اعتبار أن إحدى الإِحياءتين كانت السبب في تحقق ذنوبهم التي من أصولها إنكارهم البعث فلما رأوا البعث رأي العين أيقنوا بأنهم مذنبون إذ أنكروه ومذنبون بما استكثروه من الذنوب لاغترارهم بالأمن من المؤاخذة عليهم بعد الحياة العاجلة.

فجملة {فاعترفنا بذُنُوبنا} إنشاء إقرار بالذنوب، ولذلك جيء فيه بالفعل الماضي كما هو غالب صيغ الخبر المستعمل في الإِنشاء مثل صيغ العقود نحو: بعتُ، والمعنى نعترف بذنوبنا، وجعلوا هذا الاعتراف ضرباً من التوبة توهماً منهم أن التوبة تنفع يومئذٍ، فلذلك فرعوا عليه: {فَهَل إلى خُرُوج مِن سبيل}، فالاستفهام مستعمل في العَرض والاستعطاف كلياً لرفع العذاب، وقَد تكرر في القرآن حكاية سؤال أهل النار الخروجَ أو التخفيف ولو يوماً. والاستفهام بحرف {هَل} مستعمل في الاستعطاف.

وحرف {مِن} زائد لتوكيد العموم الذي في النكرة ليفيد تطلبهم كل سبيل للخروج. وشأن زيادة {مِن} أن تكُون في النفي وما في معناه دون الاثبات، وقد عُدّ الاستفهام ب {هل} خاصة من مواقع زيادة {مِن} لتوكيد العموم كقوله تعالى: {وتقول هل من مزيد} [ق: 30]، وأن وجه اختصاص {هَل بوقوع مِن الزائدة في المستفهم عنه بها أنه كثر استعمال الاستفهام بها في معنى النفي، وزيادةُ من حينئذٍ لتأكيد النفي وتنصيص عموم النفي، فخف وقوعها بعد هل على ألسن أهل الاستعمال. وتنكير خروج للنَّوعية تلطفاً في السؤال، أي إلى شيء من الخروج قليلٍ أو كثير؛ لأن كل خروج يتنفعون به راحةٌ من العذاب كقولهم: {ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب} [غافر: 49]...

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

لنفهم معنى {أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} لابدَّ أن نعرف ما هو الموت أولاً، الموت هو إذهاب الحياة بعد أنْ كانت موجودة، فما دام سيكون الموت فهو دليل على الحياة قبله، والموت أيضاً يعني عدم الحياة مطلقاً، يعني: عدم لم تسبقه حياة مطلقاً.

لذلك قال سبحانه: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ} [البقرة: 28] وهذا استفهام للتعجب يعني: قولوا لنا كيف يتأتَّى منكم الكفر {وَكُنْتُمْ أَمْوَٰتاً فَأَحْيَٰكُمْ} [البقرة: 28] أي: كنتم عدماً فوهبكم الحياة {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} [البقرة: 28] أي: يُذهب الحياة الموجودة {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة: 28] أي: في الآخرة.

إذن: فالموت مرتان والحياة مرتان كذلك، والخلاف في هذه المسألة: أيكون الموت بعد حياة؟ أم يكفي أن يكون عدمٌ تأتي بعده الحياة؟ نقول: الموت هو العدم المطلق، سواء كان قبله حياة أم لم تكن قبله حياة...

إذن: الآية جمعت بين المعنيين: الموت المطلق أو العدم الذي لم تسبقه حياة، والموت بمعنى نَقْض الحياة الموجودة بالفعل، فقال سبحانه: {أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ}.

بعضهم يرى أن الموت الأول هو إذهاب الحياة بعد انقضاء الأجل، ثم يحيا في القبر للسؤال ثم يموت في القبر ثم يُبعث يوم القيامة، والأول الذي اخترناه أليق.

وقوله سبحانه: {فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَىٰ خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ}، الاستفهام في {فَهَلْ إِلَىٰ خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ} استفهام للتمني لكن هيهات، فلو رُدُّوا لَعَادوا لما كانوا عليه، فلا فائدةَ من تكرار هذه التجربة، والحق سبحانه بيَّن هذه المسألة في قوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا} [المؤمنون: 100].

ولو رُدُّوا لعادوا بطباع الشر فيهم وكفروا، والخروج أي من المأزق الذي نحن فيه ومن العذاب الذي نعاينه {مِّن سَبِيلٍ} من طريق للخروج وللنجاة.

هذا الذي ذكرناه خاصٌّ بحياة القوالب وموتها، أما حياة القلوب والأرواح فلها طريق آخر، ذكره الحق سبحانه في قوله: {يٰأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24].

لا شكَّ أنه سبحانه يخاطبهم وهم أحياء الحياة المادية إذن: هناك حياة أخرى يدعوهم إليها، إنها حياةُ المعنويات التي لا يأتي بعدها موت وهي الحياة في الجنة.

إذن: عندنا حياة للمادة بها تحيا وتتحرك وتأكل وتشرب وتنشط، وهناك حياة أخرى معنوية بها تدخل الجنة حيث نعيمٌ بلا فَوْت، وحياة بلا موت. الحياة المادية لها روح تناسبها وهي حياة تنتهي بالموت، أما حياة القيم والمعنويات فلا بدَّ لها من روح عُلْوية تأتي بالالتزام بالمنهج في: افعل ولا تفعل، لذلك يسميها الله روحاً: {أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52] وسمُّي مَنْ يحملها روحاً: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} [الشعراء: 193].

وكل من الحياتين لها ما يناسبها من البقاء، فالأولى موقوتة بالأجل، والأخرى ممتدة باقية؛ لذلك قلنا في الشهيد الذي جاد بنفسه وأنهى حياته في سبيل منهجه أن الله يُجازيه على ذلك بأنْ يعصمه من الموت بعد ذلك.