الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا ٱثۡنَتَيۡنِ وَأَحۡيَيۡتَنَا ٱثۡنَتَيۡنِ فَٱعۡتَرَفۡنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلۡ إِلَىٰ خُرُوجٖ مِّن سَبِيلٖ} (11)

{ اثنتين } إماتتين وإحياءتين . أو موتتين وحياتين . وأراد بالإماتتين : خلقهم أمواتاً أوّلاً ، وإماتتهم عند انقضاء آجالهم ، وبالإحيائتين الإحياءة الأولى وإحياءة البعث . وناهيك تفسيراً لذلك قوله تعالى : { وَكُنتُمْ أمواتا فأحياكم ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } [ البقرة : 28 ] وكذا عن ابن عباس رضي الله عنهما .

فإن قلت : كيف صحّ أن يسمى خلقهم أمواتاً : إماتة ؟ قلت : كما صحّ أن تقول : سبحان من صغر جسم البعوضة وكبر جسم الفيل ! وقولك للحفار : ضيق فم الركية ووسع أسفلها ، وليس ثم نقل من كبر إلى صغر ولا من صغر إلى كبر ، ولا من ضيق إلى سعة ، ولا من سعة إلى ضيق ، وإنما أردت الإنشاء على تلك الصفات ، والسبب في صحته أن الصغر والكبر جائزان معاً على المصنوع الواحد ، من غير ترجح لأحدهما ، وكذلك الضيق والسعة . فإذا اختار الصانع أحد الجائزين وهو متمكن منهما على السواء فقد صرف المصنوع عن الجائز الآخر ، فجعل صرفه عنه كنقله منه ، ومن جعل الإماتتين التي بعد حياة الدنيا والتي بعد حياة القبر لزمه ثلاث إثبات إحياءات ، وهو خلاف ما في القرآن ، إلاّ أن يتمحل فيجعل إحداها غير معتدّ بها ، أو يزعم أن الله تعالى يحييهم في القبور ، وتستمرّ بهم تلك الحياة فلا يموتون بعدها ، ويعدّهم في المستثنيين من الصعقة في قوله تعالى { إِلاَّ مَن شَاء الله } [ النمل : 78 ] .

فإن قلت : كيف تسبب هذا لقوله تعالى : { فاعترفنا بِذُنُوبِنَا } ؟ قلت : قد أنكروا البعث فكفروا ، وتبع ذلك من الذنوب ما لا يحصى ؛ لأن من لم يخش العاقبة تخرق في المعاصي ، فلما رأوا الإماتة والإحياء قد تكرّرا عليهم ، علموا بأن الله قادر على الإعادة قدرته على الإنشاء ، فاعترفوا بذنوبهم التي اقترفوها من إنكار البعث وما تبعه من معاصيهم { فَهَلْ إلى خُرُوجٍ } أي : إلى نوع من الخروج سريع أو بطىء { مّن سَبِيلٍ } قط ، أم اليأس واقع دون ذلك ، فلا خروج ولا سبيل إليه . وهذا كلام من غلب عليه اليأس والقنوط ، وإنما يقولون ذلك تعللاً وتحيراً .