روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{قَالَتۡ فَذَٰلِكُنَّ ٱلَّذِي لُمۡتُنَّنِي فِيهِۖ وَلَقَدۡ رَٰوَدتُّهُۥ عَن نَّفۡسِهِۦ فَٱسۡتَعۡصَمَۖ وَلَئِن لَّمۡ يَفۡعَلۡ مَآ ءَامُرُهُۥ لَيُسۡجَنَنَّ وَلَيَكُونٗا مِّنَ ٱلصَّـٰغِرِينَ} (32)

{ قَالَتْ فذلكن } الفاء فصيحة والخطاب للنسوة والإشارة حسبما يقتضيه الظاهر إلى يوسف عليه السلام بالعنوان الذي وصفته به الآن من الخروج في الحسن والكمال عن المراب البشرية ، والاقتصار على الملكية ، أو بعنوان ما ذكر مع الاخبار وتقطيع الأيدي بسببه أيضاً ، فاسم الإشارة مبتدأ والموصول خبره ، والمعنى إن كان الأمر كما قلتن فذلكن الملك الكريم الخارج في الحسن عن المراتب البشرية ، أو الذي قطعتن أيدين بسببه وأكبرتنه ووصفتنه بما وصفتنه هو { الذى لُمْتُنَّنِى فِيهِ } أي عيرتني في الافتنان فيه أو بالعنوان الذي وصفنه به فيما سبق بقولهن : امرأة العزيز عشقت عبدها الكنعاني ، فاسم الإشارة خبر لمبتدأ محذوف دخلت الفاء عليه بعد حذفه ، والموصول صفة اسم الاشارة أي فهو ذلكن العبد الكنعاني الذي صورتن في أنفسكن وقلتن فهي وفيّ ما قلتن ، فالآن قد علمتن من هو وما قولكن فينا ، وقيل( {[372]} ) : أرادت هذا ذلك العبد الكنعاني الذي صورتن في أنفسكن ثم لمتنني فيه على معنى أنكن لم تصورنه بحق صورته ولو صورتنه بما عاينتن لعذرتنني في الافتتان به ، والإشارة بما يشار به إلى البعيد مع قرب المشار إليه وحضوره قيل : رفعاً لمنزلته في الحسن واستبعاداً لمحله فيه ، وإشارة إلى أنه لغرابته بعيد أن يوجد مثله .

وقيل : إن يوسف عليه السلام كان في وقت اللوم غير حاضر وهو عند هذا الكلام كان حاضراً فإن جعلت الإشارة إليه باعتبار الزمان الأول كانت على أصلها ، وإن لوحظ الثاني كان قريباً ، وكانت الإشارة بما ذكر لتنزيله لعلو منزلته منزلة البعيد ، واحتمال أنه عليه السلام أبعد عنهن وقت هذا الكلام لئلا يزددن دهشة وفتنة ولذا أشير إليه بذلك بعيد . وجوز ابن عطية كون الإشارة إلى حب يوسف عليه السلام ، وضمير { فيه } عائد إليه ، وجعل الإشارة على هذا إلى غائب على بابها ويبعده على ما فيه .

{ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسه } وهو إباحة منها ببقية سرها بعد أن أقامت عليهن الحجة وأوضحت لديهن عذرها وقد أصابهن من قبله ما أصابها( {[373]} ) أي والله لقد راودته حسبما قلتن وسمعتن { فَاسْتَعْصَمَ } قال ابن عطية : أي طلب العصمة وتمسك بها وعصاني . وفي «الكشاف » أن الاستعصام بناء مبالغة يدل على الامتناع البليغ والتحفظ الشديد كأنه في عصمة وهو مجتهد في الاستزادة منها ، ونحوه استمسك واستوسع الفتق واستجمع الرأي واستفحل الخطب اه . وفي «البحر » ( ( والذي ذكره الصرفيون في { استعصم } أنه موافق لاعتصم ، وأما استمسك واستوسع واستجمع فاستفعل فيه أيضاً موافقة لافتعل ، والمعنى امتسك واتسع واجتمع ، وأما استفحل فاستفعل فيه موافقة لتفعل أي تفحل نحو استكبر وتكبر ) ) فالمعنى فامتنع عما أرادت منه ؛ وبالامتناع فسرت العصمة على إرادة الطلب لأنه هو معناها لغة ، قيل : وعنت بذلك فراره عليه السلام منها فإنه امتنع منها أولاً بالمقال ثم لما لم يفده طلب ما يمنعه منها بالفرار ، وليس المراد بالعصمة ما أودعه الله تعالى في بعض أنبيائه عليهم السلام مما يمنع عن الميل للمعاصي فإنه معنى عرفي لم يكن قبل بل لو كان لم يكن مراداً كما لا يخفى .

وتأكيد الجملة بالقسم مع أن مضمونها من مراودتها له عن نفسه مما تحدث به النسوة لإظهار ابتهاجها بذلك . وقيل : إنه باعتبار المعطوف وهو الاستعصام كأنها نظمته لقوة الداعي إلى خلافه من كونه عليه السلام في عنفوان الشباب ومزيد اختلاطه معها ومراودتها إياه مع ارتفاع الموانع فيما تظن في سلك ما ينكر ويكذب المخبر به فأكدته لذلك وهو كما ترى . وفي الآية دليل على أنه عليه السلام لم يصدر منه ما سود به القصاص وجوه الطروس ، وليت السدي لو كان قد سد فاء عن قوله : فاستعصم بعد حل سراويله .

ثم إنها بعد أن اعترفت لهن بما سمعنه وتحدثهن به وأظهرت من إعراضه عنها واستعصامه ما أظهرت ذكرت أنها مستمرة على ما كانت عليه لا يلويها عنها لوم ولا إعراض فقالت { وَلَئن لَّمْ يَفْعَلْ مَا ءَامُرُهُ } أي الذي آمره به فيما سيأتي كما لم يفعل فيما مضى - فما - موصولة والجملة بعدها صلة والعائد الهاء ، وقد حذف حرف الجر منه فاتصل بالفعل وهذا أمر شائع مع أمر كقوله :

أمرتك الخير فافعل ما أمرت به *** ومفعول ( آمر ) الأول إما متروك لأن مقصودها لزوم امتثال ما أمرت به مطلقاً كما قيل ، وإما محذوف لدلالة { يفعل } عليه وهو ضمير يعود على يوسف أي ما آمره به . / وجوز أن يكون الضمير الموجود هو العائد على يوسف والعائد على الموصول محذوف أي به ، ويعتبر الحذف تدريجاً لاشتراطهم في حذف العائد المجرور بالحرف كونه مجروراً بمثل ما جرّ به الموصول لفظاً ومعنى ومتعلقاً ، وإذا اعتبر التدريج في الحذف يكون المحذوف منصوباً ، وكذا يقال في أمثال ذلك . وقال ابن المنير في «تفسيره » : إن هذا الجار مما أنس حذفه فلا يقدر العائد إلا منصوباً مفصولاً كأنه قيل : أمر يوسف إياه لتعذر ا تصال ضميرين من جنس واحد ، ويجوز أن تكون { ما } مصدرية فالضمير المذكور ليوسف أي لئن لم يفعل أمري غياه ، ومعنى فعل الأمر فعل موجبه ومقتضاه فهو إما على الإسناد المجازي أو تقدير المضاف ، وعبرت عن مراودتها بالأمر إظهار لجريان حكومتها عليه واقتضاءاً للامتثال لأمرها .

{ لَيُسْجَنَنَّ } بالنون الثقيلة آثرت بناء الفعل للمفعول جرياً على رسم الملوك . وجوز أن يكون إيهاماً لسرعة ترتب ذلك على عدم امتثاله لأمرها كأنه لا يدخل بينهما فعل فاعل .

{ وَلَيَكُونَا } بالمخففة { مِّنَ الصَّاغِرِينَ } أي الأذلاء المهانين ، وهو من صغر كفرح ، ومصدر صغر بفتحتين ، وصغراً بضم فسكون ، وصغار بالفتح ، وهذا في القدر ، وأما في الجثة والجرم فالفعل صغر ككرم ، ومصدره صغر كعنب ، وجعل بعضهم الصغار مصدراً لهذا أيضاً وكذا الصغربالتحريك ، والمشهور الأول ، وأكدت السجن بالنون الثقيلة قيل : لتحققه ، وما بعده بالنون الخفيفة لأنه غير متحقق . وقيل : لأن ذلك الكون من توابع السجن ولوازمه ، فاكتفت في تأكيده بالنون الخفيفة بعد أن أكدت الأول بالثقيلة ، وقرأت فرقة بالتثقبل فيهما وهو مخالف لرسم المصحف لأن النون رسمت فيه بالألف ك { نسفعاً } [ العلق : 15 ] على حكم الوقف وهي يوقف عليها بالألف كما في قول الأعشى :

ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا *** وذلك في الحقيقة لشبهها بالتنوين لفظاً لكونها نوناً ساكنة مفردة تلحق الآخر ، واللام الداخلة على حرف الشرط موطئة للقسم وجوابه سادٌ مسدّ الجوابين ، ولا يخفى شدة ما توعدت به كيف وأن للذل تأثيراً عظيماً في نفوس الأحرار وقد يقدمون الموت عليه وعلى ما يجرّ إليه . قيل : ولم تذكر العذاب الأليم الذي ذكرته في { ما جزاء من أراد بأهلك سواءاً } [ يوسف : 25 ] الخ لأنها إذ ذاك كانت في طراوة غيظها ومتنصلة من أنها هي التي راودته فناسب هناك التغليظ بالعقوبة ، وأما هنا فإنها في طماعية ورجاء ، وإقامة عذرها عند النسوة فرقت عليه فتوعدته بالسجن وما هونم فروعه ومستتبعاته . وقيل : إن قولها [ ليكونا من الصاغرين } إنما أتت به بدل قولها هناك : { عذاب أليم } [ يوسف : 25 ] ذله بالقيد أو بالضرب أو بغير ذلك ، لكن يحتمل أنها أرادت بالذلوالعذاب الأليم ما يكون بالضرب بالسياط فقط أو ما يكون به أو بغيره ، أو أرادت بالذل ما يكون بالضرب وبالعذاب الأليم ما يكون به أو بغيره أو بالعكس ، وكيفما كان الأمر فما طلبته هنا أعظمم ما لوحت بطلبه هناك لمكان الواو هناو ( أو ) هناك ، ولعلها إنما بالغت في ذلك بمحضر من تلك النسوة لمزيد غيظها بظهور كذبها وصدقه وإصراره على عدم بلّ غليلها ، ولتعلم يوسف عليه السلام أنها ليست في أمرها على خيفة ولا خفية من أحد ، فيضيق عليه الحيل ويعيى به العللوينصحن له ويرشدنه إلى موافقتها فتدبر .

( ومن باب الإشارة { فذلكن الذى لُمْتُنَّنِى فِيهِ } [ يوسف : 32 ] أرادت أن لومكن لم يقع في محله وكيف يلام من هذا محبوبه ، وكأنها أشارت إلى أنها مجبورة في ذلك الوله معذورة في مزيد حبها له :

خليلي إني قلت بالعدل مرة *** ومنذ علاني الحب مذهبي الجبر

وفي ذلك إشارة أيضاً إلى أن اللوم لا يصدر إلا عن خلي ، ولذا لم تعاتبهن حتى رأت ما صنع الهوى بهن وما أحسن ما قيل :

وكنت إذا ما حدث الناس بالهوى *** ضحكت وهم يبكون في حسرات

فصرت إذا ما قيل هذا متيم *** تلقيتهم بالنوح والعبرات

وقال سلطان العاشقين :

دع عنك تعنيفي وذق طعم الهوى *** فإذا عشقت فبعد ذلك عنف


[372]:- تعقبه المولى أبو السعود بأنه لا يلائم المقام بين ذلك بما فيه تأمل اهـ منه.
[373]:- وكأنها عملت بما قيل: لا تخف ما صنعت بك الأشواق اشرح هواك فكلنا عشاق اهـ منه.