جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: قالت امرأة العزيز للنسوة اللاتي قطعن أيديهن، فهذا الذي أصابكن في رؤيتكن إياه وفي نظرة منكن نظرتن إليه ما أصابكن من ذهاب العقل وغروب الفهم ولها إليه حتى قطعتنّ أيديكنّ، هو الذي لمتنني في حبي إياه وشغف فؤادي به، فقلتنّ: قد شغف امرأة العزيز فتاها حبّا {إنا لنراها في ضلال مبين}. ثم أقرّت لهنّ بأنها قد راودته عن نفسه، وأن الذي تحدثن به عنها في أمره حقّ، فقالت: {وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فاسْتَعْصَمَ}، مما راودته عليه من ذلك... عن قتادة، قوله: {فاسْتَعْصَمَ}، أي: فاستعصى...
عن ابن عباس، قوله: {فاسْتَعْصَمَ}، يقول: فامتنع... وقوله: {لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَننّ وَلَيَكُونا مِنَ الصّاغِرِينَ}، تقول: ولئن لم يطاوعني على ما أدعوه إليه من حاجتي إليه {ليسجننّ}، تقول: ليحبسنّ في السجن، وليكونا من أهل الصغار والذلة بالحبس والسجن، ولأهيننه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{قَالَتْ فذلكن} ولم تقل فهذا وهو حاضر، رفعاً لمنزلته في الحسن، واستحقاق أن يحب ويفتتن به، وربئاً بحاله واستبعاداً لمحله، ويجوز أن يكون إشارة إلى المعنى بقولهنّ: عشقت عبدها الكنعاني. تقول: هو ذلك العبد الكنعاني الذي صوّرتن في أنفسكنّ، ثم لمتنني فيه. تعني: أنكن لم تصوّرنه بحق صورته، ولو صوّرتنه بما عاينتن لعذرتنني في الافتنان به...
الاستعصام: بناء مبالغة يدل على الامتناع البليغ والتحفظ الشديد، كأنه في عصمة وهو يجتهد في الاستزادة منها.. وهذا بيان لما كان من يوسف عليه السلام لا مزيد عليه، وبرهان لا شيء أنور منه، على أنه بريء مما أضاف إليه أهل الحشو مما فسروا به الهمّ والبرهان...
اعلم أن النسوة لما قلن في امرأة العزيز قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين، عظم ذلك عليها فجمعتهن {فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن} فعند ذلك ذكرت أنهن باللوم أحق لأنهن بنظرة واحدة لحقهن أعظم مما نالها مع أنه طال مكثه عندها. فإن قيل: فلم قالت: {فذلكن} مع أن يوسف عليه السلام كان حاضرا؟ والجواب عنه من وجوه:
الأول: قال ابن الأنباري: أشارت بصيغة ذلكن إلى يوسف بعد انصرافه من المجلس.
والثاني: وهو الذي ذكره صاحب «الكشاف» وهو أحسن ما قيل: إن النسوة كن يقلن إنها عشقت عبدها الكنعاني، فلما رأينه ووقعن في تلك الدهشة قالت: هذا الذي رأيتموه هو ذلك العبد الكنعاني الذي لمتنني فيه يعني: أنكن لم تتصورنه حق تصوره ولو حصلت في خيالكن صورته لتركتن هذه الملامة.
واعلم أنها لما أظهرت عذرها عند النسوة في شدة محبتها له كشفت عن حقيقة الحال فقالت: {ولقد راودته عن نفسه فاستعصم}.
واعلم أن هذا تصريح بأنه عليه السلام كان بريئا عن تلك التهمة... ثم قال: {ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين} والمراد أن يوسف عليه السلام إن لم يوافقها على مرادها يوقع في السجن وفي الصغار، ومعلوم أن التوعد بالصغار له تأثير عظيم في حق من كان رفيع النفس عظيم الخطر مثل يوسف عليه السلام...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
فكأنه قيل: فما قالت لهن امرأة العزيز؟ فقيل: {قالت فذلكن} أي الفتى العالي الرتبة جداً {الذي لمتنني فيه}. ولما علمت أنهن عذرنها، قالت مؤكدة استلذاذاً بالتهتك في حبه: {ولقد} أي أقول هذا والحال أني والله لقد تحقق أني {راودته عن نفسه} أي لأصل إليه بما أريد {فاستعصم} أي فأوجد العصمة والامتناع عليّ فاشتد اعتصامه، وما أنا براجعة عنه؛ ثم توعدته وهو يسمع لِيَلين، فقالت لهن مؤكدة لأن حال حبها يوجب الإنكار لأن تفعل ما يؤذي المحبوب: {ولئن لم يفعل} أي هذا الفتى الذي قام عذري عندكن فيه {ما أمره} أي أمري {ليسجنن} أي ليمنعن من التصرف بالحبس بأيسر سعي مني. ولما كان عزمها على السجن أقوى من العزم على إيقاع الصغار به، أكدته بالنون الثقيلة وقالت: {وليكونا} بالنون الخفيفة {من الصاغرين} أي الأذلاء، أو أن الزيادة في تأكيد السجن لأنه يلزم منه إبعاده، وإبعاد الحبيب أولى بالإنكار من إهانته...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{قالت فذلكن الذي لمتنني فيه} أي حينئذ قالت لهن ما يعلم شرحه من قرينة الحال، لما جاء في التنزيل من إيجاز وإجمال: إذا كان الأمر ما رأيتن بأعينكن، وما أكبرتن في أنفسكن، وما فعلتن بأيديكن، وما قلتن بألسنتكن، فذلكن هو الأمر البعيد الغاية الذي لمتنني فيه، وأسرفتن في عذلي عليه، إذ قلتن من قبل ما قلتن، فالمشار إليه بكاف البعد هو أمر لومهن لها، أو يوسف البعيد في حقيقته البديع في صورته عما تصورونه به، فما هو عبراني أو كنعاني مملوك، وخادم صعلوك، قد شغف مولاته المالكة لرقه حبا وغراما، فهي تراوده عن نفسه ضلالا منها وهياما، بل هو أكبر من ذلك وأعظم، وهو ملك روحاني، تجلى في شكل إنساني، أوتي من روعة الجمال ما خلب ألبابكن في الوهلة الأولى من ظهوره لكن، فما قولكن في أمري معه وافتناني به، وإنما ترعرع في داري، وبلغ أشده واستوى بين سمعي وبصري، فأنا أشاهده في قعوده وقيامه، ويقظته ومنامه، وطعامه وشرابه، وحركته وسكونه، وأخلو به في ليلي ونهاري، فأراه بشرا سويا، إنسيا لا جنيا، وجسدا لا ملكا روحانيا، فأتراءى له في زينتي، وأعرض على نظره ما ظهر وما خفي من محاسني، فيعرض عنها احتقارا، فأتصباه بكل ما أملك من كلام عذب يخلب اللب، ولين قول وخشوع صوت يرقق القلب، فلا يصبو إليه، وأمد عيني إلى محاسنه جامعة فيهما كل ما يكنه قلبي من صبابة وشوق وخلاعة، مع فتور جفن، وانكسار طرف، وطول ترنيق وتحديق، فلا يرفع إلي طرفا، ولا يميل نحوي عطفا، بل تتجلى فيه الروح الملكية بأظهر مجاليها، والعبادة الإلهية بأكمل معانيها، أمثل هذا الملك القاهر يسمى عبدا طائعا، ومثل هذه المرأة المقهورة تسمى سيدة مالكة، تأمر بل تشير فتطاع، وينكر عليها أن تراود فترد، ثم تريد إظهار سلطانها فتعجز؟ لقد انكشفت القناع، فلا أمر لمن لا يطاع {ولقد راودته عن نفسه فاستعصم} أي استمسك بعروة عصمته التي ورثها عمن نشؤوا عليها، كأنه يطلب مزيد الكمال منها...
{ولئن لم يفعل ما آمره} به، أقسم لكن آكد الإيمان، ولتسمع ذلك منه الأذنان {ليسجنن وليكونا من الصاغرين} أي الأذلة المقهورين، تعني أن زوجها العزيز يعاقبه بما تريد من إلقائه في السجن وهو المدير له المتولي لأمره، ومن جعله كغيره من العبيد بعد تكريم مثواه وجعله كولده، وهذا أشد مما أنذرته أولا إذ قالت لزوجها عند التقائهما به لدى الباب: {ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم} هنالك أنذرته أحد العقابين: سجن غير مؤكد، أو عذاب أليم نكرة غير معرف، قد يكون ذلك السجن المطلق بأخف صورة وأقلها، والعذاب المنكر بأهون أنواعه وألطفها، فذاك بحبسه في حجرة من الدار، وهذا بلطمه يحتدم بها ما في خديه من الاحمرار، وهنا أنذرته الجمع بينهما، وأكدت السجن بالقسم وبنون التوكيد الثقيلة، وفسرت العذاب بالصغار الذي تأباه الأنفس الكبيرة، واكتفت فيه بالنون الخفيفة وهو أشق على مثل يوسف من العذاب الأليم بالأعمال الشاقة، لأنها أهون على كرام الناس من الهوان والصغار باحتقار النفس، وفعله صغر كتب، وأما صغر كضخم فهو خاص بصغر الجسم، ومن الأول قوله تعالى: {حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} [التوبة: 29].
وفي هذا التهديد من ثقة هذا المرأة بسلطانها على زوجها الوزير الكبير على علمه بأمرها، واستعظامه لكيدها، ما حقه أن يخيف يوسف من تنفيذ إرادتها، ويثبت عنده عدم غيرته عليها، كما هو شأن كثير من الوزراء المترفين، ولا سيما العاجزين عن حصان أزواجهن، والمحرومين من نعمة الأولاد منهن، وماذا فعل يوسف وما قال وقد علم أن هذه المرأة الماكرة قد عيل صبرها، وهتكت سترها، وكاشفت نسوة كبار بلدها بما تسر وما تعلن من أمرها؟ ورأى أنهن تواطأن معها على كيدها، وراودنه عن نفسه كما راودته عن نفسها، وهو تواطؤ لا قبل لرجل به، إلا بمعونة ربه وحفظه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ورأت المرأة أنها انتصرت على نساء طبقتها، وأنهن لقين من طلعة يوسف الدهش والإعجاب والذهول. فقالت قولة المرأة المنتصرة، التي لا تستحي أمام النساء من بنات جنسها وطبقتها؛ والتي تفخر عليهن بأن هذا في متناول يدها؛ وإن كان قد استعصى قياده مرة فهي تملك هذا القياد مرة أخرى: قالت: فذلكن الذي لمتني فيه. فانظرن ماذا لقيتن منه من البهر والدهش والإعجاب! (ولقد راودته عن نفسه فاستعصم).. ولقد بهرني مثلكن فراودته عن نفسه فطلب الاعتصام -تريد أن تقول: إنه عانى في الاعتصام والتحرز من دعوتها وفتنتها!- ثم تظهر سيطرتها عليه أمامهن في تبجح المرأة من ذلك الوسط، لا ترى بأسا من الجهر بنزواتها الأنثوية جاهرة مكشوفة في معرض النساء: ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين! فهو الإصرار والتبجح والتهديد والإغراء الجديد في ظل التهديد...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
تبرير الانحراف: وهنا جاء دور امرأة العزيز لتدافع وتبرر علاقتها المنحرفة بيوسف التي عرضتها لهجوم هؤلاء النسوة، {قَالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} فإذا كنتن قد فقدتنّ شعوركن وإراداتكن وعقولكنَّ أمام النظرة الأولى لهذا الملاك الجميل، فما حال المرأة التي تعيش معه في البيت في كل أوقاتها، في خلوة كاملة، توحي لها بكل إغراء الحرية، أمام إغراء الجمال، فهل عليّ لوم إن فعلت ما فعلت، أو ثارت عواطفي تجاهه، إنها التجربة الصعبة التي لا مثيل لها، فالنيران تلهب مشاعري وأحاسيسي وغرائزي كالجحيم، دون أن أتمكن من إطفائها، بل أعاني الشعور بالحقارة أمام نظرته المتعفّفة الورعة المتعالية عن الإغراء التي ترفض كل هذا الجمال الذي أقدّمه له، وتستهين به، وتحتقره، كما يثير فيّ الرغبة التي تشتد أمام الامتناع من جهةٍ أخرى. يوسف بين ضغوط الإغراء والتهديد بسجنه وربما شعرت أن حديثها يضعها في موقف الضعف، فكيف يمتنع هذا العبد عليها، وهي السيدة المالكة له، المسيطرة عليه، وكيف يرفضها وهي التي تساقط كل الرجال تحت أقدامها؟ ولهذا أرادت أن تستعرض قوتها أمامه، وأمامهنّ، لئلا يحتقرن موقعها منه فقالت: {وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ آمُرُهُ} من الخضوع لرغباتي وشهواتي، {لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّن الصَّاغِرِينَ} بما أملكه من تأثيرٍ على زوجي وعلى أولي الأمر، يتيح لي الضغط لإدخاله السجن حيث يشعر بحقارة موقعه، ويعرف حقيقة قدره، فيقف عند حدوده، ولا يتمرّد على أسياده، ولا يتعالى على رغباتهم في وقفة عزٍّ وكبرياء. وشعر يوسف بأنه محاصر بهذا الجمال المتنوع بين امرأة العزيز التي تدعوه إلى نفسها في الليل والنهار بكل ما تملكه من أساليب الإغراء والإغواء، بهدف إثارة غريزته وشهوته، وبين هؤلاء النسوة اللاتي عرفنه في هذا اللقاء، وبدأن يراودنه عن نفسه، بطريقة خفيّةٍ أو معلنةٍ، وربما يلاحقنه في المستقبل ليؤثرن عليه، وقد يحاولن الضغط عليه بتهديده بطريقة أو بأخرى، بالسجن أو غيره، كما ذكرت امرأة العزيز... فماذا يفعل؟ إنه يخشى على نفسه أن يميل إليهن، ويسقط في التجربة أخيراً، لأن القدرة على المقاومة قد تضعف وتتلاشى أمام ضغوط الإغراء، ونداء الغريزة. اللجوء إلى الله إن يوسف بشرٌ كبقية البشر، يتأثر بما يتأثرون به، ويستجيب لما يستجيبون له، ولولا رعاية الله وعصمته له، لانقاد لها في ما دعته إليه ولكنه ها هو يستعين بالله، في هذا الموقف كما استعان به في الموقف السابق، ويريد له أن ينقذه الآن، كما أنقذه من قبل، إنه يفضّل كل مصائب الدنيا وآلامها، على موقف معصية لربه، ولهذا لجأ إلى الله وصرخ بكل قلبه، في دعاءٍ خاشع حارٍ مبتهل، وبروحية العبد الذي تحضر كل مشاعره وأحاسيسه، ويتحرك كل عقله وإرادته، طلباً للنجاة من ملاحقة الشيطان له، الذي يريد إسقاط عفته وأمانته وإرادته، ويبعده عن محبة الله، إنه ينشد الخلاص من هذا الحصار الشهوانيّ الغريزيّ الذي يعرض عليه الجمال المتنوع بكل كنوزه...