قوله : " فَذلِكُنَّ " مبتدأ ، والموصول خبره ، أشارت إليه إشارة البعيد ، وإن كان حاضراً ؛ تعظيماً له ، ورفعاً منه لتُظهرَ عذرها في شغفها .
وجوَّز ابنُ عطية : " أن يكون " ذَلِكَ " إشارةٌ إلى حبِّ يوسف عليه الصلاة والسلام والضمير في " فِيهِ " عائدٌ على الحبِّ ، فيكون " ذَلِكَ " إشارةً إلى غَائبٍ على بابه " .
يعنى بالغائب : البَعيِدَ ، وإلا فالإشارةُ لا تكون إلاَّ لحاضرٍ مُطلقاً .
وقال ابن الأنباري : " أشارت بصيغةِ " ذَلِكَ " إلى يوسف بعد انصرافه من المجلسِ " .
وقال الزمخشري : " إنَّ النسوة كُنَّ قلن : إنها عَشقَتْ عبْدَها الكنْعَانيَّ ، فلمَّا رأينه ، وفعن في تلك الدَّهشة ، قالت : هذا الذي رأيتموهُ ، هو العبد الكنعاني الذي لمُتُنَّنِي فيه ، يعني : أنكَّن لم تصورنه بحقِّ صورتهن فلو حصلت في خيالكُنَّ صُرتهُ ، لتركتن هذه الملامةً " .
واعلم أنها لما أظهرت عذرها عند النسوة ، في شدَّة محبَّتها له ، كشف عن حقيقة الحال ؛ فقالت : { ولقَدْ رَاوَدتُهُ عَنْ نَفسِهِ فاسْتَعْصمَ } وهذا تصريحٌ بأنه عليه الصلاة واسلام كان بريئاً من تلك التُّهمةِ .
وقال السديُّ : " فاسْتَعْصمَ " بعد حلِّ السَّراويل .
قال ابن الخطيب : " وما أدري ما الذي حمله على إلحاقِ هذه الزيادةِ الفَاسدةِ الباطلةِ بنص الكتاب ؟ ! وذل أنَّها صرَّحتْ بما فعلت : { ولقَدْ رَاوَدتُهُ عَنْ نَفسِهِ فاسْتَعْصمَ } أي : فامتنع ، وإنما صرَّحت به ؛ لأنها علمت أنه لا ملامة عليها منهنَّ ، وقد أصابهنَّ ما أصابهن ، من رُؤيته .
قوله : " فاسْتَعْصمَ " في هذه السين وجهان :
أحدهما : أنها ليست على بابها من الطلب ، بل " اسْتَفْعَل " هنا مبعنى " افْتَعَل " فاستعصم و " اعْتصَمَ " واحدٌ وقال الزمخشريُّ : " الاستعصام بناءُ للمبالغة يدلُّ على الامتناع البليغ ، والتحفُّظ الشَّديد ، كأنه في عصمةِ ، وهو مجتهدٌ في الزيادة فيها ، والاستزادة منها ، ونحوه : اسْتمْسَكَ ، واسْتوْسَعَ الفتقُ ، واسْتجْمَعَ الرَّأيُ ، واستفحل الخَطْبُ " فردّ السين إلى بابها من الطلبِ ، وهو معنّى حسنٌ ، ولذلك قال ابن عطية : " معناه طَلبَ العِصْمَةَ ، واسْتمْسَكَ بها وعصاني " قال أبو حيان : ذكره التَّصريفيَّون في " اسْتَعْصَم " : أنه موافقٌ ل " اعتصم " ، و " اسْتَفْعَلَ " فيه : موافق ل " افتعل " وهذا أجودُ من جعل " استعفل " فيه للطلبِ ؛ لأن " اعْتَصَمَ " يدلُّ على اعتصامه ، وطلبُ المعصمةِ لا يدلُّ على حصولها ، وأما أنه بناءُ مبالغةٍ يدلُّ على الاجتهادِ في الاستزادة من العصمة ، فلم يذكر التصريفيون هذا المعنى ل " اسْتَفْعَلَ " ، وأما " اسْتَمْسكَ ، واسْتَجْمَعَ الرأي ، واسْتوْسَعَ الفَتْقُ ، ف " اسْتَفْعَل " فيه لموافقةِ " افْتَعَلَ " ، والمعنى : امتسك ، واتسع ، واجتمع ، وأما " اسْتَفْحَلَ الخَطْبُ " ف " فاستَفْعَلَ " فيه موافقة ل " تَفعَّل " أي : تفَحَّل الخطب نحو " استْتَكْبرَ وتَكبَّرَ " .
قوله : " مَا آمُرُهُ " في " مَا " وجهان :
والثاني : أنها موصولةٌ ، وهي مفعولٌ بها بقوله : " يَفْعَل " ، والهاءُ في " آمرُرُهُ " تحتمل وجهين :
أحدهما : العودُ على " مَا " الموصولة ، وإذا جعلناها بمعنى الذي .
ولم يجوِّز الزمخشريُّ عودها على يوسف إلا إذا جعلت " ما " مصدرية ، فإنه قال : فإنْ قلت : الضميرُ في : " مَا آمُرُهُ " راجعٌ إلى الموصول أم إلى يوسف ؟ قلتُ : بل إلى الموصول ، والمعنى : ما آمرُ به ، فحذف الجار ؛ كما في قوله : [ البسيط ]
3102 أمَرْتُكَ الخَيْرَ . . . . . . . . . . . *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ويجوز أن تجعل " ما " مصدرية ، فيعود على يوسف ، ومعناه : ولئنْ لم يفعل أمري إيَّاه ، أي : موجبُ أمري ، ومُقْتَضَاهُ " .
وعلى هذا ، فالمفعولُ الأول محذوفٌ ، تقديره : ما آمره به ، وهو ضمير يوسف عليه السلام .
قوله : { وَلَيَكُوناً } قرأ العامة يتخفيف نون " وليَكُوناً " ، ويقفون عليها بالألف ؛ إجراءً لها مجرى التنوين ، ولذلك يحذفونها بعد ضمةٍ ، أو كسرةٍ ، نحو : هل تقومون ؛ وهل تقومين ؟ في : هل تقومن ؟ والنونُ الموجودة في الوقف ، نونُ الرفع ، رجعوا بها عند عدم ما يقتضي حذفها ، وقد تقرر فيما تقدَّم أنَّ نون التوكيدِ تثقَّلن وتخفف ، والوقفُ على قوله : " ليُسْجَنَنَّ " بالنُّونِ ؛ لأنَّها مشددةٌ ، على قوله : " وليَكُوناً " بالألف ؛ لأنها مخففةٌ ، وهي شبيهةٌ بنون الإعراب في الأسماءْ ؛ كقولك : رأيتُ رجلاً ، وإذا وقفت قلت : رجلا ، بالألف ، ومثله :
{ لَنَسْفَعاً بالناصية } [ العلق : 15 ] .
و " مِنَ الصَّاغرينَ " من الأذلاَّءِ ، وقرأت فرقة بتشديدها وفيها مخالفةٌ لسوادِ المصحف ؛ لكتبها فيه ألفاً ؛ لأ ، الوقف عليها كذلك ؛ كقوله : [ الطويل ]
3103 وإيَّاكَ والمَيْتَاتِ لا تَقْربنَّهَا *** ولا تَعْبُدِ الشَّيطانَ واللهَ فاعْبُدَا
أي : فاعْبُدونْ ، فأبدلها ألفاً ، وهو أحدُ الأقوالِ في قول امرىء القيس : [ الطويل ]
4104 قِفَا نَبْكِ . . . . . . . . *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.