اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قَالَتۡ فَذَٰلِكُنَّ ٱلَّذِي لُمۡتُنَّنِي فِيهِۖ وَلَقَدۡ رَٰوَدتُّهُۥ عَن نَّفۡسِهِۦ فَٱسۡتَعۡصَمَۖ وَلَئِن لَّمۡ يَفۡعَلۡ مَآ ءَامُرُهُۥ لَيُسۡجَنَنَّ وَلَيَكُونٗا مِّنَ ٱلصَّـٰغِرِينَ} (32)

قوله : " فَذلِكُنَّ " مبتدأ ، والموصول خبره ، أشارت إليه إشارة البعيد ، وإن كان حاضراً ؛ تعظيماً له ، ورفعاً منه لتُظهرَ عذرها في شغفها .

وجوَّز ابنُ عطية : " أن يكون " ذَلِكَ " إشارةٌ إلى حبِّ يوسف عليه الصلاة والسلام والضمير في " فِيهِ " عائدٌ على الحبِّ ، فيكون " ذَلِكَ " إشارةً إلى غَائبٍ على بابه " .

يعنى بالغائب : البَعيِدَ ، وإلا فالإشارةُ لا تكون إلاَّ لحاضرٍ مُطلقاً .

وقال ابن الأنباري : " أشارت بصيغةِ " ذَلِكَ " إلى يوسف بعد انصرافه من المجلسِ " .

وقال الزمخشري : " إنَّ النسوة كُنَّ قلن : إنها عَشقَتْ عبْدَها الكنْعَانيَّ ، فلمَّا رأينه ، وفعن في تلك الدَّهشة ، قالت : هذا الذي رأيتموهُ ، هو العبد الكنعاني الذي لمُتُنَّنِي فيه ، يعني : أنكَّن لم تصورنه بحقِّ صورتهن فلو حصلت في خيالكُنَّ صُرتهُ ، لتركتن هذه الملامةً " .

واعلم أنها لما أظهرت عذرها عند النسوة ، في شدَّة محبَّتها له ، كشف عن حقيقة الحال ؛ فقالت : { ولقَدْ رَاوَدتُهُ عَنْ نَفسِهِ فاسْتَعْصمَ } وهذا تصريحٌ بأنه عليه الصلاة واسلام كان بريئاً من تلك التُّهمةِ .

وقال السديُّ : " فاسْتَعْصمَ " بعد حلِّ السَّراويل .

قال ابن الخطيب : " وما أدري ما الذي حمله على إلحاقِ هذه الزيادةِ الفَاسدةِ الباطلةِ بنص الكتاب ؟ ! وذل أنَّها صرَّحتْ بما فعلت : { ولقَدْ رَاوَدتُهُ عَنْ نَفسِهِ فاسْتَعْصمَ } أي : فامتنع ، وإنما صرَّحت به ؛ لأنها علمت أنه لا ملامة عليها منهنَّ ، وقد أصابهنَّ ما أصابهن ، من رُؤيته .

قوله : " فاسْتَعْصمَ " في هذه السين وجهان :

أحدهما : أنها ليست على بابها من الطلب ، بل " اسْتَفْعَل " هنا مبعنى " افْتَعَل " فاستعصم و " اعْتصَمَ " واحدٌ وقال الزمخشريُّ : " الاستعصام بناءُ للمبالغة يدلُّ على الامتناع البليغ ، والتحفُّظ الشَّديد ، كأنه في عصمةِ ، وهو مجتهدٌ في الزيادة فيها ، والاستزادة منها ، ونحوه : اسْتمْسَكَ ، واسْتوْسَعَ الفتقُ ، واسْتجْمَعَ الرَّأيُ ، واستفحل الخَطْبُ " فردّ السين إلى بابها من الطلبِ ، وهو معنّى حسنٌ ، ولذلك قال ابن عطية : " معناه طَلبَ العِصْمَةَ ، واسْتمْسَكَ بها وعصاني " قال أبو حيان : ذكره التَّصريفيَّون في " اسْتَعْصَم " : أنه موافقٌ ل " اعتصم " ، و " اسْتَفْعَلَ " فيه : موافق ل " افتعل " وهذا أجودُ من جعل " استعفل " فيه للطلبِ ؛ لأن " اعْتَصَمَ " يدلُّ على اعتصامه ، وطلبُ المعصمةِ لا يدلُّ على حصولها ، وأما أنه بناءُ مبالغةٍ يدلُّ على الاجتهادِ في الاستزادة من العصمة ، فلم يذكر التصريفيون هذا المعنى ل " اسْتَفْعَلَ " ، وأما " اسْتَمْسكَ ، واسْتَجْمَعَ الرأي ، واسْتوْسَعَ الفَتْقُ ، ف " اسْتَفْعَل " فيه لموافقةِ " افْتَعَلَ " ، والمعنى : امتسك ، واتسع ، واجتمع ، وأما " اسْتَفْحَلَ الخَطْبُ " ف " فاستَفْعَلَ " فيه موافقة ل " تَفعَّل " أي : تفَحَّل الخطب نحو " استْتَكْبرَ وتَكبَّرَ " .

قوله : " مَا آمُرُهُ " في " مَا " وجهان :

أحدهما : مصدريةٌ .

والثاني : أنها موصولةٌ ، وهي مفعولٌ بها بقوله : " يَفْعَل " ، والهاءُ في " آمرُرُهُ " تحتمل وجهين :

أحدهما : العودُ على " مَا " الموصولة ، وإذا جعلناها بمعنى الذي .

الثاني : العودُ على يوسف .

ولم يجوِّز الزمخشريُّ عودها على يوسف إلا إذا جعلت " ما " مصدرية ، فإنه قال : فإنْ قلت : الضميرُ في : " مَا آمُرُهُ " راجعٌ إلى الموصول أم إلى يوسف ؟ قلتُ : بل إلى الموصول ، والمعنى : ما آمرُ به ، فحذف الجار ؛ كما في قوله : [ البسيط ]

3102 أمَرْتُكَ الخَيْرَ . . . . . . . . . . . *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ويجوز أن تجعل " ما " مصدرية ، فيعود على يوسف ، ومعناه : ولئنْ لم يفعل أمري إيَّاه ، أي : موجبُ أمري ، ومُقْتَضَاهُ " .

وعلى هذا ، فالمفعولُ الأول محذوفٌ ، تقديره : ما آمره به ، وهو ضمير يوسف عليه السلام .

قوله : { وَلَيَكُوناً } قرأ العامة يتخفيف نون " وليَكُوناً " ، ويقفون عليها بالألف ؛ إجراءً لها مجرى التنوين ، ولذلك يحذفونها بعد ضمةٍ ، أو كسرةٍ ، نحو : هل تقومون ؛ وهل تقومين ؟ في : هل تقومن ؟ والنونُ الموجودة في الوقف ، نونُ الرفع ، رجعوا بها عند عدم ما يقتضي حذفها ، وقد تقرر فيما تقدَّم أنَّ نون التوكيدِ تثقَّلن وتخفف ، والوقفُ على قوله : " ليُسْجَنَنَّ " بالنُّونِ ؛ لأنَّها مشددةٌ ، على قوله : " وليَكُوناً " بالألف ؛ لأنها مخففةٌ ، وهي شبيهةٌ بنون الإعراب في الأسماءْ ؛ كقولك : رأيتُ رجلاً ، وإذا وقفت قلت : رجلا ، بالألف ، ومثله :

{ لَنَسْفَعاً بالناصية } [ العلق : 15 ] .

و " مِنَ الصَّاغرينَ " من الأذلاَّءِ ، وقرأت فرقة بتشديدها وفيها مخالفةٌ لسوادِ المصحف ؛ لكتبها فيه ألفاً ؛ لأ ، الوقف عليها كذلك ؛ كقوله : [ الطويل ]

3103 وإيَّاكَ والمَيْتَاتِ لا تَقْربنَّهَا *** ولا تَعْبُدِ الشَّيطانَ واللهَ فاعْبُدَا

أي : فاعْبُدونْ ، فأبدلها ألفاً ، وهو أحدُ الأقوالِ في قول امرىء القيس : [ الطويل ]

4104 قِفَا نَبْكِ . . . . . . . . *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وأجرى الوصل مجرى الوقف .