تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير  
{قَالَتۡ فَذَٰلِكُنَّ ٱلَّذِي لُمۡتُنَّنِي فِيهِۖ وَلَقَدۡ رَٰوَدتُّهُۥ عَن نَّفۡسِهِۦ فَٱسۡتَعۡصَمَۖ وَلَئِن لَّمۡ يَفۡعَلۡ مَآ ءَامُرُهُۥ لَيُسۡجَنَنَّ وَلَيَكُونٗا مِّنَ ٱلصَّـٰغِرِينَ} (32)

{ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ } قال بعضهم : بقولهن . وقال محمد بن إسحاق : بل{[15145]} بَلَغهُنَّ حُسْنُ يوسف ، فأحببن أن يرينه ، فقلن ذلك ليتوصلن إلى رؤيته ومشاهدته ، فعند ذلك { أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ } أي : دعتهن إلى منزلها لتضيفهن { وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً }

قال ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، والحسن ، والسدي ، وغيرهم : هو المجلس المعد ، فيه مفارش ومخاد وطعام ، فيه ما يقطع بالسكاكين من أترج{[15146]} ونحوه . ولهذا قال تعالى : { وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا } وكان هذا مكيدة منها ، ومقابلة لهن في احتيالهن على رؤيته ، { وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ } وذلك أنها كانت قد خبأته في مكان آخر ، { فَلَمَّا } خرج و { رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ } أي : أعظمن شأنه ، وأجللن قدره ؛ وجعلن يقطعن أيديهن دَهَشا برؤيته ، وهن يظنن أنهن يقطعن الأترج{[15147]} بالسكاكين ، والمراد : أنهن حززن أيديهن بها ، قاله غير واحد .

وعن مجاهد ، وقتادة : قطعن أيديهن حتى ألقينها ، فالله{[15148]} أعلم .

وقد ذكر عن زيد بن أسلم أنها قالت لهن بعدما أكلن وطابت أنفسهن ، ثم وضعت بين أيديهن أترجا{[15149]} وآتت كل واحدة منهن سكينا : هل لكن في النظر إلى يوسف ؟ قلن : نعم . فبعثت إليه تأمره أن اخرج إليهن{[15150]} فلما رأينه جعلن يقطعن أيديهن ، ثم أمرته أن يرجع فرجع ليرينه مقبلا ومدبرا ، وهن يحززن في أيديهن ، فلما أحسسن بالألم جعلن يولولن ، فقالت : أنتن من نظرة واحدة فعلتن هكذا ، فكيف ألام أنا ؟ فقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم ، ثم قلن لها : وما نرى عليك من لوم بعد الذي رأينا ، لأنهن لم يرين في البشر شبهه ولا قريبا منه ، فإنه ، صلوات الله عليه وسلم{[15151]} كان قد أعطي شطر الحسن ، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح في حديث الإسراء : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بيوسف ، عليه السلام ، في السماء الثالثة ، قال : " فإذا هو قد أعطي شطر الحسن " {[15152]} وقال حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أعطي يوسف وأمه شطر الحسن " {[15153]} وقال سفيان الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله بن مسعود قال : أعطي يوسف وأمه ثلث الحسن .

وقال أبو إسحاق أيضا ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله قال : كان وجه يوسف مثل البرق ، وكانت المرأة إذا أتته لحاجة غطى وجهه مخافة أن تفتتن به .

ورواه الحسن البصري مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أعطي يوسف وأمه ثلث حسن أهل الدنيا ، وأعطى الناس الثلثين - أو قال : أعطي يوسف وأمه الثلثين والناس الثلث " {[15154]} وقال سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد عن ربيعة الجُرَشي قال : قسم الحسن نصفين ، فأعطي يوسف وأمه سارة نصف الحسن . والنصف الآخر بين سائر الخلق .

وقال الإمام أبو القاسم السهيلي : معناه : أن يوسف كان على النصف من حسن آدم ، عليه السلام ، فإن الله خلق آدم بيده على أكمل صورة وأحسنها ، ولم يكن في ذريته من يوازيه في جماله ، وكان يوسف قد أعطي شطر حسنه .

فلهذا قال هؤلاء النسوة عند رؤيته : { حَاشَ لِلَّهِ } قال مجاهد وغير واحد : معاذ الله ، { مَا هَذَا بَشَرًا } وقرأ بعضهم : " ما هذا بِشِرىً " أي : بمشترى .

{ إِنْ هَذَا إِلا مَلَكٌ كَرِيمٌ قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ } تقول هذا معتذرة إليهن بأن هذا حقيق بأن يحبّ لجماله وكماله .

{ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ } أي : فامتنع . قال بعضهم : لما رأين جماله الظاهر ، أخبرتهن بصفاته الحسنة التي تخفى عنهن ، وهي{[15155]} العفة مع هذا الجمال ، ثم قالت تتوعد{[15156]} { وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ } فعند ذلك استعاذ يوسف ، عليه السلام ، من شرهن وكيدهن ، وقال : { رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ } أي : من الفاحشة ، { وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ } أي : إن وكلتني إلى نفسي ، فليس لي من نفسي قدرة ، ولا أملك لها ضرا ولا نفعا إلا بحولك وقوتك ، أنت المستعان وعليك التكلان ، فلا تكلني إلى نفسي .

{ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } وذلك أن يوسف ، عليه السلام ، عَصَمه الله عصمة عظيمة ، وحماه فامتنع منها أشد الامتناع ، واختار السجن على ذلك ، وهذا في غاية مقامات الكمال : أنه مع شبابه وجماله وكماله تدعوه سيدته ، وهي امرأة عزيز مصر ، وهي مع هذا في{[15157]} غاية الجمال والمال ، والرياسة ويمتنع من ذلك ، ويختار السجن على ذلك ، خوفا من الله ورجاء ثوابه .

ولهذا ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : إمام عادل ، وشاب نشأ في عبادة الله{[15158]} ورجل قلبه معلق بالمسجد{[15159]} إذا خرج منه حتى يعود إليه ، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وافترقا{[15160]} عليه ، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه ، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه ، ورجل دعته امرأة ذات جمال ومنصب ، فقال : إني أخاف الله " {[15161]}


[15145]:- في ت ، أ : "قيل".
[15146]:- في ت ، أ : "أترنج".
[15147]:- في : "الأترج".
[15148]:- في أ : "والله".
[15149]:- في أ : "أترنجا".
[15150]:- في أ : "عليهن".
[15151]:- في ت ، أ : "وسلامه".
[15152]:- رواه مسلم في صحيحه برقم (162) من حديث أنس رضي الله عنه.
[15153]:- رواه الطبري في تفسيره (16/80) والحاكم في المستدرك (2/570) وابن عدي في الكامل (5/385) من طريق عفان عن حماد بن سلمة به ، وقال الحاكم : "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه". قال ابن عدي : "وهذا الحديث ما أعلم رفعه أحد غير عفان ، وغيره أوقفه عن حماد بن سلمة ، وعفان أشهر وأوثق وأصدق من أن يقال فيه شيء مما ينسب إلى الضعف".
[15154]:-) رواه الطبري في تفسيره (16/80).
[15155]:- في ت : "عليهن وهو".
[15156]:- في ت ، أ : "تتوعده".
[15157]:- في ت : "إلى".
[15158]:- في ت : "في طاعة الله عز وجل".
[15159]:- في ت ، أ : "في المسجد".
[15160]:- في ت ، أ : "وتفرقا".
[15161]:- صحيح البخاري برقم (1423) وصحيح مسلم برقم (1031) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.