غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{قَالَتۡ فَذَٰلِكُنَّ ٱلَّذِي لُمۡتُنَّنِي فِيهِۖ وَلَقَدۡ رَٰوَدتُّهُۥ عَن نَّفۡسِهِۦ فَٱسۡتَعۡصَمَۖ وَلَئِن لَّمۡ يَفۡعَلۡ مَآ ءَامُرُهُۥ لَيُسۡجَنَنَّ وَلَيَكُونٗا مِّنَ ٱلصَّـٰغِرِينَ} (32)

21

وأما قول زليخا : { فذلكن الذي لمتنني فيه } فإنما ينطبق على هذا التأويل من حيث إن الصورة الحسنة مع العفة الكاملة توجب حصول اليأس من الوصال وحصول الغرض المجازي وذلك يستتبع فرط الحيرة وزيادة العشق . وعلى القولين الأولين فالمعنى تنزيه الله من صفات العجز والتعجب من قدرته على خلق جميل مثله ، كما أن قولهن { حاش لله ما علمنا عليه } تعجب من قدرته على خلق عفيف مثله . قال صاحب الكشاف : " حاشا " كلمة تفيد معنى التنزيه في باب الاستثناء واللام في { لله } لبيان من يبرأ وينزه وهي حرف من حروف الجر وضع موضع التنزيه والبراءة . وقال أبو البقاء : الجمهور على أنه ههنا فعل لدخوله على حرف الجر وفاعله مضمر ، وحذف الألف من آخره للتخفيف وكثرة دوره على الألسنة تقديره حاشى يوسف أي بعد عن المعصية لخشية الله وصار في حاشية أي ناحية . { ما هذا بشراً } أعمال ما عمل ليس لغة حجازية { إن هذا } أي ما هذا الشخص { إلا ملك كريم } استدل بعضهم بالآية على أفضلية الملك كما مر في أول سورة البقرة قالوا : وإنما قلن ذلك لما ركز في العقول أن لا أحسن من صورة الملك كما ركز فيها أن لا أقبح من صورة الشيطان . واعترض عليه بأنه لا مشابهة بين صورة الإنسان وصورة الملك . وأجيب بعد التسليم بتغيير المدعي وهو أنهن أردن المشابهة في الأخلاق الباطنة وبها يحصل المطلوب ، وزيف بأن قول النساء لا يصلح للحجة ، وفي الآية دلالة على أن اللوم انتفى لأنه لحقهن بنظرة واحدة يلحقها في مدة طويلة وأنظار كثيرة فلذلك { قالت فذلكن الذي لمتنني فيه } وسئل ههنا إن يوسف كان حاصراً فلم أشارت بعبارة البعيد ؟ وأجاب ابن الأنباري بأنها أشارت إليه بعد انصرافه من المجلس وهذا شيء يتعلق بالنقل . وأما علماء البيان فإنهم بنوا الأمر على أن يوسف حاضر وأجابوا بأنها لم تقل فهذا رفعاً لمنزلته في الحسن واستحقاق أن يحب ويفتتن به واستبعاداً لمحله ، أو هو إشارة إلى المعنيّ بقولهن في المدينة عشقت عبدها الكنعاني كأنها قالت هو ذلك العبد الكنعاني الذي صوّرتن في أنفسكن ثم لمتنني فيه يعني أنكن لم تصوّرنه قبل ذلك حق التصوير وإلا عذرتنني في الافتتان به . ولما أظهرت عذرها عند النسوة صرحت بحقيقة الحال فقالت : { ولقد راودته عن نفسه فاستعصم } قال السدي : أي بعد حل السراويل : والذين يثبتون عصمة الأنبياء قالوا : إن { استعصم } بناء مبالغة يدل على الامتناع البليغ والتحرز الشديد كأنه في عصمة وهو يجتهد في الاستزادة منها ، وفيه شهادة من المرأة على أن يوسف ما صدر عنه أمر بخلاف الشرع والعقل أصلاً . { ولئن لم يفعل ما آمره } قال في الكشاف : معناه الذي آمر به فحذف الجار كما في أمرتك الخير ، أو ما مصدرية والضمير ليوسف أي أمري إياه أي موجب أمري ومقتضاه { وليكونا من الصاغرين } هي نون التأكيد المخففة ولهذا تكتب بالألف لأن الوقف عليها بالألف . والصغار الذل والهوان ، ومعلوم أن التوعد بالصغار له تأثير عظيم في حق من كان رفيع النفس جليل القدر مثل يوسف ثم إنه اجتمع على يوسف في هذه الحالة أنواع من المحن والفتن منها : أن زليخا كانت في غاية الحسن ، ومنها أنها كانت ذات مال وثروة قد عزمت أن تبذل الكل ليوسف على تقدير أن يساعدها ، ومنها أن النسوة اجتمعن عليه مرغبات ومخوفات ، ومنها أنها كانت ذات قدرة ومكنة وكان خائفاً من شرها ومن إقدامها على قتله ، ولا ريب أن نطاق عصمة البشرية يضيق عن بعض هذه الأسباب فضلاً عن كلها وعن أزيد منها ولهذا لجأ يوسف عليه السلام إلى الله تعالى قائلاً : { رب السجن أحب إليّ مما يدعونني إليه } .

/خ35