روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{أَوَلَمۡ يَرَوۡاْ إِلَىٰ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيۡءٖ يَتَفَيَّؤُاْ ظِلَٰلُهُۥ عَنِ ٱلۡيَمِينِ وَٱلشَّمَآئِلِ سُجَّدٗا لِّلَّهِ وَهُمۡ دَٰخِرُونَ} (48)

{ أَوَلَمْ يَرَوْاْ } الهمزة للإنكار والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام . والرؤية بصرية مؤدية إلى التفكر والضمير للذين مكروا السيئات أي ألم ينظر هؤلاء الماكرون ولم يروا متوجهين { إلى مَا خَلَقَ الله } .

وقيل : الضمير للناس الشامل لأولئك وغيرهم والإنكار بالنسبة إليهم . وقرأ السلمي . والأعرج . والإخوان { أَوَ لَمْ * تَرَوْاْ } بتاء الخطاب جرياً على أسلوب قوله تعالى : { فَإِنَّ رَبَّكُمْ } [ النحل : 47 ] كما أن الجمهور قرءوا بالياء جرياً على أسلوب قوله تعالى : { أَفَأَمِنَ الذين مَكَرُواْ } [ النحل : 45 ] وذكر الخفاجي وغيره أن قراءة التاء على الالتفات أو تقدير قل أو الخطاب فيها عام للخلق و { مَا } موصولة مبهمة ، وقوله تعالى : { مِن شَىْء } بيان لها لكن باعتبار صفته وهي قوله تعالى : { يَتَفَيَّأُ ظلاله } فهي المبينة في الحقيقة والموصوف توطئة لها وإلا فأي بيان يحصل به نفسه ، والتفيؤ تفعل من فاء يفيء فيئاً إذا رجع وفاء لازم وإذا عدى فبالهمزة أو التضعيف كأفاءه الله تعالى وفيأه فتفيأ وتفيأ مطاوع له لازم ، وقد استعمله أبو تمام متعدياً في قوله من قصيدة يمدح بها خالد بن يزيد الشيباني :

طلبت ربيع ربيعه الممهى لها . . . وتفيأت ظلاله ممدوداً

ويحتاج ذلك إلى نقل من كلام العرب ، والظلال جمع ظل وهو في قول ما يكون بالغداة وهو ما لم تنله الشمس والفيء ما يكون بالعشي وهو ما انصرفت عنه الشمس وأنشدوا له قول حميد بن ثور يصف سرحة وكنى( {[531]} ) بها عن امرأة :

فلا الظل من برد الضحى تستطيعه . . . ولاالفىء من برد العشي تذوق

ونقل ثعلب عن رؤبة ما كانت عليه الشمس فزالت عنه فهو فيء وظل وما لم تكن عليه فهو ظل فالظل أعم من الفيء ، وقيل : هما مترادفان يطلق كل منهما على ما كان قبل الزوال وعلى خلافه ، وأنشد أبو زيد للنابغة الجعدي :

فسلام الإله يغدو عليهم . . . وفيوء الفردوس ذات الظلال

والمشهور أن الفيء لا يكون إلا بعد الزوال ، ومن هنا قال الأزهري : إن تفيء الظلال رجوعها بعد انتصاف النهار ، وقال أبو حيان : إن الاعتبار من أول النهار إلى آخره ، وإضافة الظلال إلى ضمير المفرد لأن مرجعه وإن كان مفرداً في اللفظ لكنه كثير في المعنى ، ونظير ذلك أكثر من أن يحصى ، والمعنى أو لم يروا الأشياء التي ترجع وتتنقل ظلالها { عَنِ اليمين والشمآئل } والمراد بها الأشياء الكثيفة من الجبال والأشجار وغيرها سواء كان جماد أو إنساناً على ما عليه بعض المفسرين ، وخصها بعضهم بالجمادات التي لا يظهر لظلالها أثر سوي التفيء بواسطة الشمس على ما ستعلمه إن شاء الله تعالى دون ما يشمل الحيوان الذي يتحرك ظله بتحركه ، وكلا القولين على تقدير كون { مِنْ } بيانية كما سمعت ؛ وذهب بعض المحققين إلى العموم لكنه جعل من ابتدائية متعلقة بخلق والمراد بما خلقه من شيء عالم الأجسام المقابل لعالم الروح والأمر الذي لم يخلق من شيء بل وجد بأمر كن كما قال سبحانه :

{ ألا لَهُ الخلق والأمر } [ الأعراف : 54 ] ، ولا يخفى بعده ، واعترض أيضاً بأن السموات والجن من عالم الأجسام والخلق ولا ظل لها ومقتضى عموم { مَا } أنه لا يخلو شيء منها عنه بخلاف ما إذا جعلت من بيانية و { *يتفيؤ } صفة شيء مخصصة له . ورد بأن جملة { *يتفيؤ } حينئذ ليست صفة لشيء إذ المراد إثبات ذلك لما خلق من شيء لإله وليس صفة لما لتخالفهما تعريفاً وتنكيراً بل هي مستأنفة لإثبات أن له ظلالاً متفيئة وعموم { فِى مَا } لا يوجب أن يكون المعنى لكل منه هذه الصفة .

وتعقب بأنه إن أريد أنه لا يقتضي العموم ظاهراً فممنوع وإن أريد أنه يحتمل فلا يرد رداً لأنه مبني على الظاهر المتبادر ، والمراد باليمين والشمائل على ما قيل جانباً الشيء استعارة من يمين الإنسان وشماله أو مجازاً من إطلاق المقيد على المطلق أي ألم يروا الأشياء التي لها ظلال متفيئة عن جانبي كل واحد منها ترجع من جانب إلى جانب بارتفاع الشمس وانحدارها أو باختلاف مشارقها ومغاربها فإن لها مشارق ومغارب بحسب مداراتها اليومية حال كون تلك الظلال { سُجَّدًا لِلَّهِ } أي منقادة له تعالى جارية على ما أراد من الامتداد والتقلص وغيرهما غير ممتنعة عليه سبحانه فيما سخرها له وهو المراد بسجودها ، وقد يفسر باللصوق في الأرض أي حال كونها لاصقة بالأرض على هيئة الساجد ، وقوله تعالى : { وَهُمْ داخرون } حال من ضمير { ظلاله } الراجع إلى شيء ، والجمع باعتبار المعنى وصح مجيء الحال من المضاف إليه لأنه كالجزء ، وإيراد الصيغة الخاصة بالعقلاء لما أن الدخور من خصائصهم فإنه التصاغر والذل ، قال ذو الرمة :

فلم يبق إلا داخر في مخيس( {[532]} ) . . . ومنحجر في غير أرضك في حجر

فالكلام على الاستعارة أو لأن في جملة ذلك من يعقل فغلب ، ووجه التعبير بهم يعلم مما ذكر ، ويجوز أن يعتبر وجهه أولاً ويجعل ما بعده جارياً على المشاكلة له أي والحال أن أصحاب تلك الظلال ذليلة منقادة لحكمه تعالى ، ووصفها بالدخور مغن عن وصف ظلالها به ، وجوز كون { سُجَّدًا } والجملة حالين من الضمير أي ترجع ظلال تلك الأجرام حال كون تلك الأجرام منقادة له تعالى داخرة فوصفها بهما مغن عن وصف ظلالها بهما .

والمراد بالسجود أيضاً الانقياد سواء كان بالطبع أو بالقسر أو بالإرادة ، فلا يرد على احتمال أن يكون المراد { بِمَا خَلَقَ } شاملاً للعقلاء وغيرهم كيف يكون { سُجَّدًا } حالاً من ضميره وسجود العقلاء غير سجود غيرهم .

وحاصل ما أشرنا إليه أن ذلك من عموم المجاز ، والأمر على احتمال أن يراد من ذاك الجمادات ظاهر ، وزعم بعضهم أن السجود حقيقة مطلقاً وهو الوقوع على الأرض على قصد العبادة ويستدعي ذلك الحياة والعلم لتقصد العبادة ، وليس بشيء كما لا يخفى ، ثم إن قلنا على هذا الوجه : إن الواو حالية كما أشير إليه فالحالات مترادفتان ، وتعدد الحال جائز عند الجمهور ، ومن لم يجوز جعل الثانية بدل اشتمال أو بدل كل من كل كما فصله السمين ، وإن قلنا : إنها عاطفة فلا تكون الحال مترادفة بل متعاطفة ، وقال أبو البقاء : { سُجَّدًا } حال من الظلال { وَهُمْ داخرون } حال من الضمير في { سُجَّدًا } ويجوز أن يكون حالاً ثانية معطوفة اه ، وفيه القول بالتداخل وهو محتمل على تقدير كون { سُجَّدًا } حالاً من ضمير { ظلاله } والوجه الأول هو المختار عند الزمخشري ، ورجحه في «الكشف » فقال : إن انقياد الظل وذي الظل مطلوب ، ألا ترى إلى قوله تعالى : { وظلالهم بالغدو والاصال } [ الرعد : 15 ] فجاعلهما حالاً من الضمير في { ظلاله } مقصر ، وفيه تكميل حسن لما وصف الظلال بالسجود وصف أصحابها بالدخور الذي هو أبلغ لأنه انقياد قهري مع صفة المنقاد ، ولم يجعل حالاً من الراجع إلى الموصول في { خَلَقَ الله } إذ المعنى على تصوير سجود الظل وذيه وتقارنهما في الوجود لا على مقارنة الخلق والدخور ، والعامل في الحال الثاني { *يتفيؤ } على ما قال ابن مالك في قوله تعالى : { قُلْ بَلْ مِلَّةَ إبراهيم حَنِيفًا } [ البقرة : 135 ] اه ، ومنه يعلم ما في إعراب أبي البقاء . نعم أن في هذا الوجه بعداً لفظياً والأمر فيه هين ، وأما جعل { وَهُمْ داخرون } { وانشق القمر وَإِن يَرَوْاْ } فمما لا يصح بحال كما لا يخفى .

هذا وذكر الإمام في اليمين والشمال قولين غير ما تقدم . الأول : أن المراد بهما المشرق والمغرب تشبيهاً لهما بيمين الإنسان وشماله فإن الحركة اليومية آخذة من المشرق وهوى أقوى الجانبين فهو اليمين والجانب الآخر الشمال فالظلال في أول النهار تبتدىء من الشرق واقعة على الربع الغربي من الأرض وعند الزوال تبتدىء من الغرب واقعة على الربع الشرقي منها . والثاني : يمين البلد وشماله ، وذلك أن البلدة التي يكون عرضها أقل من مقدار الميل الكلي وهو «كجل يز أو كحله » على اختلاف الارصاد فإن في الصيف تحصل الشمس على يمين تلك البلدة وحينئذ تقع الإظلال على يسارها وفي الشتاء بالعكس ، ولا يخفى ما في الثاني فإنه مختص بقطر مخصوص والكلام ظاهر في العموم ، وقيل : المراد باليمين والشمال يمين مستقبل الجنوب وشماله ، و { عَنْ } كما قال الحوفي متعلقة { *بيتفيؤ } وقال أبو البقاء : متعلقة بمحذوف وقع حالاً ، وقيل : هي اسم بمعنى جانب فتكون في موضع نصب على الظرفية ، ولهم في توحيد { عَنِ اليمين } وجمع { *الشمائل } وهو جمع غير قياسي كلام طويل .

فقيل : إن العرب إذا ذكرت صيغتي جمع عبرت عن إحداهما بلفظ المفرد كقوله تعالى : { جَعَلَ * الظلمات والنور } [ الأنعام : 1 ] و { خَتَمَ الله على قُلُوبِهِمْ وعلى سَمْعِهِمْ } [ البقرة : 7 ] وقيل : إذا فسرنا اليمين بالمشرق كان النقطة التي هي مشرق الشمس واحدة بعينها فكانت اليمين واحدة ، وأما الشمائل فهي عبارة عن الانحرافات الواقعة في تلك الاظلال بعد وقوعها على الأرض وهي كثيرة فلذلك عبر عنها بصيغة الجمع ، وقيل : اليمين مفرد لفظاً لكنه جمع معنى فيطابق الشمائل من حيث المعنى ، وقال الفراء : إنه يحتمل أن يكون مفرداً وجمعاً فإن كان مفرداً ذهب إلى واحد من ذوات الظلال وإن جان جمعاً ذهب إلى كلها لأن ما خلق الله لفظه واحد ومعناه الجمع ، وقال الكرماني : يحتمل أن يراد بالشمائل الشمال والقدام والخلف لأن الظل يفيء من الجهات كلها فبدأ باليمين لأن ابتداء التفيء منها أو تيمناً بذكرها ، ثم جمع الباقي على لفظ الشمال لما بين الشمال واليمين من التضاد ، ونزل الخلف والقدام منزلة الشمال لما بينهما وبين اليمين من الخلاف ، وهو قريب من الأول . وتعقب بأن فيه جمع اللفظ باعتبار حقيقته ومجازه وفي صحته مقال ، وقيل : المراد باليمين يمين الواقف مستقبل المشرق ويسمى الجنوب وبالشمال شماله فكأنه قيل : يتفيؤ ظلاله عن الجنوب إلى الشمال وعن الشمال إلى الجنوب ولما كان غالب المعمورة شمالي وظلالها كذلك جمع الشمال ولم يجمع اليمين ، وهو كما ترى ، ونقل أبو حيان عن أستاذه الحسن علي بن الصائغ أنه أفرد وجمع بالنظر إلى الغايتين لأن ظل الغداة يضمحل حتى لا يبقى مه إلا اليسير فكأنه في جهة واحدة ، وهو في العشي على العكس لاستيلائه على جميع الجهات فلحظت الغايتان ، هذا من جهة المعنى وأما منجهة اللفظ فجمع الثاني ليطابق { سُجَّدًا } المجاور له شمالاً كما أفرد الأول ليطابق ضمير { ظلاله } المجاور له يميناً ، ولا يخفى ما في التقديم والتأخير من حسن رعاية الأصل والفرع أيضاً ، فحصل في الآية مطلقة اللفظ للمعنى وملاحظتهما معاً وتلك الغاية في الإعجاز ، ويخطر لي وجه آخر في الأفراد والجمع مبني على أن المراد باليمين جهة المشرق وبالشمال جهة المغرب ، وهو أنه لما كانت الجهة الأولى مطلع النور والجهة الثانية مغربه ومظهر الظلمة أفرد ما يدل على الجهة الأولى كما أفرد { النور } في كل القرآن ، وجمع يدل على الجهة الثانية كما جمع الظلمة كذلك وإفراد النور وجمع الظلمة تقدم الكلام فيهما ، وقد يقال : إن جمع الظلال مع إفراد ما قبله وما بعده لأن الظل ظلمة حاصلة من حجب الكثيف الشمس مثلاً عن أن يقع ضوؤها على ما يقابله فجمعت الظلال كما جمعت الظلمات ، ولا يعكر على هذا أنه جمعت المشارق في القرآن كالمغارب إذ كثيراً ما يرتكب أمر لنكتة في مقام ولا يرتكب لها في مقام آخر ، وآخر أيضاً وهوأنه لما كان اليمين عبارة عن جهة المشرق وهو مبدأ الظل وحده مناسبته لتوحيد المبدأ الحقيقي وهو الله تعالى ولا كذلك جهة المغرب ، ولايناسب رعاية نحو هذا في الشمال كما يرشدك إلى ذلك و { كِلْتَا * يَدَيْهِ * يَمِينٍ } ويعين على ملاحظة المبدئية نسبة الخلق إليه تعالى ، وآخر أيضاً وهو أن الظل الجائي من جهة المشرق لا يتعلق به أمر شرعي والجائي من جهة المغرب يتعلق به ذلك ، فإن صلاة الظهر يدخل وقتها بأول حدوثه من تلك الجهة بزوال الشمس عن وسط الماء ، ووقت العصر بصيرورته مثل الشاخص أو مثليه بعد ظل الزوال إن كان كما في الآفاق المائلة ، ووقت المغرب بشموله البسيطة بغروب الشمس ، وما ألطف وقوع { سُجَّدًا } بعد { الشمائل } على هذا ؛ وآخر أيضاً وهو أوفق بباب الإشارة وسيأتي فيه إن شاء الله تعالى الفتاح ، وبعد لمسلك الذهن اتساع فتأمل فلعل ما ذكرته لا يرضيك .

وقد بين الإمام أن اختلاف الظلال دليل على كونها منقادة لله تعالى خاضعة لتقديره وتدبيره سبحانه ، ثم قال : فإن قيل لم لا يجوز أن يقال اختلافها معلل باختلاف الشمس ؟ قلنا : قد دللنا على أن الجسم لا يكون متحركاً لذاته فلا بد أن يكون تحركه من غيره ولا بد من الاستناد بالآخرة إلى واجب الوجود جل شأنه فيرجع أمر اختلاف الظلال إليه تعالى على هذا التقدير .

وأنت تعلم أنه لا ينبغي أن يتردد في أن السبب الظاهري للظلال هو الشمس ونحوها وكثافة الشاخص ، نعم في كون ذلك مستنداً إليه تعالى في الحقيقة ابتداء أو بالواسطة خلاف ، ومذهب السلف غير خفي عليك فقد أشرنا إليه غير مرة فتذكره إن لم يكن على ذكر منك ، ثم الظاهر أن المراد بالظلال الظلال المبسوطة وتسمى المستوية ، ويجوز أن يراد بها ما يشمل الظلال المعكوسة فإنها أيضاً تتفيؤ عن اليمين والشمائل فاعرف ذلك ولا تغفل ، وقرأ أبو عمرو . وعيسى . ويعقوب { *تتفيؤ } بالتاء على التأنيث ، وأمر التأنيث والتذكير في الفعل المسند لمثل الجمع المذكور ظاهر .

وقرأ عيسى { يَتَفَيَّأُ ظلاله } وهو جمع ظلة كحلة وحلل ؛ قال «صاحب اللوامح » : الظلة بالضم الغيم وأما بالكسر فهو الفىء والأول جسم والثاني عرض ، فرأى عيسى أن التفيؤ الذي هو الرجوع بالأجسام أولى ، وأما في العامة فعلى الاستعارة اه ، ويلوح منه القول بالقراءة بالرأي ، ومن الناس من فر الظلال في قراءة العامة بالأشخاص لتكون على نحو قراءة عيسى ، وأنشدوا لاستعمال الظلال في ذلك قول عبدة :

إذا نزلنا نصبنا ظل أخبية . . . وفار للقوم باللحم المراجيل

فإنه إنما تنصب الأخبية لا الظل الذي هو الفيء ، وقول الآخر :

يتبع أفياء الظلال عشية . . . فإنه أراد أفياء الأشخاص . وتعقب ذلك الراغب بأنه لا حجة فيما ذكر فإن قوله : رفعنا ظل أخبية معناه رفعنا الأخبية فرفعنا بها ظلها فكأنه رفع الظل ، وقوله : أفياء الظلال فالظلام فيه عام والفيء خاص والإضافة من إضافة الشيء إلى جنسه ، وقال بعضهم : المراد من الظلة في قراءة عيسى الظل الذي يشبه الظلة ، والمراد بها شيء كهيئة الصفة في الانتفاع به وقيل : الكلام في تلك القراءة على حذف مضاف أي ظلال ظلله ، وتفسير الظلة بما هو كهيئة الصفة ، والمتبادر من الظل حينئذ الظل المعكوس .

( هذا ومن باب الإشارة ) :{ أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إلى مَا خَلَقَ الله مِن شيء } أي ذات وحقيقة مخلوقة أية ذات كانت { يَتَفَيَّأُ ظلاله } قيل : أي يتمثل صوره ومظاهره { عَنِ اليمين } جهة الخير { والشمآئل } [ النحل : 48 ] جهات الشرور ، ولما كانت جهة اليمين إشارة إلى جهة الخير الذي لا ينسب إلا إليه تعالى وحد اليمين ولما كانت جهة الشمال اشارة إلى جهة الشر الذي لا ينبغي أن ينسب إليه تعالى كما يرشد إليه قوله صلى الله عليه وسلم : «والشر ليس إليك » ولكن ينسب إلى غيره سبحانه وكان في الغير تعدد ظاهر جمع الشمال .

وقيل في وجه الأفراد والجمع : إن جميع الموجودات تشترك في نوع من الخير لا تكاد تفئ عنه وهو العشق فقد برهن ابن سينا على سريان قوة العشق في كل واحد من الهويات ولا تكاد تشترك في شر كذلك فما تفئ عنه من الشر لا يكون إلا متعدداً فلذا جمع الشمال ولا كذلك ما تفئ عنه من الخير فلذا أفرد اليمين فليتأمل


[531]:- حيث يقول: أبى الله إلا أن سرحة مالك على كل أفنان العضاة تروق اهـ منه.
[532]:- أي سجن اهـ منه.