روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{إِلَّا رَحۡمَةٗ مِّن رَّبِّكَۚ إِنَّ فَضۡلَهُۥ كَانَ عَلَيۡكَ كَبِيرٗا} (87)

{ إِلاَّ رَحْمَةً مّن رَّبّكَ } استثناء منقطع على ما اختاره ابن الأنباري . وابن عطية . وغيرهما وهو مفسر بلكن في المشهور ، والاستدراك على ما صرح به الطيبي . وغيره . واقتضاه ظاهر كلام جمع عن قوله تعالى : { وَأَنْ * شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ } وقال في الكشف : إنه ليس استدراكاً عن ذلك فإن المستثنى منه { وَكِيلاً } [ الإسراء : 86 ] وهذا من المنقطع الممتنع إيقاعه موقع الاسم الأول الواجب فيه النصب في لغتي الحجاز وتميم كما في قوله تعالى : { لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله } [ هود : 43 ] إلا من رحم في رأي ، وقولهم : لا تكونن من فلان إلا سلاماً بسلام فقد صرح الرضى وغيره بأن الفريقين يوجبون النصب ولا يجوزون الإبدال في المنقطع فيما لا يكون قبله اسم يصح حذفه ، وكون ما نحن فيه من ذلك ظاهر لمن له ذوق ، والمعنى ثم بعد الإذهاب لا تجد من يتوكل علينا بالاسترداد ولكن رحمة من ربك تركته غير منصوب فلم تحتج إلى من يتوكل للاسترداد مأيوس عنه بالفقدان المدلول عليه بِ { لا تجد } [ الإسراء : 86 ] ، والتغاير المعنوي بين الكلامين من دلالة الأول على الاذهاب ضمناً والقاني على خلافه حاصل وهو كاف فافهم ، ويفهم صنيع البعض اختيار أنه استثناء متصل من { وَكِيلاً } [ الإسراء : 86 ] أي لا تجد وكيلا باسترداده إلا الرحمة فانك تجدها مستردة ، وأنت تعلم أن شمول الوكيل للرحمة يحتاج إلى نوع تكلف .

وقال أبو البقاء : إن { رَحْمَةً } نصب على أنه مفعول له والتقدير حفظناه عليك للرحمة ، ويجوز أن يكون نصباً على أنه مفعول مطلق أي ولكن رحمناك رحمة اه وهو كما ترى ، والآية على تقدير الانقطاع امتنان بإبقاء القرآن بعد الامتنان بتنزيله ، وذكروا أنها على التقدير الآخر دالة على عدم الإبقاء فالمنة حينئذ إنما هي في تنزيله ، ولا يخفى ما فيه من الخفاء وما يذكر في بيانه لا يروي الغليل . والآية ظاهرة في أن مشيئة الذهاب به غير متحقق وأن فقدان المسترد إلا الرحمة إنما هو على فرض تحقق المشيئة لكن جاء في الأخبار أن القرآن يذهب به قبل يوم القيامة ، فقد أخرج البيهقي . والحاكم وصححه . وابن ماجه بسند قوي عن حذيفة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتى لا يدري ما صيام ولا صدقة ولا نسك ويسري على كتاب الله تعالى في ليلة فلا يبقى في الآرض منه آية ويبقى الشيخ الكبير والعجوز يقولون أدركنا آباءنا على هذه الكلمة لا إله إلا الله فنحن نقولها .

وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس . وابن عمر قالا : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : «يا أيها الناس ما هذه الكتب التي بلغني أنكم تكتبونها مع كتاب الله تعالى يوشك أن يغضب الله تعالى لكتابه فيسري عليه ليلاً لا يترك في قلب ولا ورق منه حرف إلا ذهب به فقيل : يا رسول الله فكيف بالمؤمنين والمؤمنات ؟ قال : من أراد الله تعالى خيراً أبقى في قلبه لا إله إلا الله »

وأخرج ابن أبي حاتم . والحاكم وصححه عن أبي هريرة قال : يسري على كتاب الله تعالى فيرفع إلى السماء فلا يبقى في الآرض آية من القرآن ولا من التوراة والإنجيل والزبور فينزع من قلوب الرجال فيصبحون في الضلالة لا يدرون ما هم فيه .

وأخرج الديلمي عن ابن عمر مرفوعاً لا تقوم الساعة حتى يرجع القرآن من حيث جاء له دوي حول العرش كدوي النحل فيقول الله عز وجل : مالك ؟ فيقول منك خرجت وإليك أعود أتلي ولا يعمل بي ؛ وأخرجي محمد بن نصر نحو موقوفاً على عبد الله بن عمرو بن العاص ، وأخرج غير واحد عن ابن مسعود أنه قال : سيرفع القرآن من المصاحف والصدور ، ثم قرأ { وَلَئِن شِئْنَا } [ الإسراء : 86 ] الآية ، وفي البهجة أنه يرفع أولاً من المصاحف ثم يرفع لأعجل زمن من الصدور والذاهب به هو جبريل عليه السلام كما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن جده فيا لها من مصيبة ما أعظمها وبلية ما أوخمها فإن دلت الآية على الذهاب به فلا منافاة بينها وبين هذه الأخبار وإذا دلت على إبقائه فالمنافاة ظاهرة إلا أن يقال : إن الإبقاء لا يستلزم الاستمرار ويكفي فيه إبقاؤه إلى قرب قيام الساعة فتدبر ، ومما يرشد إلى أن سوق الآية للامتنان قوله تعالى : { إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ } لم يزل ولا يزال { عَلَيْكَ كَبِيرًا } ومنه إنزال القرآن واصطفاؤه على جميع الخلق وختم الأنبياء عليهم السلام به وإعطاؤه المقام المحمود إلى غير ذلك وقال أبو سهل( {[577]} ) : إلى أنها سيقت لتهديد غيره صلى الله عليه وسلم بإذهاب ما أتوا ليصدهم عن سؤال ما لم يؤتوا كعلم الروح وعلم الساعة .

وقال صاحب التحرير : يحتمل أن يقال : أنه صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الروح وذي القرنين وأهل الكهف وأبطأ عليه الوحي شق عليه ذلك وبلغ منه الغاية فأنزل الله تعالى هذه الآية تسكيناً له صلى الله عليه وسلم .

والتقدير أيعز عليك تأخر الوحي فإنا إن شئنا ذهبنا بما أوحينا إليك جميعه فسكن ما كان يجده صلى الله عليه وسلم وطاب قلبه انتهى ، وكلا القولين كما ترى .


[577]:- قوله وقال أبو سهل إلى أنها كذا في نسخة المؤلف والأولى وذهب أبو سهل الخ كما هو ظاهر اهـ.