{ وَمَا قَدَرُواْ الله } لما حكى سبحانه عن إبراهيم عليه السلام أنه ذكر دليل التوحيد وإبطال الشرك ، وقرر جل شأنه ذلك الدليل بأوضح وجه شرع سبحانه بعد في تقرير أمر النبوة لأن مدار أمر القرآن على إثبات التوحيد والنبوة والمعاد وبهذا ترتبط الآية بما قبلها كما قال الإمام وأولى منه ما قيل : إنه سبحانه( {[277]} ) ( لما بين ) شأن القرءان العظيم وأنه نعمة جليلة منه تعالى على كافة الأمم حسبما نطق به قوله عز وجل : { وَمَا أرسلناك إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين } [ الأنبياء : 107 ] عقب ذلك ببيان غمطهم إياها وكفرهم بها على وجه سرى ذلك إلى الكفر بجميع الكتب الإلهية ، وأصل القدر معرفة المقدار بالسبر ثم استعمل في معرفة الشيء على أتم الوجوه حتى صار حقيقة فيه ، وقال الواحدي : يقال قدر الشيء إذا سبره وأراد أن يعلم مقداره يقدره بالضم قدراً ، وقال صلى الله عليه وسلم : «إن غم عليكم فاقدروا له » أي فاطلبوا أن تعرفوه ، ثم قيل : لمن عرف شيئاً هو يقدر قدره وإذا لم يعرفه بصفاته إنه لا يقدر قدره .
واختلف التفسير هنا فعن الأخفش أن المعنى ما عرفوا الله تعالى { حَقَّ قَدْرِهِ } أي حق معرفته . وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ما عظموا الله تعالى حق تعظيمه . وقال أبو العالية : ما وصفوه حتى صفته والكل محتمل . واختار بعض المحققين ما عليه الأخفش لأنه الأوفق بالمقام أي ما عرفوه سبحانه معرفته الحق في اللطف بعباده والرحمة عليهم ولم يراعوا حقوقه تعالى في ذلك بل أخلوا بها إخلالاً عظيماً { إِذْ قَالُواْ } منكرين لبعثة الرسل عليهم الصلاة والسلام وإنزال الكتب كافرين بنعمه الجليلة فيهما أو ما عرفوه جل شأنه حق معرفته في السخط على الكفار وشدة بطشه بهم حين اجترؤا على إنكار ذلك بقولهم : { مَا أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مّن شَىْء } أي شيئاً من الأشياء فمن للتأكيد ونصب { حَقّ } على المصدرية وهو كما قال أبو البقاء في الأصل صفة للمصدر أي قدره الحق فلما أضيف إلى موصوفه انتصب على ما كان ينتصب عليه . و { إِذْ } ظرف( {[278]} ) للزمان الزمان وهل فيها معنى العلة هنا أم لا ؟ احتمالان ، وأبو البقاء يعلقها بقدروا وليس بالمتعين . وقرىء { قَدْرِهِ } بفتح الدال .
واختلف في قائلي ذلك القول الشنيع ، فأخرج أبو الشيخ عن مجاهد أنهم مشركو قريش . والجمهور على أنهم اليهود ومرادهم من ذلك الطعن في رسالته صلى الله عليه وسلم على سبيل المبالغة فقيل لهم على سبيل الالزام { قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكتاب الذى جَاء بِهِ موسى } فإن المراد أنه تعالى قد أنزل التوراة على موسى عليه السلام ولا سبيل لكم إلى إنكار ذلك فلم لا تجوزون إنزال القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم وبهذا ينحل استشكال ما عليه الجمهور بأن اليهود يقولون إن التوراة كتاب الله تعالى أنزله على موسى عليه السلام فكيف يقولون : { مَا أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مّن شَىْء } وحاصل ذلك أنهم أبرزوا إنزال القرآن عليه عليه الصلاة والسلام في صورة الممتنعات حتى بالغوا في إنكاره فألزموا بتجويزره ، وقيل : إن صدور هذا القول كان عن غضب وذهول عن حقيقته ، فقد أخرج ابن جرير والطبراني عن سعيد بن جبير أن مالك بن الصيف من أحبار اليهود( {[279]} ) قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أنشدك الله تعالى الذي أنزل التوراة على موسى هل تجد فيها أن الله تعالى يبغض الحبر السمين ؟ فأنت الحبر السمين قد سمنت من مالك الذي يطعمك اليهود فضحك القوم فغضب فالتفت إلى عمر رضي الله تعالى عنه فقال : ما أنزل الله على بشر من شيء فقال له قومه : ما هذا الذي بلغنا عنك ؟ قال : إنه أغضبني فنزعوه وجعلوا مكانه كعب بن الأشرف فأنزل الله تعالى هذه الآية ، واعترض بأن هذا لا يلائم الإلزام بإنزال التوراة على موسى عليه السلام فقد اعترف القائل بأنه إنما صدر ذلك عنه من الغضب فليفهم .
ولا يرد أن هذه السورة مكية والمناظرات التي وقعت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين اليهود كلها مدنية فلا يتأتى القول بأن الآية نزلت في اليهود لما أخرج أبو الشيخ عن سفيان والكلبي أن هذه الآية مدنية ، واستشكل أيضاً قول مجاهد بأن مشركي قريش كما ينكرون رسالة النبي صلى الله عليه وسلم ينكرون رسالة سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فكيف يحسن إيراد هذا الإلزام عليهم . ودفع بأن ذلك لما أنه كان إنزال التوراة من المشاهير الذائعة ولذلك كانوا يقولون : { لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الكتاب لَكُنَّا أهدى مِنْهُمْ } [ الأنعام : 157 ] حسن إلزامهم بما ذكر ، ومع هذا ما ذهب إليه الجمهور أحرى بالقبول .
ومن الناس من ادعى أن في الآية حجة من الشكل الثالث وهي أن موسى بشر وموسى أنزل عليه كتاب ينتج أن بعض البشر أنزل عليه كتاب وتؤخذ الصغرى من قوة الآية والكبرى من صريحها والنتيجة موجبة جزئية تكذب السالبة الكلية التي ادعتها اليهود وهي لا شيء من البشر أنزل عليه كتاب المأخوذة من قولهم { مَا أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مّن شَىْء } وإنما نتجت هاتان الشخصيتان مع أن شرط الشكل الثالث كلية إحدى المقدمتين لأن الشخصية عندهم في حكم الكلية . وقال الإمام : «تفلسف حجة الإسلام الغزالي عليه الرحمة [ فقال : ] إن هذه الآية مبنية على الشكل الثاني من الأشكال المنطقية ، وذلك لأن حاصلها يرجع إلى أن موسى أنزل الله تعالى عليه شيئاً و ( واحد ) من البشر ما أنزل الله تعالى عليه شيئاً ينتج ( من الشكل الثاني ) أن موسى ما كان من البشر وهذا خلف محال ، وهذه الاستحالة ليست بحسب شكل القياس ولا بحسب صحة المقدمة الأولى فلم يبق إلا أنه لزم من فرض صحة المقدمة الثانية وهي قولهم : { أَنزَلَ الله وَلاَ } الخ فوجب القول بانها كاذبة » وفي ذلك تأمل فليتأمل .
ثم إن وصف الكتاب بالوصول إليهم لزيادة التقريع وتشديد التبكيت ، وكذا تقييده بقوله سبحانه : { نُوراً وَهُدًى } فإن كونه بينا بنفسه ومبيناً لغيره مما يؤكد الإلزام أي توكيد ، وانتصابهما على الحالية من الكتاب والعامل { أَنَزلَ } أو من ضمير { بِهِ } والعامل جاء ، والظاهر تعلق الظرف بجاء ، وجوز أن يكون متعلقاً بمحذوف وقع حالاً من الفاعل ، واللام في قوله سبحانه : { لِلنَّاسِ } إما متعلق بهدى أو بمحذوف وقع صفة له أي هدى كائناً للناس ، والمراد بهم بنو إسرائيل ، وقيل : هم ومن عداهم ، ومعنى كونه هدى لهم أنه يرشد من وقف عليه بالواسطة أو بدونها إلى ما ينجيه من الإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم .
وقوله تعالى : { تَجْعَلُونَهُ قراطيس } استئناف لا موضع له من الإعراب مسوق لنعي ما فعلوه من التحريف والتغيير عليهم . وجوز أن يكون في موضع نصب على الحال كما تقدم أي تضعونه في قراطيس مقطعة وأوراق مفرقة بحذف الجار بناء على تشبيه القراطيس بالظرف المبهم كما قيل . وقال أبو علي الفارسي : المراد تجعلونه ذا قراطيس ، وجوز غير واحد عدم التقدير على معنى تجعلونه نفس القراطيس ، وفيه زيادة توبيخ لهم بسوء صنيعهم كأنهم أخرجوه من جنس الكتاب ونزلوه منزلة القراطيس الخالية عن الكتابة ، وليس المراد على الأول توبيخهم بمجرد وضعهم له في قراطيس إذ كل كتاب لا بد وأن يودع في القراطيس بل المراد التوبيخ على الجعل في قراطيس موصوفة بقوله سبحانه : { تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً } فالجملة المعطوفة والمعطوف عليها في موضع الصفة لقراطيس ، والعائد على الموصوف من المعطوفة محذوف أي كثيراً منها ، والمراد من الكثير نعوت النبي صلى الله عليه وسلم وسائر ما كتموه من أحكام التوراة كرجم الزاني المحصن . وهذا خطاب لليهود بلا مرية وكانوا يفعلون ذلك مع عوامهم متواطئين عليه ، وهو ظاهر على تقدير أن يكون الجواب السابق لهم لأن مشافهتهم به يقتضي خطابهم ، ومن جعل ما تقدم للمشركين حمل هذا على الإلتفات لخطاب اليهود حيث جرى ذكرهم . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو الأفعال الثلاثة بياء الغيبة .
وضمير الجمع لليهود أيضاً إلا أنه التفت عن خطابهم تبعيداً لهم بسبب ارتكابهم القبيح عن ساحة الخطاب ولذا خاطبهم حيث نسب إليهم الحسن في قوله سبحانه : { وَعُلّمْتُمْ مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ ءابَاؤُكُمْ } وهذا أحسن كما قيل من الإلتفات على القول الأول لأن فيه نقلاً من الكلام مع جماعة هم المشركون إلى الكلام مع جماعة أخرى هم اليهود قبل إتمام الكلام الأول لأن إتمامه بقوله سبحانه : { قُلِ الله } الخ بخلاف الإلتفات على القول الثاني ، والجملة على ما قال أبو البقاء في موضع الحال من فاعل { تَجْعَلُونَهُ } بإضمار قد أو بدونه على اختلاف الرأيين ، وعليه كما قال شيخ الإسلام «فينبغي أن يجعل ما عبارة عما أخذوه من الكتاب من العلوم والشرائع ليكون التقييد بالحال مفيداً لتأكيد التوبيخ وتشديد التشنيع لا على ما تلقوه من جهة النبي صلى الله عليه وسلم زيادة على ما في التوراة وبياناً لما التبس عليهم وعلى آبائهم من مشكلاتها حسبما ينطق به قوله تعالى :
{ إِنَّ هذا القرءان يَقُصُّ على بَنِى إسراءيل أَكْثَرَ الذى هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } [ النمل : 76 ] لأن تلقيهم ذلك ليس مما يزجرهم عما صنعوا بالتوراة فتكون الجملة حينئذ خالية عن تأكيد التوبيخ فلا تستحق أن تقع موقع الحال بل الوجه حينئذ أن يكون استئنافاً مقرراً لما قبله من مجيء الكتاب بطريق التكملة والاستطراد والتمهيد لما يعقبه من مجيء القرآن ، ولا سبيل كما قال إلى جعل ما عبارة عما كتموه من أحكام التوراة كما يفصح عنه قوله تعالى : { قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ لَكُمْ كَثِيراً مّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكتاب } [ المائدة : 15 ] فإن ظهوره وإن كان مزجرة لهم عن الكتم مخافة الإفتضاح ومصححاً لوقوع الجملة في موقع الحال لكن ذلك مما يعلمه الكاتمون حتماً » . وجوز أن تكون الجملة معطوفة على { مَنْ أَنزَلَ الكتاب } من حيث المعنى أي قل من أنزل الكتاب ومن علمكم ما لم تعلموا وفيه بعد . وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد أن هذا خطاب للمسلمين . وروي عنه أنه قرأ ( وعلمتم معشر العرب ما لم ) الخ وهو عند قوم اعتراض للإمتنان على النبي صلى الله عليه وسلم واتباعه بهدايتهم للمجادلة بالتي هي أحسن . وقال بعضهم : إن الناس فيما تقدم عام يدخل فيهم المسلمون واليهود ، و { عَلِمْتُمُ } عطف على { تَجْعَلُونَهُ } والخطاب فيه للناس باعتبار اليهود وفي { عَلِمْتُمُ } لهم باعتبار المسلمين ولا يخفى أنه تكلف .
وقوله سبحانه : { قُلِ الله } أمر لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن يجيب السؤال السابق عنهم إشارة إلى أنهم ينكرون الحق مكابرة منهم ، وإشعاراً بتعين الجواب وإيذاناً بأنهم أفحموا ، ولم يقدروا على التكلم أصلاً ، والاسم الجليل إما فاعل فعل مقدر أو مبتدأ خبره جملة مقدرة أي أنزل الله أو الله تعالى أنزله ، والخلاف في الأرجح من الوجهين مشهور { ثُمَّ ذَرْهُمْ } أي دعهم { فِى خَوْضِهِمْ } أي باطلهم فلا عليك بعد إلزام الحجة وإلقام الحجر { يَلْعَبُونَ } في موضع الحال من هم الأول ، والظرف صلة { ذَرْهُمْ } أو { يَلْعَبُونَ } أو حال من مفعول { ذَرْهُمْ } أو من فاعل { يَلْعَبُونَ } وجوز أن يكون في موضع الحال من هم الثاني ، وهو في المعنى فاعل المصدر المضاف إليه ، والظرف متصل بما قبله إما على أنه لغو أو حال من هم ولا يجوز حينئذ جعله متصلاً بيلعبون على الحالية أو اللغوية لأنه يكون معمولاً له متأخراً عنه رتبة ومعنى مع أنه متقدم عليه رتبة أيضاً لأن العامل في الحال عامل في صاحبها فيكون فيه دور وفساد في المعنى . والآية عند بعض منسوخة بآية السيف ، واختار الإمام عدم النسخ لأنها واردة مورد التهديد وهو لا ينافي حصول المقاتلة فلم يكن ورود الآية الدالة على وجوبها رافعاً للمدلول فلم يحصل النسخ فيه .
( هذا ومن باب الإشارة ) :{ وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ } أي ما عرفوه حق معرفته { إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مّن شيء } [ الأنعام : 91 ] أي لم يظهر من علمه وكلامه سبحانه على أحد شيئاً وذلك لزعمهم البعد من عباده جل شأنه وعدم إمكان ظهور بعض صفاته على مظهر بشري ولو عرفوا لما أنكروا ولا اعتقدوا أنه لا مظهر لكمال علمه وحكمته إلا الإنسان الكامل بل لو ارتفع الحول عن العين لما رأوا الواحد إثنين