روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{وَمَا مَنَعَهُمۡ أَن تُقۡبَلَ مِنۡهُمۡ نَفَقَٰتُهُمۡ إِلَّآ أَنَّهُمۡ كَفَرُواْ بِٱللَّهِ وَبِرَسُولِهِۦ وَلَا يَأۡتُونَ ٱلصَّلَوٰةَ إِلَّا وَهُمۡ كُسَالَىٰ وَلَا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمۡ كَٰرِهُونَ} (54)

{ وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نفقاتهم إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَبِرَسُولِهِ } وقد يراد به ما هو الكامل وهو الكفر ويكون هذا منه تعالى بياناً وتقريراً لذلك ، والاستثناء من أعم الأشياء أي ما منعهم أن تقبل نفقاتهم شيء من الأشياء إلا كفرهم ، ومنه يتعدى إلى مفعولين بنفسه وقد يتعدى إلى الثاني بحرف الجبر وهو من أو عن ، وإذا عدى بحرف صح أن يقال : منعه من حقه ومنه حقه منه لأنه يكون بمعنى الحيلولة بينهما والحماية ، ولا قلب فيه كما يتوهم ، وجاز فيما نحن فيه أن يكون متعدياً للثاني بنفسه وأن يقدر حرف وحذف حرف الجر مع إن وأن مقيس مطرد .

وجوز أبو البقاء أن يكون { أَن تُقْبَلَ } بدل اشتمال من هم في { مَنَعَهُمْ } وهو خلاف الظاهر ، وفاعل منع ما في حيز الاستثناء ، وجوز أن يكون ضمير الله تعالى { وَإِنَّهُمْ * كَفَرُواْ } بتقدير لأنهم كفروا .

وقرأ حمزة . والكسائي { يَقْبَلُ } بالتحتانية لأنه تأنيت النفقات غير حقيقي مع كونه مفصولاً عن الفعل بالجار والمجرور . وقرىء { نفقاتهم } على التوحيد .

وقرأ السلمى { إنٍ * يَقْبَلُ * مِنْهُمْ نفقاتهم } ببناء { يَقْبَلُ } للفاعل ونصب النفقات ؛ والفاعل إما ضمير الله تعالى أو ضمير الرسول عليه الصلاة والسلام بناء على أن القبول بمعنى الأخذ { وَلاَ * يَأتونَ الصلاة } المفروضة في حال من الأحوال { إِلاَّ وَهُمْ كسالى } أي إلا حال كونهم متثاقلين { وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارهون } الانفاق لأنهم لا يرجون بهما ثواباً ولا يخافون على تركهما عقاباً ، وهاتان الجملتان داخلتان في حيز التعليل . واستشكل بأن الكفر سبب مستقل لعدم القبول فما وجه التعليل بمجموع الأمور الثلاثة وعند حصول السبب المستقل لا يبقى لغيره أثر . وأجاب الإمام بأنه إنما يتوجه على المعتزلة القائلين بأن الكفر لكونه كفراً يؤثر في هذا الحكم وأما على أهل السنة فلا لأنهم يقولون : هذه الأسباب معرفات غير موجبة للثواب ولا للعقاب واجتماع المعرفات الكثيرة على الشيء الواحد جائز ، والقول بأنه إنما جيء بهما لمجرد الذم وليستا داخلتين في حيز التعليل وإن كان يندفع به الاشكال على رأي المعتزلة خلاف الظاهر كما لا يخفى .

{ فَانٍ قِيلَ } الكراهية خلاف الطواعية وقد جعل هؤلاء المنافقون فيما تقدم طائعين ووصفوا ههنا بأنهم لا ينفقون إلا وهم كارهون وظاهر ذلك المنافاة . أجيب بأن المراد بطوعهم أنهم يبذلون من غير الزام من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أنهم يبذلون رغبة فلا منافاة . وقال بعض المحققين في ذلك : إن قوله سبحانه : { أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } [ التوبة : 53 ] لا يدل على أنهم ينفقون طائعين بل غايته أنه ردد حالهم بين الأمرين وكون الترديد ينافي القطع محل نظر ، كما إذا قلت : إن أحسنت أو أسأت لا أزورك مع أنه لا يحسن قطعاً ، ويكون الترديد لتوسع الدائرة وهو متسع الدائرة .

( هذا ومن باب الإشارة ) :وقوله تعالى : { وَلاَ يَأْتُونَ الصلاة إِلاَّ وَهُمْ كسالى } [ التوبة : 54 ] فيه إشارة إلى حرمانهم لذة طعم العبودية واحتجابهم عن مشاهدة جمال معبودهم وأنهم لم يعلموا أن المصلي يناجي ربه وأن الصلاة معراج العبد إلى مولاه ، ومن هنا قال صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : «وجعلت قرة عيني في الصلاة » . وقال محمد بن الفضل : من لم يعرف الآمر قام إلى الأمر على حد الكسل ومن عرف الآمر قام إلى الأمر على حد الاستغنام والاسترواح ، ولذا كان عليه الصلاة والسلام يقول لبلال : ارحنا يا بلال