التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{قُلۡ أَرَءَيۡتُمۡ إِنۡ أَتَىٰكُمۡ عَذَابُهُۥ بَيَٰتًا أَوۡ نَهَارٗا مَّاذَا يَسۡتَعۡجِلُ مِنۡهُ ٱلۡمُجۡرِمُونَ} (50)

هذا جواب ثان عن قولهم : { متى هذا الوعد إن كنتم صادقين } [ يونس : 48 ] باعتبار ما يتضمنه قولهم من الوعد بأنهم يؤمنون إذا حق الوعد الذي توعدهم به ، كما حكي عنهم في الآية الأخرى { وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً } إلى قوله : { أو تسقط السماء كما زعمتَ علينا كِسفاً } [ الإسراء : 90 92 ] ، وهذا الجواب إبداء لخلل كلامهم واضطراب استهزائهم ، وقع هذا الأمر بأن يجيبهم هذا الجواب بعد أن أمر بأن يجيبهم بقوله : { قل لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعاً إلا ما شاء الله } [ يونس : 49 ] ، وهذا الجواب واقع موقع التسليم الجدلي بعد أن يجاب المخطىء بالإبطال . وحاصل هذا الجواب إن قدر حصول ما سألتم تعيين وقته ونزول كسف من السماء بكم أو نحوه ماذا يحصل من فائدة لكم في طلب تعجيل حصوله إذ لا تخلون عن أن تكونوا تزعمون أنكم تؤمنون حينئذٍ فذلك باطل لأن العذاب يعاجلكم بالهلاك فلا يحصل إيمانكم . وهذا كما قال بعض الواعظين : نحن نريد أن لا نموت ؛ حتى نتوب ؛ ونحن لا نتوب حتى نموت .

ووقع في خلال هذا الجواب تفنن في تخييل التهويل لهذا العذاب الموعود بقوله : { إن أتاكم عذابه بياتاً أو نهاراً } تخييلاً يناسب تحقق وقوعه فإن هاذين الوقتين لا يخلو حلول الحوادث عن أحدهما ، على أنه ترديد لمعنى العذاب العاجل تعجيلاً قريباً أو أقلَّ قرباً ، أي أتاكم في ليل هذا اليوم الذي سألتموه أو في صبيحته ، على أن في ذكر هذين الوقتين تخييلاً مَا لصورة وقوع العذاب استحضاراً له لديهم على وجه يحصل به تذكيرهم انتهازاً لِفرصة الموعظة ، كالتذكير به في قوله : { قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون } [ الأنعام : 47 ] .

والبيات : اسم مصدر التبييت ، ليلاً كالسلام للتَّسليم ، وذلك مباغتة . وانتصب { بياتاً } على الظرفية بتقدير مضاف ، أي وقت بيات .

وجواب شرط { إن أتاكم عذابه } محذوف دل عليه قوله : { ماذا يستعجل منه المجرمون } الذي هو ساد مسد مفعولي ( أرأيتم ) إذ علقه عن العمل الاستفهام ب ( ماذا ) .

و { ماذا } كلمتان هما ( ما ) الاستفهامية و ( ذا ) . أصله إشارة مشار به إلى مأخوذ من الكلام الواقع بعده . واستعمل ( ذا ) مع ( ما ) الاستفهامية في معنى الذي لأنهم يراعون لفظ الذي محذوفاً . وقد يظهر كقوله تعالى : { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } [ البقرة : 255 ] . وهذا الاستفهام مستعمل في الإنكار عليهم ، وفي التعجيب من تعجلهم العذاب بنية أنهم يؤمنون به عند نزوله .

و ( مِن ) للتبعيض . والمعنى ما الذي يستعجله المجرمون من العذاب ، أي لا شيء من العذاب بصالحٍ لاستعجالهم إياه لأن كل شيء منه مهلك حائل بينهم وبين التمكن من الإيمان وقت حلوله .

وفائدة الإشارة إليه ، تهويله أو تعظيمه أو التعجيب منه كقوله تعالى : { ماذا أراد الله بهذا مثلاً } [ البقرة : 26 ] ، فالمعنى ما هذا العذاب العظيم في حال كونه يستعجله المجرمون ، فجملة { يستعجل منه } في موضع الحال من اسم الإشارة ، أي أن مثله لا يُستعجل بل شأنه أن يُستأخَر .

و ( من ) بيانية ، والمعنى معها على معنى ما يسمى في فن البديع بالتجرد .

واعلم أن النحاة يذكرون استعمال ( ماذا ) بمعنى ( ما الذي ) وإنما يعنون بذلك بعض مواضع استعماله وليس استعمالاً مطرداً . وقد حقق ابن مالك في « الخلاصة » إذ زاد قيداً في هذا الاستعمال فقال :

ومثل ما ، ذا بعد ما استفهام *** أو مَن إذا لم تلغ في الكلام

يريد إذا لم يكن مزيداً . وإنما عبر بالإلغاء فراراً من إيراد أن الأسماء لا تزاد . والحق أن المراد بالزيادة أن اسم الإشارة غير مفيد معناه الموضوع له ولا هو بمفيد تأسيس معنى في الكلام ولكنه للتقوية والتأكيد الحاصل من الإشارة إلى ما يتضمنه الكلام ، وقد أشار إلى استعمالاته صاحب « مغنى اللبيب » في فصل عقده ل ( ماذ ) وأكثر من المعاني ولم يحرر انتساب بعضها من بعض . وانظر ما تقدم عند قوله تعالى : { فماذا بعد الحق إلا الضلال } [ يونس : 32 ] المتقدم آنفاً ، وقوله تعالى : { ماذا أراد الله بهذا مثلاً } في سورة [ البقرة : 26 ] .

والمجرمون : أصحاب الجرم وهو جرم الشرك . والمراد بهم الذين يقولون { متى هذا الوعد } [ يونس : 48 ] ، وهم مشركو مكة فوقع الإظهار في مقام الإضمار عوض أن يقال ماذا يستعجلون منه لقصد التسجيل عليهم بالإجرام ، وللتنبيه على خَطَئِهم في استعجال الوعيد لأنه يأتي عليهم بالإهلاك فيصيرون إلى الآخرة حيث يُفضون إلى العذاب الخالد فشأنهم أن يستأخروا الوعد لا أن يستعجلوه ، فدل ذلك على أن المعنى لا يستعجلون منه إلاّ شراً .