اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قُلۡ أَرَءَيۡتُمۡ إِنۡ أَتَىٰكُمۡ عَذَابُهُۥ بَيَٰتًا أَوۡ نَهَارٗا مَّاذَا يَسۡتَعۡجِلُ مِنۡهُ ٱلۡمُجۡرِمُونَ} (50)

قوله - تعالى - : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً } الآية .

هذا جواب ثانٍ عن قولهم : { متى هذا الوعد } [ يونس : 48 ] وقد تقدَّم الكلام على " أرَأيْتَ " هذه ، وأنَّها تتضمَّن معنى : أخبرني ، فتتعدَّى إلى اثنين ، ثانيهما غالباً جملةٌ استفهاميَّة ، فينعقد منها مع ما قبلها مبتدأٌ وخبرٌ ، كقولهم : " أرأيتكَ زيداً ما صنع " وتقدَّم مذاهبُ النَّاسِ فيها في " عذاب " ، والمسألةُ من إعمال الثاني ؛ إذ هو المختار عند البصريِّين ، ولمَّا أَعمله أضمر في الأول وحذفه ؛ لأنَّ إبقاءه مخصوصٌ بالضَّرورة ، أو جائزُ الذِّكْرِ على قلَّةٍ عند آخرين ، ولو أعمل الأول ، لأضمر في الثاني إذ الحذف منهُ لا يكونُ إلاَّ في ضرورة ، أو في قليلٍ من الكلام .

ومعنى الكلام : قل لهم يا محمد : أخبروني عن عذاب الله ، إن أتاكم أيُّ شيءٍ تستعجلون منه ، وليس شيءٌ من العذاب يستعجل به ؛ لمرارته ، وشدَّة إصابته ، فهو مُقْتَضٍ لنُفُورِ الطبع منه .

قال الزمخشري : " فإن قلت : بم يتعلَّق الاستفهامُ ، وأين جوابُ الشَّرط ؟ قلت : تعلَّق ب " أرَأيْتُمْ " لأنَّ المعنى : أخبروني ماذا يستعجل منه المجرمون ، وجوابُ الشَّرط محذوفٌ ، وهو : تندمُوا على الاستعجَال ، أو تعرفُوا الخطأ فيه " .

قال أبو حيَّان : " وما قدَّره غيرُ سائغ ؛ لأنَّه لا يقدَّر الجوابُ إلاَّ ممَّا تقدَّمه لفظاً أو تقديراً ، تقول : " أنت ظالمٌ إن فعلت " التقدير : إن فعلت ، فأنت ظالمٌ ، وكذلك { وَإِنَّآ إِن شَآءَ الله لَمُهْتَدُونَ } [ البقرة : 70 ] التقدير : إن شاء الله نَهْتَدِ ، فالذي يُسَوِّغ أن يقدر : إن أتاكم عذابه ، فأخبروني ماذا يستعجلُ منهُ المجرمُونَ .

وقال الزمخشريُّ أيضاً : " ويجوز أن يكون { مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ المجرمون } جواباً للشرط كقولك : إن أتيتُك ما تُطْعمني ؟ ثم تتعلَّق الجملةُ ب " أرأيْتُمْ " ، وأن يكون " أثمَّ إذا ما وقع آمنتُم به " جواباً للشَّرْطِ ، و{ مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ المجرمون } اعتراضاً ، والمعنى : إن أتاكم عذابه ، آمنتم به بعد وقوعه حين لا ينفعكم الإيمان .

قال أبو حيَّان : " وأمَّا تجويزهُ أن يكون " مَاذَا " جواباً للشَّرط فلا يصحُّ ؛ لأنَّ جواب الشَّرط إذا كان استفهاماً ، فلا بُدَّ فيه من الفاءِ تقول : إنْ زارنا فلانٌ ، فأيُّ رجلٍ هو ، وإن زارنا فلانٌ ، فأيُّ يدٍ لهُ بذلك ، ولا يجوزُ حذفها إلاَّ إن كان في ضرورةٍ ، والمثالُ الذي ذكره وهو " إنْ أتَيْتُكَ ما تُطعمني ؟ " هو من تمثيله ، لا من كلام العرب .

وأمَّا قوله : ثُمَّ تتعلَّق الجملةُ ب " أرَأيْتُم " إن عنى بالجملة " مَاذَا يَسْتعجِلُ " فلا يصح ذلك ؛ لأنَّه قد جعلها جواباً للشَّرْطِ ، وإن عنى بالجملةِ جملة الشَّرطِ ، فقد فسَّر هو " أرَأيْتُمْ " بمعنى : أخبرُوني ، و " أخبرني " يطلب متعلِّقاً مفعولاً ، ولا تقع جملةُ الشَّرطِ موقع مفعول " أخبرني " ، وأمَّا تجويزه أن يكون : " أثُمَّ إذا ما وقعَ آمنتُم بِهِ " جواباً للشَّرطِ ، و{ مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ المجرمون } اعتراضاً ، فلا يصحُّ أيضاً لما ذكرناه : من أن جملة الاستفهام لا تقع جواباً للشَّرط إلاَّ ومعها فاءُ الجواب ، وأيضاً : ف " ثُمَّ " هنا حرف عطفٍ تعطفُ الجملة التي بعدها على التي قبلها ، فالجملةُ الاستفهاميَّة معطوفة ، وإذا كانت معطوفة ، لم يصحَّ أن تقع جواب الشَّرط ، وأيضاً : ف " أرَأيْتُمْ " بمعنى : " أخبروني " يحتاج إلى مفعول ، ولا تقع جملة شرطٍ موقعه " .

وكون " أرأيتم " بمعنى " أخبروني " هو الظاهر المشهور ، وقال الحوفيُّ : " الرؤية من رؤية القلب التي بمعنى العلم ؛ لأنَّها داخلةٌ على الجملة من الاستفهام التي معناها : التقرير ، وجواب الشرط محذوفٌ ، وتقدير الكلام : أرأيتم ما يستعجل من العذاب المجرمون ، إن أتاكم عذابه " انتهى . فهذا ظاهرٌ في أنَّ " أرأيتم " غير مضمنةٍ معنى الإخبار ، وأنَّ الجملة الاستفهاميَّة سدَّت مسدَّ المفعولين ، ولكنَّ المشهور الأول . قوله : " مَاذَا يَسْتَعجلُ " قد تقدَّم الكلامُ على هذه الكلمة ، ومذاهب النَّاس فيها [ البقرة : 26 ] ، وجوَّز بعضهم هنا أن تكون " ما " مبتدأ ، و " ذا " خبره ، وهو موصولٌ بمعنى : " الَّذي " ، و " يَسْتَعْجِل " صلته ، وعائده محذوفٌ تقديره : أيُّ شيء الذي يستعجله منه ، أي : من العذاب ، أو من الله - تعالى - .

وجوَّز مكي ، وغيره : أن يكون " مَاذَا " كلُّه مبتدأ ، أي : يجعل الاسمان بمنزلةِ اسمٍ واحدٍ ، والجملة بعده خبر ، قال أبو عليٍّ : " وهو ضعيفٌ : لخلوِّ الجملة من ضمير يعُود على المبتدأ " .

وقد أجاب أبو البقاء عن هذا ، فقال{[18478]} : " ورُدَّ هذا القول بأنَّ الهاء في " مِنْهُ " تعودُ على المبتدأ ؛ كقولك : زيدٌ أخذتُ منه درهماً " .

قال شهاب الدِّين{[18479]} : " ومثلُ أبي علي لا يخفى عليه مثل ذلك ، إلاَّ أنَّه لا يرى عود الهاء على الموصول ؛ لأنَّ الظاهر عودها على العذاب " .

قال أبو حيَّان{[18480]} : " والظَّاهرُ عودُ الضمير في " مِنْه " على العذاب ، وبه يحصل الرَّبْطُ لجملة الاستفهام بمعفول " أرأيتم " المحذوف الذي هو مبتدأ في الأصل " .

وقال مكي : " وإن شئت جعلت " ما " ، و " ذا " بمنزلة اسمٍ واحدٍ في موضع رفع بالابتداء ، والجملة التي بعدهُ الخبر ، والهاءُ في " منهُ " تعود أيضاً على العذاب " .

قال شهابُ الدِّين{[18481]} : " فقد ترك المبتدأ بلا رابطٍ لفظي ، حيث جعل الهاءَ عائدةً على غير المبتدأ ، فيكون العائدُ عنده محذوفاً ، لكنَّه قال بعد ذلك : " فإن جعلت الهاء في " منهُ " تعود على الله - جلَّ ذكره - ، و " ما " و " ذا " اسماً واحداً ، كانت " ما " في موضع نصبٍ ب " يستعجل " والمعنى : أيَّ شيء يستعجلُ المجرمون من الله " فقوله هذا يؤذن بأنَّ الضمير لمَّا عاد على غير المبتدأ ، جعله مفعولاً مقدماً ، وهذا الوجه بعينه جائزٌ فيما إذا جعل الضمير عائداً على العذاب . ووجه الرَّفع على الابتداء جائزٌ ، فيما إذا جعل الضمير عائداً على الله - تعالى - ، إذ العائدُ الرَّابطُ مقدرٌ ، كما تقدم التنبيهُ عليه " .

حاصل الجواب : أن يقال لأولئك الكفار الذين يطلبون نزول العذاب : بتقدير أن يحصل هذا المطلوبُ ، ما الفائدة لكم فيه ؟ فإن قلتم نؤمن عنده ، فذلك باطل ؛ لأنَّ الإيمان في ذلك الوقت لا يفيد نفعاً ألبتَّة ؛ لأنَّه إيمان في وقت انحباس النفس ؛ فثبت أنَّ الذي تطلبونه لو أتاكم ، لم يحصل منه إلاَّ العذاب في الدنيا ، ثم يحصل عقيبة يوم القيام عذابٌ آخر أشدُّ منه ، ثم يقرون ذلك العذاب بكلام يدل على الإهانةِ ، وهو قوله : { هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ } .

فالحاصل : أنَّ هذا الذي تطلبونه محضُ الضَّرر العادي من جهات النفع ، والعاقل لا يفعل ذلك .

وقوله : " بَيَاتاً " أي : ليلاً يقال : بت ليلتي أفعل كذا ؛ لأنَّ الظاهر أنَّ الإنسان يكون في البيت بالليل ؛ فجعل هذا اللفظ كناية عن الليل ، والبيات : مصدر مثل التَّبييت ؛ كالوداع ، والسراح ، ويقال في النهار ظللت أفعل كذا ؛ لأنَّ الظاهر أن الإنسان يكون في النهار في الظِّلِّ ، وانتصب " بياتاً " على الظرف أي : وقت بيات .


[18478]:ينظر: الإملاء لأبي البقاء 1/29.
[18479]:ينظر: الدر المصون 4/40.
[18480]:ينظر: البحر المحيط 5/165.
[18481]:ينظر: الدر المصون 4/41.