التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{قُلۡ ءَامِنُواْ بِهِۦٓ أَوۡ لَا تُؤۡمِنُوٓاْۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ مِن قَبۡلِهِۦٓ إِذَا يُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡ يَخِرُّونَۤ لِلۡأَذۡقَانِۤ سُجَّدٗاۤ} (107)

استئناف خطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم ليلقنه بما يقوله للمشركين الذين لم يؤمنوا بأن القرآن منزل من عند الله ، فإنه بعد أن أوضح لهم الدلائل على أن مثل ذلك القرآن لا يكون إلا منزلاً من عند الله من قوله : { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله } [ الإسراء : 88 ] فعجزوا عن الإتيان بمثله ، ثم ببيان فضائل ما اشتمل عليه بقوله : { ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل } [ الإسراء : 89 ] ، ثم بالتعرض إلى ما اقترحوه من الإتيان بمعجزات أخر ، ثم بكشف شبهتهم التي يموهون بها امتناعهم من الإيمان برسالة بشَر ، وبَيّن لهم غلطهم أو مغالطتهم ، ثم بالأمر بإقامة الله شهيداً بينه وبينهم ، ثم بتهديدهم بعذاب الآخرة ، ثم بتمثيل حالهم مع رسولهم بحال فرعون وقومه مع موسى وما عُجل لهم من عذاب الدنيا بالاستئصال ، ثم بكشف شبهتهم في تنجيم القرآن ؛ أعقب ذلك بتفويض النظر في ترجيح الإيمان بصدق القرآن وعدم الإيمان بقوله : { آمنوا به أو لا تؤمنوا } للتسوية بين إيمانهم وعدمه عند الله تعالى . فالأمر في قوله : { آمنوا } للتسوية ، أي إن شئتم .

وجُزم { لا تؤمنوا } بالعطف على المجزوم . ومثله قوله في سورة الطور ( 16 ) { فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم } ، فحرف ( لا ) حرف نفي وليس حرف نهي ، ولا يقع مع الأمر المراد به التسوية إلا كذلك ، وهو كناية عن الإعراض عنهم وا حتقارهم وقلة المبالاة بهم ، ويندمج فيه مع ذلك تسلية الرسول .

وجملة { إن الذين أوتوا العلم } تعليل لمعنى التسوية بين إيمانهم به وعدمه أو تعليل لفعل { قل } ، أو لكليهما ، شأن العلل التي ترد بعد جُمل متعددة ، ولذلك فصلت . وموقع ( إن ) فيها موقع فاء التفريع ، أي إنما كان إيمانكم بالقرآن وعدمُه سواء لأنه مستغن عن إيمانكم به بإيمان الذين أوتوا العلم من قبل نزوله ، فهم أرجح منكم أحلاماً وأفضل مقاماً ، وهم الذين أوتوا العلم ، فإنهم إذا يسمعونه يؤمنون به ويزيدهم إيماناً بما في كتبهم من الوعد بالرسول الذي أنزل هذا عليه .

وفي هذا تعريض بأن الذين أعرضوا عن الإيمان بالقرآن جهلة وأهل جاهلية .

والمراد بالذين أوتوا العلم أمثالُ : ورقة بن نَوفل ، فقد تسامع أهل مكة بشهادته للنبيء صلى الله عليه وسلم ومن آمن بعد نزول هذه السورة من مِثل : عبد الله بن سلام ، ومعيقيب ، وسَلمان الفارسي .

ففي هذه الآية إخبار بمغيّب .

وضمائر « به ، ومن قبله ، ويتلى » عائدة إلى القرآن . والكلام على حذف مضاف معلوم من المقام معهود الحذف ، أي آمنوا بصدقة . ومن قبل نزوله .

والخرور : سقوط الجسم . قال تعالى : { فخر عليهم السقف من فوقهم } ( النحل : 26 .

( وقد تقدم في قوله : { وخر موسى صعقاً } في سورة الأعراف ( 143 .

( واللام في للأذقان } بمعنى ( على ) كما في قوله تعالى : { وتله للجبين } [ الصافات : 103 ] ، وقول تأبط شراً :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[272]} *** صريعاً لليدين وللجران

وأصل هذه اللام أنها استعارة تبعية . استعير حرف الاختصاص لمعنى الاستعلاء للدلالة على مزيد التمكن كتمكن الشيء بما هو مختص به .

والأذقان : جمع الذَقَن بفتح الذال وفتح القاف مجتمع اللحيين . وذكر الذقن للدلالة على تمكينهم الوجوه كلها من الأرض من قوة الرغبة في السجود لما فيه من استحضار الخضوع لله تعالى .

و{ سجداً } جمع ساجد ، وهو في موضع الحال من ضمير { يخرون } لبيان الغرض من هذا الخرور ، وسجودهم سجود تعظيم لله عند مشاهدة آية من دلائل علمه وصدق رسله وتحقيق وعده .


[272]:- أوله: فأضر بها بلا دهش فخرت وضمير الغائبة عائد على الغول.