نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{قُلۡ ءَامِنُواْ بِهِۦٓ أَوۡ لَا تُؤۡمِنُوٓاْۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ مِن قَبۡلِهِۦٓ إِذَا يُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡ يَخِرُّونَۤ لِلۡأَذۡقَانِۤ سُجَّدٗاۤ} (107)

فلما طالت الدلائل ، وزالت الشبه ، وعلم أن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ، وعلم أن الحظ لمن أقبل ، والخيبة لمن أدبر ، أمره أن يقول منبهاً لهم على ذلك مبكتاً لهم بتقاعسهم عنه وعنادهم فيه بقوله تعالى : { قل آمنوا به } أي القرآن { أو لا تؤمنوا } فالإيمان به غير محتاج إليكم ولا موقوف عليكم لأنكم إن آمنتم به كان الحظ لكم ، وإلا لم تضروا إلا أنفسكم ، وهو احتقار لهم حيث صرف لهم من كل مثل فأبوا إلا كفوراً ، ثم علل ذلك بما يقبل بكل ذي لب إليه ، فإن كان ل " قل " فهو تسلية له صل الله عليه وعلى آله وسلم ، وإن كان لما بعدها فهو تبكيت لهم وتحقير ، فقال تعالى : { إن الذين أوتوا العلم } وبني للمفعول دلالة على أن العلم الرباني - وهو العلم في الحقيقة من أيّ مؤتٍ كان ، حاث على الإيمان بهذا القرآن ، وتنبيهاً على أن من كان يعلم ولا يحمله علمه على الإيمان بهذا الكتاب الذي لا شيء أبين من حقيقته بمصادقته لكتب الأنبياء الذين ثبتت رسالاتهم ومضت عليها الدهور ، واطمأنت بها النفوس ، وزيادته عليها بما أودعه الله من الإعجاز والحكم - فعلمه بلا علم بل هو أجهل الجهلة ، سواء كان ممن سألتموه عني أو من غيرهم - كما سيأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه في الزمر .

ولما كان المراد أن من اتصف بهذا الوصف ولو زمناً يسيراً نفعه ، أدخل الجار فقال مرغباً في العلم ليحمل على الإيمان بالقرآن : { من قبله } أي قبل إنزاله ممن آمن من بني إسرائيل الذين أمرني الله بسؤالهم تسميعاً لكم وتثبيتاً لكونكم أقبلتم عليهم بالسؤال وجعلتموهم محط الوثوق : { إذا يتلى } أي من أيّ تالٍ كان { عليهم } في وقت من الأوقات ، ينقلهم من حال إلى حال ، فيرقيهم في مدارج القرب ومعارج الكمال ، إلى أعلى الرتب ، بأنهم { يخرون } أي يسقطون بسرعة ؛ وأكد السرعة وأفاد الاختصاص بقوله تعالى : { للأذقان } باللام دون إلى أو على ، دالاً بالأذقان على أنهم من شدة ما يحصل لهم من الخشوع يسقطون سقوط من ليس له اختيار ، وأول ما يلاقي الأرض ممن يسقط كذلك ذقنه ، وهو مجتمع اللحيين من منبت لحيته - فإن الإنسان مجبول بالطبع على صيانة وجهه ، فهو يرفع رأسه فتصير ذقنه وفمه أقرب ما في وجهه إلى الأرض حال السقوط ، ولهذا قال شاعرهم : فخر سريعاً لليدين وللفم .

ثم بين أن ذلك ليس سقوطاً اضطرارياً من كل جهة بقوله تعالى : { سجداً * } أي يفعلون ذلك لما يعلمون من حقيته بما أوتوا من العلم السالف ، وما في قلوبهم من الإذعان ، والخشية للرحمن