التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{أُوْلَـٰٓئِكَ لَهُمۡ جَنَّـٰتُ عَدۡنٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهِمُ ٱلۡأَنۡهَٰرُ يُحَلَّوۡنَ فِيهَا مِنۡ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٖ وَيَلۡبَسُونَ ثِيَابًا خُضۡرٗا مِّن سُندُسٖ وَإِسۡتَبۡرَقٖ مُّتَّكِـِٔينَ فِيهَا عَلَى ٱلۡأَرَآئِكِۚ نِعۡمَ ٱلثَّوَابُ وَحَسُنَتۡ مُرۡتَفَقٗا} (31)

الجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً ، لأن ما أجمل من عدم إضاعة أجرهم يستشرف بالسامع إلى ترقب ما يبين هذا الأجر .

وافتتاح الجملة باسم الإشارة لما فيه من التنبيه على أن المشار إليهم جديرون لما بعد اسم الإشارة لأجل الأوصاف المذكورة قبل اسممِ الإشارة ، وهي كونهم آمنوا وعملوا الصالحات .

واللام في { لهم جنات عدن } لام الملك . و ( من ) للابتداء ، جعلت جهة تحتهم مَنْشأ لجري الأنهار . وتقدم شبيه هذه الآية في قوله تعالى : { وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار } في سورة براءة ( 72 ) .

و{ عدن } تقدم في قوله تعالى : { ومساكن طيبة في جنات عدن } في سورة براءة ( 72 ) .

و{ من تحتهم } ، بمنزلة { من تحتها } لأنّ تحت جناتهم هو تحتٌ لهم .

ووجه إيثار إضافة ( تحت ) إلى ضميرهم دون ضمير الجنات زيادة تقرير المعنى الذي أفادته لام الملك ، فاجتمع في هذا الخبر عدة مقرارات لمضمونه ، وهي : التأكيد مرتين ، وذكرُ اسم الإشارة . ولام الملك ، وجر اسم الجهة ب ( مِن ) ، وإضافة اسم الجهة إلى ضميرهم ، والمقصود من ذلك : التعريض بإغاظة المشركين لتتقرر بشارة المؤمنين أتَمّ تقرر .

وجملة { يحلون } في موضع الصفة « لجنات عدن » .

والتحلية : التزيين ، والحلية : الزينة .

وأسند الفعل إلى المجهول ، لأنهم يجدون أنفسهم محلَّين بتكوين الله تعالى .

والأساور : جمع سِوار على غير قياس . وقيل : أصله جمع أسورة الذي هو جمع سِوار . فصيغة جَمع الجمع للإشارة إلى اختلاف أشكال ما يحلون به منها ، فإن الحلية تكون مرصعة بأصناف اليواقيت .

و ( مِن ) في قوله : { من أساور } مزيدة للتأكيد على رأي الأخفش ، وسيأتي وجهه في سورة الحج . ويجوز أن تكون للابتداء ، وهو متعين عند الذين يمنعون زيادتها في الإثبات .

والسِوار : حلي من ذهب أو فضة يُحيط بموضع من الذراع ، وهو اسم معرب عن الفارسية عند المحققين وهو في الفارسية ( دستوارَه ) بهاء في آخره كما في « كتاب الراغب » ، وكُتب بدون هاء في « تاج العروس » .

وأما قوله : { من ذهب } فإن ( من ) فيه للبيان ، وفي الكلام اكتفاء ، أي من ذهب وفضة كما اكتفي في آية سورة الإنسان بذكر الفضة عن ذكر الذهب بقوله : { وحلوا أساور من فضة } [ الإنسان : 21 ] ، ولكل من المعدنين جماله الخاص .

واللِباس : ستر البدن بثوب من قميص أو إزار أو رداء ، وجميع ذلك للوقاية من الحر والبرد وللتجمل .

والثياب : جمع ثوب ، وهو الشقة من النسيج .

واللون الأخضر أعدل الألوان وأنفعها عند البصر ، وكان من شعار الملوك . قال النابغة :

يصونون أجساداً قديماً نعيمُها *** بخالصة الأردان خُضْرِ المناكب

والسندس : صنف من الثياب ، وهو الديباج الرقيق يلبس مباشراً للجلد ليقيه غلظ الإستبرق .

والإستبرق : الديباج الغليظ المنسوج بخيوط الذهب ، يلبس فوق الثياب المباشرة للجلد .

وكلا اللفظين معرب . فأما لفظ ( سندس ) فلا خلاف في أنه معرب وإنما اختلفوا في أصله ، فقال جماعة : أصله فارسي ، وقال المحققون : أصله هندي وهو في اللغة ( الهندية ) ( سَنْدُون ) بنون في آخره .

كان قوم من وجوه الهند وفدوا على الإسكندر يحملون معهم هدية من هذا الديباج ، وأن الروم غيروا اسمه إلى ( سندوس ) ، والعرب نقلوه عنهم فقالوا ( سندس ) فيكون معرباً عن الرومية وأصله الأصيل هندي .

وأما الإستبرق فهو معرب عن الفارسية . وأصله في الفارسية ( إستبره ) أو ( إستبر ) بدون هاء أو ( إستقره ) أو ( إستفره ) . وقال ابن دريد : هو سرياني عُرب وأصله ( إستروه ) . وقال ابن قتيبة : هو رومي عُرب ، ولذلك فهمزته همزة قطع عند الجميع ، وذكره بعض علماء اللغة في باب الهمزة وهو الأصوب ، ويجمع على أبارق قياساً ، على أنهم صغروه على أبيرق فعاملوا السينَ والتاء معاملة الزوائد .

وفي الإتقان } للسيوطي عن ابن النقيب : لو اجتمع فصحاء العالم وأرادوا أن يَتركوا هذا اللفظ ويأتوا بلفظ يقوم مقامه في الفصاحة لعجزوا .

وذلك : أن الله تعالى إذا حث عباده على الطاعة بالوعد والوعيد . والوعدُ بما يرغب فيه العقلاء وذلك منحصر في : الأماكن ، والمآكل ، والمشارب ، والملابس ، ونحوها مما تتحد فيه الطباع أو تختلف فيه . وأرْفع الملابس في الدنيا الحرير ، والحريرُ كلما كان ثوبه أثقل كان أرفع فإذا أريد ذكر هذا فالأحسن أن يذكر بلفظ واحد موضوع له صريح ، وذلك ليس إلا الإستبرق ولا يوجد في العربية لفظ واحد يدل على ما يدل عليه لفظ استبرق . هذه خلاصة كلامه على تطويل فيه .

و ( من ) في قوله : { من سندس } للبيان .

وقدم ذكر الحلي على اللباس هنا لأن ذلك وقَع صفة للجنات ابتداء ، وكانت مظاهر الحلي أبهج للجنات ، فقدم ذكر الحلي وأخر اللباس لأن اللباس أشد اتصالاً بأصحاب الجنة لا بمظاهر الجنة ، وعكس ذلك في سورة الإنسان في قوله : { عاليهم ثياب سندس } [ الإنسان : 21 ] لأن الكلام هنالك جرى على صفات أصحاب الجنة .

وجملة متكئين فيها على الأرائك } في موضع الحال من ضمير { يلبسون } .

والاتكاء : جِلسة الراحة والترففِ . وتقدم عند قوله تعالى : { وأعتدت لهن متكأً } في سورة يوسف عليه السلام ( 31 ) .

والأرائك : جمع أريكة . وهي اسم لمجموع سرير وحَجَلة . والحجلة : قبة من ثياب تكون في البيت تجلس فيها المرأة أو تنام فيها . ولذلك يقال للنساء : ربات الحجال . فإذا وضع فيها سرير للاتكاء أو الاضطجاع فيه أريكة . ويجلس فيها الرجل وينام مع المرأة ، وذلك من شعار أهل الترف .

وجملة { نعم الثواب } استئناف مدح ، ومخصوص فعل المدح محذوف لدلالة ما تقدم عليه . والتقدير : نعم الثواب الجنات الموصوفة .

وعطف عليه فعل إنشاء ثاننٍ وهو { وحسنت مرتفقاً } لأن ( حسن ) و ( ساء ) مستعملان استعمال ( نعم ) و ( بئس ) فعملا عملهما . ولذلك كان التقدير : وحسنت الجنات مرتفقاً . وهذا مقابل قوله في حكاية حال أهل النار { وساءت مرتفقاً } .

والمرتفق : هنا مستعمل في معناه الحقيقي بخلاف مقابله المتقدم .