التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{هَـٰٓأَنتُمۡ هَـٰٓؤُلَآءِ حَٰجَجۡتُمۡ فِيمَا لَكُم بِهِۦ عِلۡمٞ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيۡسَ لَكُم بِهِۦ عِلۡمٞۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ} (66)

قولُه : { فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم } يُبطل قولهم : إنّ الإسلام زاد على دين إبراهيم ، ولا يدل على أنهم على دين إبراهيم ؛ لأنّ التوراة والإنجيل لم يَرد فيهما التصريح بذلك ، وهذا هو الفارق بين انتساب الإسلام إلى إبراهيم وانتساب اليهودية والنصرانية إليه ، فلا يقولون وكيف يُدّعَى أنّ الإسلام دين إبراهيم مع أنّ القرآن أنزل من بعد إبراهيم كما أنزلت التوراة والإنجيل من بعده .

وقوله : { والله يعلم } يدل على أنّ الله أنبأ في القرآن بأنه أرسل محمداً بالإسلام دينِ إبراهيم وهو أعلم منكم بذلك ، ولم يسبق أن امتنّ عليكم بمثل ذلك في التوراة والإنجيل فأنتم لا تعلمون ذلك ، فلما جاء الإسلام وأنبأ بذلك أردتم أن تنتحلوا هذه المزية ، واستيقظتم لذلك حَسداً على هذه النعمة ، فنهضتْ الحجة عليهم ، ولم يبق لهم معذرة في أن يقولوا : إنّ مجيء التوراة والإنجيل من بعد إبراهيم مشترَكُ الإلزام لنا ولكم ؛ فإنّ القرآن أنزل بعد إبراهيم ، ولولا انتظام الدليل على الوجه الذي ذكرنا لَكَانَ مشترك الإلزام .

والاستفهام في قوله : { فلم تحاجون } مقصود منه التنبيه على الغلط .

وقد أعرض في هذا الاحتجاح عليهم عن إبطال المنافاة بين الزيادة الواقعة في الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم على الدين الذي جاء به إبراهيم ، وبين وصف الإسلام بأنّه ملّة إبراهيم : لأنّهم لم يكن لهم من صحة النظر ما يفرقون به بين زيادة الفروع ، واتحاد الأصول ، وأنّ مساواة الدينين منظور فيها إلى اتحاد أصولهما سنبينها عند تفسير قوله تعالى : { فإنْ حاجّوك فقل أسلمتُ وجهي للَّه } [ آل عمران : 20 ] وعندَ قوله : { ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً } فاكتُفي في المحاجّة بإبطال مستندهم في قولهم : « فقد زدت فيه ما ليس فيه على طريقة المنع ، ثم بقوله : { ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً } [ آل عمران : 67 ] على طريقة الدعوى بناءً على أنّ انقطاع المعترِض كافٍ في اتجاه دعوى المستدل .

وقولُه : { ها أنتم هؤلاء حاججتم } تقدم القول في نظيره عند قوله تعالى : { ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم } في سورة [ البقرة : 85 ] .

وقرأ الجمهور : ها أنتم بإثبات ألف هَا وبتخفيف همزة أنتم ، وقرأه قالون ، وأبو عمرو ، ويعقوب : بإثبات الألف وتسهيل همزة أنتم ، وقرأه ورش بحذف ألف ها وبتسهيل همزة أنتم وبإبدالها ألفاً أيضاً مع المد ، وقرأه قنبل بتخفيف الهمزة دون ألف .

ووقعت ما الاستفهامية بعد لام التعليل فيكون المسؤول عنه هو سبب المحاجة فما صدَق ( ما ) علةٌ من العلل مجهولة أي سبب للمحاجّة مجهول ؛ لأنه ليس من شأنه أن يعلم لأنه لا وجود له ، فلا يعلم ، فالاستفهام عنه كناية عن عدمه ، وهذا قريب من معنى الاستفهام الإنكاري ، وليس عينيه .

وحذفت ألف ما الاستفهامية على ما هو الاستعمال فيها إذا وقعت مجرورة بحرف نحو { عمّ يتساءلون } [ النبأ : 1 ] وقول ابنِ معد يكرب

* عَلاَمَ تَقولُ الرُمْحَ يُثقِلُ عَاتِقي *

والألفات التي تكتب في حروف الجر على صورة الياء . إذا جر بواحد من تلك الحروف ( ما ) هذه يكتبون الألفات على صورة الألف : لأنّ مَا صارت على حرف واحد فأشبهت جزء الكلمة فصارت الألفات كالتي في أواسط الكلمات .

وقوله : { في إبراهيم } معناه في شَيْء من أحْواله ، وظاهر أنّ المراد بذلك هنا دينُه ، فهذا من تعليق الحكم بالذات ، والمرادُ حال من أحوال الذات يَتعين من المقام كما تَقَدّم في تفسير قوله تعالى : { إنما حَرّم عليكم الميتةَ } في سورة [ البقرة : 173 ] .

و ( ها ) من قوله : { ها أنتم } تنبيه ، وأصل الكلام أنتم حاججتم ، وإنما يجيء مثل هذا التركيب في محل التعجب والنكير والتنبيه ونحو ذلك ، ولذلك يؤكد غالباً باسم إشارة بعده فيقال ها أناذا ، وها أنتم أولاء أو هَؤلاء .

و { حاججتم } خبر { أنتم } ، ولك أن تجعل جملة حاججتم حالاً هي محل التعجيب باعتبار ما عطف عليها من قوله : { فلم تحاجون } : لأنّ الاستفهام فيه إنكاري ، فمعناه : فلا تحاجون .

وسيأتي بيَان مثله في قوله تعالى : { هاأنتم أولاء تحبونهم } [ آل عمران : 119 ] .

وقوله : { والله يعلم وأنتم لا تعلمون } تكميل للحجة أي إنّ القرآن الذي هومن عند الله أثبت أنه ملة إبراهيم ، وأنتم لم تهتدوا لذلك لأنكم لا تعلمون ، وهذا كقوله في سورة [ البقرة : 140 ] : { أم تقولون إنّ إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباطَ كانوا هودا أو نصارى قل أأنتم أعلم أم اللَّه . }