التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{تَنزِيلَ ٱلۡعَزِيزِ ٱلرَّحِيمِ} (5)

راجع إلى { القرآن الحكيم } [ يس : 2 ] إذ هو المنزل من عند الله ، فبعد أن استوفى القسم جوابه رجع الكلام إلى بعض المقصود من القسم وهو تشريف المقسم به فوسم بأنه { تنزيل العزيز الرحيم } .

وقد قرأه الجمهور بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف للعلم به ، وهذا من مواقع حذف المسند إليه الذي سماه السكاكي الحذف الجاري على متابعة الاستعمال في أمثاله . وذلك أنهم إذا أجروا حديثاً على شيء ثم أخبروا عنه التزموا حذف ضميره الذي هو مسند إليه إشارة إلى التنويه به كأنه لا يخفى كقول إبراهيم الصّولي ، أو عبد الله بن الزَّبير الأَسدي أو محمد بن سعيد الكاتب ، وهي من أبيات الحماسة في باب الأضياف :

سأشكر عَمْراً إن تراختْ منيتــي *** أيَــاديَ لم تمنن وإن هي جَلّتِ

فتىً غيرُ محجوب الغنى عن صديقه *** ولاَ مظهرِ الشكوى إذ النعل زلَّتِ

تقديره : هو فتى .

وقرأه ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلف بنصب { تنزيل } على تقدير : أعني . والمعنى : أعني من قسمي قرآناً نَزَّلتُه ، وتلك العناية زيادة في التنويه بشأنه وهي تعادل حذف المسند إليه الذي في قراءة الرفع .

والتنزيل : مصدر بمعنى المفعول أخبر عنه بالمصدر للمبالغة في تحقيق كونه منزلاً .

وأضيف التنزيل إلى الله بعنوان صفتي { العزيز الرحيم } لأن ما اشتمل عليه القرآن لا يعدُو أن يكون من آثار عزة الله تعالى ، وهو ما فيه من حمل الناس على الحق وسلوك طريق الهدى دون مصانعة ولا ضعف مع ما فيه من الإِنذار والوعيد على العصيان والكفران .

وأن يكون من آثار رحمته وهو ما في القرآن من نَصْب الأدلة وتقريب البعيد وكشف الحقائق للناظرين ، مع ما فيه من البشارة للذين يكونون عند مرضاة الله تعالى ، وذلك هو ما ورد بيانه بعدُ إجمالاً من قوله : { لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم فهم غافلون } [ يس : 6 ] ثم تفصيلاً بقوله : { لقد حق القول على أكثرهم } [ يس : 7 ] وبقوله : { إنما تُنذر من اتَّبع الذكر وخَشِيَ الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم } [ يس : 11 ] .