التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{يسٓ} (1)

مقدمة السورة:

سميت هذه السورة يس بمسمى الحرفين الواقعين في أولها في رسم المصحف لأنها انفردت بها فكانا مميزين لها عن بقية السور ، فصار منطوقهما علما عليها . وكذلك ورد اسمها عن النبي صلى الله عليه وسلم .

روى أبو داود عن معقل بن يسار قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقرأوا يس على موتاكم . وبهذا الاسم عنون البخاري والترمذي في كتابي التفسير .

ودعاها بعض السلف { قلب القرآن } لوصفها في قول النبي صلى الله عليه وسلم إن لكل شيء قلبا وقلب القرآن يس ، رواه الترمذي عن أنس ، وهي تسمية غير مشهورة .

ورأيت مصحفا مشرقيا نسخ سنة 1078 أحسبه في بلاد العجم عنونها سورة حبيب النجار وهو صاحب القصة وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى كما يأتي . وهذه تسمية غريبة لا نعرف لها سندا ولم يخالف ناسخ ذلك المصحف في أسماء السور ما هو معروف إلا في هذه السورة وفي سورة التين عنونها سورة الزيتون .

وهي مكية ، وحكى ابن عطية الاتفاق على ذلك قال إلا أن فرقة قالت قوله تعالى { ونكتب ما قدموا وآثارهم } نزلت في بني سلمة من الأنصار حين أرادوا أن يتركوا ديارهم وينتقلوا إلى جوار مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم فقال لهم : دياركم تكتب آثاركم . وليس الأمر كذلك وإنما نزلت الآية بمكة ولكنها احتج بها عليهم في المدينة اه .

وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ عليهم ونكتب ما قدموا وآثارهم وهو يؤول ما في حديث الترمذي بما يوهم أنها نزلت يومئذ .

وهي السورة الحادية والأربعون في ترتيب النزول في قول جابر بن زيد الذي اعتمده الجعبري ، نزلت بعد سورة قل أوحي وقبل سورة الفرقان .

وعدت آياتها عند جمهور الأمصار اثنتين وثمانين . وعدت عند الكوفيين ثلاثا وثمانين .

وورد في فضلها ما رواه الترمذي عن أنس قال النبي صلى الله عليه وسلم إن لكل شيء قلبا وقلب القرآن يس . ومن قرأ يس كتب الله له بقراءتها قراءة القرآن عشر مرات . قال الترمذي : هذا حديث غريب ، وفيه هارون أبو محمد شيخ مجهول . قال أبو بكر بن العربي : حديثها ضعيف .

أغراض هذه السورة

التحدي بإعجاز القرآن بالحروف المقطعة ، وبالقسم بالقرآن تنويها به ، وأدمج وصفه بالحكيم إشارة إلى بلوغه أعلى درجات الإحكام . والمقصود من ذلك تحقيق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وتفضيل الدين الذي جاء به في كتاب منزل من الله لإبلاغ الأمة الغاية السامية وهي استقامة أمورها في الدنيا والفوز في الحياة الأبدية ، فلذلك وصف الدين بالصراط المستقيم كما تقدم في سورة الفاتحة .

وأن القرآن داع لإنقاذ العرب الذين لم يسبق مجيء رسول إليهم ، لأن عدم سبق الإرسال إليهم لنفوسهم لقبول الدين إذ ليس فيها شاغل سبق يعز عليهم فراقه أو يكتفون بما فيه من هدى .

ووصف إعراض أكثرهم عن تلقي الإسلام ، وتمثيل حالهم الشنيعة ، وحرمانهم من الانتفاع بهدي الإسلام وأن الذين اتبعوا دين الإسلام هم أهل الخشية وهو الدين الموصوف بالصراط المستقيم .

وضرب المثل لفريقي المتبعين والمعرضين من أهل القرى بما سبق من حال أهل القرية الذين شابه تكذيبهم الرسل تكذيب قريش .

وكيف كان جزاء المعرضين من أهلها في الدنيا وجزاء المتبعين في درجات الآخرة .

ثم ضرب المثل بالأعم وهم القرون الذين كذبوا فأهلكوا .

والرثاء لحال الناس في إضاعة أسباب الفوز كيف يسرعون إلى تكذيب الرسل .

وتخلص إلى الاستدلال على تقريب البعث وإثباته بالاستقلال تارة وبالاستطراد أخرى .

مدمجا في آياته الامتنان بالنعمة التي تتضمنها تلك الآيات .

ورامزا إلى دلالة تلك الآيات والنعم على تفرد خالقها ومنعمها بالوحدانية إيقاظا لهم .

ثم تذكيرهم بأعظم حادثة حدثت على المكذبين للرسل والمتمسكين بالأصنام من الذين أرسل إليهم نوح نذيرا ، فهلك من كذب ، ونجا من آمن .

ثم سيقت دلائل التوحيد المشوبة بالامتنان للتذكير بواجب الشكر على النعم بالتقوى والإحسان وترقب الجزاء .

والإقلاع عن الشرك والاستهزاء بالرسول واستعجال وعيد العذاب .

وحذروا من حلوله بغتة حين يفوت التدارك .

وذكروا بما عهد الله إليهم مما أودعه في الفطرة من الفطنة .

والاستدلال على عداوة الشيطان للإنسان .

واتباع دعاة الخير .

ثم رد العجز على الصدر فعاد إلى تنزيه القرآن عن أن يكون مفترى صادرا من شاعر بتخيلات الشعراء .

وسلى الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن لا يحزنه قولهم وأن لهم بالله أسوة إذ خلقهم فعطلوا قدرته عن إيجادهم مرة ثانية ولكنهم راجعون إليه .

فقامت السورة على تقرير أمهات أصول الدين على أبلغ وجه وأتمه من إثبات الرسالة ، ومعجزة القرآن ، وما يعتبر في صفات الأنبياء وإثبات القدر ، وعلم الله ، الحشر ، والتوحيد ، وشكر المنعم ، وهذه أصول الطاعة بالاعتقاد والعمل ، ومنها تتفرع الشريعة . وإثبات الجزاء على الخير والشر مع إدماج الأدلة من الآفاق والأنفس بتفنن عجيب ، فكانت هذه السورة جديرة بأن تسمى « قلب القرآن » لأن من تقاسيمها تتشعب شرايين القرآن كله ، وإلى وتينها ينصب مجراها .

قال الغزالي : إن ذلك لأن الإيمان صحته باعتراف بالحشر ، والحشر مقرر في هذه السورة بأبلغ وجه ، كما سميت الفاتحة أم القرآن إذ كانت جامعة لأصول التدبر في أفانيه كما تكون أم الرأس ملاك التدبر في أمور الجسد .

القول فيه كالقول في الحروف المقَطَّعة الواقعة في أوائل السور ، ومن جملتها أنه اسم من أسماء الله تعالى ، رواه أشهب عن مالك قاله ابن العربي ، وفيه عن ابن عباس أنه : يا إنسان ، بلسان الحبشة . وعنه أنها كذلك بلغة طيء ، ولا أحسب هذا يصح عنه لأن كتابتها في المصاحف على حرفين تنافي ذلك .

ومن الناس من يدعي أن يس من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم وبنى عليه إسماعيل بن بكر الحِميري شاعر الرافضة المشهور عندهم بالسيد الحِميري قوله :

يا نفْس لا تَمْحضِي بالودّ جَاهدة على *** المَودة إلاَّ آل ياسِينا

ولعله أخذه من قوله تعالى في سورة الصافات ( 130 ) { سلام على آل ياسين } فقد قيل إنه يعني آل محمد صلى الله عليه وسلم .

ومن الناس من قال : إن يس اختزال : يا سيد ، خطابا للنبيء صلى الله عليه وسلم ويوهنه نطق القراء بها بنون .

ومن الناس من يسمّي ابنه بهذه الكلمة وهو كثير في البلاد المصرية والشامية ومنهم الشيخ يس بن زين الدين العُليمي الحمصي المتوفى سنة 1061 صاحب التعاليق القيمة فإنما يكتب اسمه بحسب ما ينطق به لا بحروف التهجي وإن كان الناس يغفلون فيكتبونه بحرفين كما يكتب أول هذه السورة .

قال ابن العربي قال أشهب : سألت مالكاً هل ينبغي لأحد أن يسمي يس ؟ قال : ما أراه ينبغي لقول الله تعالى : { يس والقرآن الحكيم } [ يس : 1 ، 2 ] يقول هذا : اسمي يس . قال ابن العربي : وهو كلام بديع لأن العبد لا يجوز أن يسمّى باسم الله إذا كان فيه معنى منه كقوله : عالم وقادر ، وإنما منع مالك من التسمية بهذا لأنه اسم من أسماء الله لا يُدرَى معناه فربما كان معناه ينفرد به الرب فلا يجوز أن يقدم عليه العبْد فيقدم على خطر فاقتضى النظر رفعه عنه ا ه . وفيه نظر .

والنطق باسم ( يا ) بدون مد تخفيف كما في كهيعص .