التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{كَذَٰلِكَ يُوحِيٓ إِلَيۡكَ وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكَ ٱللَّهُ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} (3)

موقع الإشارة في قوله : { كذلك يوحي إليك } كموقع قوله : { وكذلك جعلناكم أمّة وسطاً } في سورة البقرة ( 143 ) . والمعنى : مِثْلَ هذا الوحي يُوحِي الله إليك ، فالمشار إليه : الإيحاء المأخوذ من فعل { يوحي } .

وأما { وإلى الذين من قبلك } فإدماج . والتشبيه بالنسبة إليه على أصله ، أي مثل وحيه إليك وحيه إلى الذين من قبلك ، فالتشبيه مستعمل في كلتا طريقتيه كما يستعمل المشترك في معنييه . والغرض من التشبيه إثبات التسوية ، أي ليس وحي الله إليك إلا على سنة وحيه إلى الرّسل من قبلك ، فليس وحيه إلى الرّسل من قبلك بأوضح من وحيه إليك . وهذا كقوله تعالى : { إنّا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيئين من بعده } [ النساء : 163 ] ، أي ما جاء به من الوحي إن هو إلا مِثلُ ما جاءت به الرّسل السابقون ، فما إعراض قومه عنه إلا كإعراض الأمم السالفة عما جاءت به رسلهم . فحصل هذا المعنى الثاني بغاية الإيجاز مع حسن موقع الاستطراد .

وإجراء وصفي { العزيز الحكيم } على اسم الجلالة دون غيرهما لأن لهاتين الصفتين مزيدَ اختصاص بالغرض المقصود من أن الله يصطفي من يشاء لرسالته . ف { العزيز } المتصرف بما يريد لا يصده أحد . و { الحكيم } يُحَمِّل كلامَه معاني لا يبلغ إلى مثلها غيرُه ، وهذا من متممات الغرض الذي افتتحت به السورة وهو الإشارة إلى تحدّي المعاندين بأن يأتوا بسورة مثل سور القرآن .

وجملة { كذلك يوحي إليك } إلى آخرها ابتدائية ، وتقديم المجرور من قوله { كذلك } على { يوحي إليك } للاهتمام بالمشار إليه والتشويق بتنبيه الأذهان إليه ، وإذ لم يتقدم في الكلام ما يحتمل أن يكون مشاراً إليه ب { كذلك } عُلم أن المشار إليه مقدر معلوم من الفعل الذي بعد اسم الإشارة وهو المصدر المأخوذ من الفعل ، أي كذلك الإيحاء يوحي إليك الله . وهذا استعمال متّبع في نظائر هذا التركيب كما تقدم في قوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمّة وسطاً } في سورة البقرة ( 143 ) . وأحسب أنّه من مبتكرات القرآن إذ لم أقف على مثله في كلام العرب قبل القرآن . وما ذكره الخفاجي في سورة البقرة من تنظيره بقول زهير :

كذلك خِيمهم ولكلِّ قوم *** إذا مسَّتهم الضّراء خِيم

لا يصحّ لأن بيْت زهير مسبوق بما يصلح أن يكون مشاراً إليه ، وقد فاتني التنبيه على ذلك فيما تقدم من الآيات فعليك بضم ما هنا إلى ما هنالك .

والجار والمجرور صفة لمفعول مطلق محذوف دلّ عليه { يوحي } أي إيحاءً كذلك الإيحاء العجيب . والعدول عن صيغة الماضي إلى صيغة المضارع في قوله : { يوحي } للدلالة على أن إيحاءه إليه متجدد لا ينقطع في مدة حياته الشريفة لييأس المشركون من إقلاعه بخلاف قوله : { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا } [ الشورى : 52 ] وقوله : { وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً } [ الشورى : 7 ] إذ لا غرض في إفادة معنى التجدد هناك .

وأمّا مراعاة التجدّد هنا فلأنَّ المقصود من الآية هو ما أوحي به إلى محمّد صلى الله عليه وسلم من القرآن ، وأنَّ قوله : { إلى الذين من قبلك } إدماج .

ولك أن تعتبر صيغة المضارع منظوراً فيها إلى متعلِّقي الإيحاء وهو { إليك } و { إلى الذين من قبلك } ، فتجعل المضارع لاستحضار الصورة من الإيحاء إلى الرّسل حيث استبعد المشركون وقوعه فجعل كأنّه مشاهد على طريقة قوله تعالى : { الله الذي أرسل الرّياح فتثير سحاباً } [ فاطر : 9 ] وقوله : { ويصنع الفلك } [ هود : 38 ] .

وقرأ الجمهور { يوحي } بصيغة المضارع المبني للفاعل واسم الجلالة فاعل . وقرأه ابن كثير { يوحَى } بالبناء للمفعول على أن { إليك } نائب فاعل ، فيكون اسم الجلالة مرفوعاً على الابتداء بجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً كأنّه لما قال : يوحى إليك ، قيل : ومن يُوحيه ، فقيل : الله العزيز الحكيم ، أي يوحيه الله على طريقة قول ضِرار بن نَهشل{[365]} أو الحارث بن نهيك{[366]} :

ليُبْك يزيدُ ضارعٌ لخُصومة *** ومختَبِط ممّا تُطيح الطوائح

إذ كانت رواية البيت بالبناء للنائب .


[365]:- كذا نسب في كتب علم المعاني.
[366]:- كذا عزاه سيبويه في كتابه.