المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَمَا نُرۡسِلُ ٱلۡمُرۡسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَۚ وَيُجَٰدِلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِٱلۡبَٰطِلِ لِيُدۡحِضُواْ بِهِ ٱلۡحَقَّۖ وَٱتَّخَذُوٓاْ ءَايَٰتِي وَمَآ أُنذِرُواْ هُزُوٗا} (56)

وقوله { وما نرسل المرسلين } الآية ، كأنه لما تفجع عليهم وعلى ضلالهم ومصيرهم بآرائهم إلى الخسار ، قال : وليس الأمر كما يظنوا ، والرسل لم نبعثهم ليجادلوا ، ولا لتتمنى عليهم الاقتراحات ، وإنما بعثناهم مبشرين من آمن بالجنة ومنذرين من كفر بالنار ، و { يدحضوا } معناه يزهقوا ، و «الدحض » الطين الذي يزهق فيه ، ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]

وردت ونجى اليشكريّ نجاؤه . . . وحاد كما حاد البعير عن الدحض{[7835]}

وقوله { واتخذوا } إلى آخر الآية توعيد ، و «الآيات » تجمع آيات القرآن والعلامات التي ظهرت على لسان النبي صلى الله عليه وسلم ، وقوله { وما أنذروا هزواً } يريد من عذاب الآخرة ، والتقدير ما أنذروه فحذف الضمير و «الهزاء » : السخر والاستخفاف ، كقولهم أساطير الأولين ، وقولهم لو نشاء لقلنا مثل هذا .


[7835]:البيت منسوب لطرفة بن العبد، قال ذلك في اللسان (د حض)، وذكره الزمخشري في أساس البلاغة غير منسوب، وهو غير موجود في الديوان، ولكن توجد قصيدة ضادية مطلعها: أبا منذر كانت غرورا صحيفتي ولم أعطكم بالطوع مالي ولا عرضي وأبو منذر هو عمرو بن هند، ويمكن أن يكون هذا البيت منها، على أن محقق الديوان قال عن هذه القصيدة: إنها مما نسب إلى طرفة، وأنه قالها وهو في السجن يخاطب عمرو بن هند. والبيت من شواهد أبي عبيدة في (مجاز القرآن)، واستشهد به الطبري، والقرطبي، لكن القرطبي رواه بلفظ آخر، هو: (أبا منذر رمت الوفاء فهبته ... وحدت ... البيت). والردى: الهلاك، وحاد: مال وابتعد. والدحض: مصدر ويوصف به على لفظه، فيقال: مكان دحض بمعنى: زلق. وهو موضع الشاهد هنا. يقول مخاطبا الملك عمرو بن هند: إنه أخطأ فهلك، وكان مصيره السجن، أما اليشكرى فكان حذرا، ونجاه حذره كما ينجو البعير الذي في طريقه عن المكان الزلق. واليشكري هو الحارث بن حلزة اليشكرى.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَمَا نُرۡسِلُ ٱلۡمُرۡسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَۚ وَيُجَٰدِلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِٱلۡبَٰطِلِ لِيُدۡحِضُواْ بِهِ ٱلۡحَقَّۖ وَٱتَّخَذُوٓاْ ءَايَٰتِي وَمَآ أُنذِرُواْ هُزُوٗا} (56)

بعْد أن أشار إلى جدالهم في هدى القرآن بما مهد له من قوله : { وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً } [ الكهف : 54 ] . وأشار إلى أن الجدال فيه مجرد مكابرة وعناد ، وأنه لا يحف بالقرآن ما يمنع من الإيمان به كما لم يحف بالهدى الذي أرسل إلى الأمم ما يمنعهم الإيمان به ، أعقب ذلك بأن وظيفة الرسل التبليغ بالبشارة والنذارة لا التصدي للجادلة ، لأنها مجادلة لم يقصد منها الاسترشاد بل الغاية منها إبطال الحق .

والاستثناء من أحوال عامة محذوفة ، أي ما نرسل المرسلين في حال إلا في حال كونهم مبشرين ومنذرين . والمراد بالمرسلين جميع الرسل .

وجملة { ويجادل الذين كفروا بالباطل } عطف على جملة { وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين } . وكلتا الجملتين مرتبط بجملتي { ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً } [ الكهف : 54 ] . وترتيب هذه الجمل في الذكر جار على ترتيب معانيها في النفس بحيث يشعر بأن كل واحدة منها ناشىء معناها على معنى التي قبلها ، فكانت جملة { ويجادل الذين كفروا بالباطل } مفيدة معنى الاستدراك ، أي أرسلنا الرسل مبشرين ومنذرين بما فيه مقنع لطالب الهدى ، ولكن الذين كفروا جادلوه بالباطل لإزالة الحق لا لقصد آخر . واختيار فعل المضارعة للدلالة على تكرر المجادلة ، أو لاستحضار صورة المجادلة .

والمجادلة تقدمت في قوله تعالى : { يجادلنا في قوم لوط } في سورة هود ( 74 ) .

والإدحاض : الإزلاق ، يقال : دَحَضَتْ القدم ، إذا زَلّت ، وهو مجاز في الإزالة ، لأن الرجل إذا زلقت زَالت عن موضع تخطيها ، قال تعالى : { فساهم فكان من المدحضين } [ الصافات : 141 ] .

وجملة { واتخذوا آياتي } عطف على جملة { ويجادل } فإنهم ما قصدوا من المجادلة الاهتداء ، ولكن أرادوا إدحاض الحق واتخاذ الآيات كلها وبخاصة آيات الإنذار هزؤا .

والهُزُو : مصدر هَزَا ، أي اتخذوا ذلك مستهزأً به . والاستهزاء بالآيات هو الاستهزاء عند سماعها ، كما يفعلون عند سماع آيات الإخبار بالبعث وعند سماع آيات الوعيد والإنذار بالعذاب .

وعطفُ { وما أنذروا } على « الآيات » عطف خاص على عام لأنه أبلغ في الدلالة على توغل كفرهم وحماقة عقولهم .

{ وما أنذروا } مصدرية ، أي وإنذارهم والإخبار بالمصدر للمبالغة .

وقرأ الجمهور { هزءاً } بضم الزاي . وقرأه حمزة { هُزْءاً } بسكون الزاي .