{ ألم تر } تنبيه رؤية القلب ، وهذه آية إعلام بتسليم المخلوقات جمع لله وخضوعها ، وذكر في الآية كل ما عبد الناس إذ في المخلوقات أعظم مما قد ذكر كالرياح والهواء ف { من في السماوات } الملائكة ، { ومن في الأرض } من عبد من الشر ، { والشمس } كانت تعبدها حمير وهو قوم بلقيس ، والقمر كانت كنانة تعبده قاله ابن عباس ، وكانت تميم تعبد الدبران ، وكانت لخم تعبد المشتري ، وكانت طيِّىء تعبد الثريا وكانت قريش تعبد الشعري ، وكانت أسد تعبد عطارد ، وكانت ربيعة تعبد المرزم ، { والجبال والشجر } منها النار وأصنام الحجارة والخشب ، { والدواب } فيها البقر وغير ذلك مما عبد من الحيوان كالديك ونحوه ، و «السجود » في هذه الآية هو بالخضوع والانقياد للأمر قال الشاعر «ترى الأكم فيه سجداً للحوافر »{[8327]} . وهذا مما يتعذر فيه السجود والمتعارف ، وقال مجاهد : سجود هذه الأشياء هو بظلالها ، وقال بعضهم سجودها هو بظهور الصنعة فيها . ع : هذا وهو وإنما خلط هذه الآية بآية التسبيح وهناك يحتمل أن يقال هي بآثار الصنعة ، وقوله تعالى : { وكثير حق عليه العذاب } يحتمل أن يكون معطوفاً على ما تقدم ، أي { وكثير حق عليه العذاب } يسجد ، أي كراهية وعلى رغمه ، إما بظله وإما بخضوعه عند المكاره ونحو ذلك ، قاله مجاهد ، وقال : سجوده بظله ويحتمل أن يكون رفعاً بالابتداء مقطوعاً مما قبله وكأن الجملة معادلة لقوله { وكثير من الناس } لأن المعنى أنهم مرحومون بسجودهم ويؤيد هذا قوله تعالى بعد ذلك { ومن يهن الله } الآية وقرأ جمهور الناس «من مكرِم » بكسر الراء ، وقرأ ابن أبي عبلة بفتح الراء على معنى من موضع كرامة أو على أنه مصدر كمدخل ، وقرأ الجمهور «والدوابّ » مشددة الباء ، وقرأ الزهري وحده بتخفيف الباء وهي قليلة ضعيفة وهي تخفيف على غير قياس كما قالوا ظلت وأحست وكما قال علقمة : [ البسيط ]
كأن إبريقهم ظبي على شرف . . . مفدم بسبا الكتان ملثوم{[8328]}
أراد بسبائب الكتان وأنشد أبو علي في مثله : [ الكامل ]
حتى إذا ما لم أجد غير الشر . . . كنت أمرأً من مالك بن جعفر{[8329]}
جملة مستأنفة لابتداء استدلال على انفراد الله تعالى بالإلهية . وهي مرتبطة بمعنى قوله { يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه } إلى قوله : { لبئس المولى ولبئس العشير } [ الحج : 12 ، 13 ] ارتباط الدليل بالمطلوب فإنّ دلائل أحوال المخلوقات كلها عاقِلها وجمادها شاهدة بتفرد الله بالإلهية . وفي تلك الدلالة شهادة على بطلان دعوة من يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه .
وما وقع بين هاتين الجملتين استطرادٌ واعتراضٌ .
والرؤية : علمية . والخطاب لغير معين .
والاستفهام إنكاريّ . أنكر على المخاطبين عدم علمهم بدلالة أحوال المخلوقات على تفرد الله بالإلهية . ويجوز أن يكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والاستفهام تقريرياً ، لأنّ حصول علم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك متقرّر من سورة الرعد وسورة النحل . وقد تقدم الكلام على معنى هذا السجود في السورتين المذكورتين .
وقد استعمل السجود في حقيقته ومجازه ، وهو حسن وإن أباه الزمخشري ، وقد حققناه في المقدمة التاسعة ، لأن السجود المثبت لكثير من الناس هو السجود الحقيقي ، ولولا إرادة ذلك لما احترس بإثباته لكثير من الناس لا لجميعهم .
ووجه هذا التفكيك أن سجود الموجودات غير الإنسانية ليس إلا دلالة تلك الموجودات على أنها مسخرة بخلق الله ، فاستعير السجود لحالة التسخير والانطياع . وأما دلالة حال الإنسان على عبوديته لله تعالى فلما خالطها إعراض كثير من الناس عن السجود لله تعالى ، وتلبّسهم بالسجود للأصنام كما هو حال المشركين غطّى سجودهم الحقيقي على السجود المجازي الدال على عبوديتهم لله لأن المشاهدة أقوى من دلالة الحال فلم يثبت لهم السجود الذي أثبت لبقيّة الموجودات وإن كان حاصلاً في حالهم كحال المخلوقات الأخرى .
وجملة { وكثير حق عليه العذاب } معترضة بالواو .
وجملة { حق عليه العذاب } مكنّى بها عن ترك السجود لله ، أي حق عليهم العذاب لأنهم لم يسجدوا لله ، وقد قضى الله في حكمه استحقاق المشرك لعذاب النار . فالذين أشركوا بالله وأعرضوا عن إفراده بالعبادة قد حق عليهم العذاب بما قضى الله به وأنذرهم به .
وجملة { ومن يهن الله فما له من مكرم } اعتراض ثان بالواو .
والمعنى : أن الله أهانهم باستحقاق العذاب فلا يجدون من يكرمهم بالنصر أو بالشفاعة .
وجملة { إن الله يفعل ما يشاء } في محل العلة للجملتين المعترضتين لأن وجود حرف التوكيد في أول الجملة مع عدم المنكر يمحّض حرفَ التوكيد إلى إفادة الاهتمام فنشأ من ذلك معنى السببية والتعليل ، فتغني ( أنّ ) غناء حرف التعليل أو السببية .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.