اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَسۡجُدُۤ لَهُۥۤ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ وَٱلشَّمۡسُ وَٱلۡقَمَرُ وَٱلنُّجُومُ وَٱلۡجِبَالُ وَٱلشَّجَرُ وَٱلدَّوَآبُّ وَكَثِيرٞ مِّنَ ٱلنَّاسِۖ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيۡهِ ٱلۡعَذَابُۗ وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِن مُّكۡرِمٍۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَفۡعَلُ مَا يَشَآءُ۩} (18)

قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ } الآية . قيل المراد بهذه الرؤية العلم ، أي : ألم تعلم{[30520]} ، وقيل : ألم تر بقلبك{[30521]} . والمراد بالسجود : قال الزجاج{[30522]} : أنها مطيعة لله تعالى كقوله تعالى للسماء والأرض { ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ }{[30523]} ، [ فصلت : 11 ] ، { أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ{[30524]} } [ يس : 82 ] { وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله }{[30525]} [ البقرة : 74 ] ، { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ{[30526]} } [ الإسراء : 44 ] ، { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الجبال يُسَبِّحْنَ{[30527]} } [ الأنبياء : 79 ] . والمعنى أن هذه الأجسام لما كانت قابلة لجميع ما يحدثه الله تعالى فيها من غير امتناع أشبهت الطاعة والانقياد وهو السجود{[30528]} .

فإن قيل : هذا التأويل يبطله قوله تعالى { وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس } ، فإن السجود بالمعنى المذكور عام في كل الناس ، فإسناده إلى كثير منهم يكون تخصيصاً من غير فائدة .

فالجواب من وجوه :

الأول : أن السجود بالمعنى المذكور وإن كان عاماً في حق الكل إلا أن بعضهم تكبر وترك السجود في الظاهر ، فهذا الشخص ، وإن كان ساجداً بذاته لا يكون ساجداً بظاهره ، وأما المؤمن فإن ساجد{[30529]} بذاته وبظاهره ، فلأجل هذا الفرق حصل التخصيص بالذكر .

وثانيها : أن نقطع قوله : { وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس } عما قبله ، ثم فيه ثلاثة أوجه :

الأول : أن تقدير الآية : ولله يسجد من في السماوات ومن في الأرض ويسجد له كثير من الناس فيكون السجود الأول بمعنى الانقياد ، والثاني بمعنى العبادة ، وإنما فعلنا ذلك لقيام الدلالة على أنه لا يجوز استعمال اللفظ المشترك في معنييه جميعاً .

الثاني : أن يكون قوله : { وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس } مبتدأ وخبره محذوف وهو مثاب ، لأن خبر مقابله يدل عليه وهو قوله : { حَقَّ عَلَيْهِ العذاب } .

والثالث : أن يبالغ في تكثير الحقوق بالعذاب ، فيعطف «كثير » على كثير ثم يخبر عنهم بحق عليهم العذاب .

وثالثها : أن من يجوز استعمال اللفظ المشترك في مفهوميه جميعاً يقول : المراد بالسجود في حق الأحياء العقلاء العبادة ، وفي حق الجمادات الانقياد ( ومن ينكر ذلك فيقول : إن الله تكلم بهذه اللفظة مرتين ، فعنى بها في حق العقلاء الطاعة ، وفي حق الجمادات الانقياد{[30530]} ){[30531]} فإن قيل : قوله : { وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السماوات ومن في والأرض } [ الرعد : 15 ] عام فيدخل فيه الناس ، فلم قال { وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس } مرة أخرى ؟

فالجواب : لو اقتصر على ما تقدم لأوهم أن كل الناس يسجدون كما أن كل الملائكة يسجدون فبين أن كثيراً منهم يسجد طوعاً دون كثير منهم فإنه يمتنع من ذلك ، وهم الذين حق عليهم العذاب{[30532]} وقال القفال : السجود هاهنا هو الخضوع والتذلل ، بمعنى كونها معترفة بالفاقة إليه والحاجة إلى تخليقه وتكوينه ، وعلى هذا تأولوا قوله : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ{[30533]} }{[30534]} [ الإسراء : 44 ] .

وقال مجاهد : إنَّ سجود هذه الأشياء سجود ظلها لقوله تعالى : { يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ اليمين والشمائل سُجَّداً لِلَّهِ{[30535]} }{[30536]} . [ النحل : 48 ] . وقال أبو العالية : ما في السماء نجم ولا شمس ولا قمر إلا يقع ساجداً حين يغيب ، ثم لا ينصرف حتى يؤذن له ، فيأخذ ذات اليمين حين يرجع إلى مطلعه {[30537]} .

قوله : { وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس } . فيه{[30538]} أوجه :

أحدها{[30539]} : أنه مرفوع بفعل مضمر تقديره : ويسجد له كثير من الناس{[30540]} ، وهذا عند من يمنع استعمال المشترك في معنييه ، و{[30541]}الجمع بين الحقيقة والمجاز في كلمة واحدة ، وذلك أن السجود المسند لغير العقلاء غير السجود المسند للعقلاء فلا يعطف { وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس } على ما قبله لاختلاف الفعل المسند إليهما{[30542]} في المعنى ، ألا ترى أن سجود غير العقلاء هو الطواعية والإذعان لأمره ، وسجود العقلاء هو هذه الكيفية المخصوصة .

الثاني : أنه معطوف على ( ما تقدمه{[30543]} ){[30544]} وفي ذلك ثلاث تأويلات : {[30545]}

أحدها : أن المراد بالسجود القدر المشترك بين الكل{[30546]} العقلاء وغيرهم ، وهو الخضوع والطواعية ، وهو من باب الاشتراك المعنوي .

والتأويل الثاني : أنه مشترك اشتراكاً لفظياً ، ويجوز استعمال المشترك في معنييه .

والتأويل الثالث : أن السجود المسند للعقلاء حقيقة ولغيرهم مجاز ، ويجوز الجمع بين الحقيقة والمجاز على خلاف في هذه الأشياء مذكور في كتب الأصول .

الثالث من الأوجه المتقدمة : أن يكون «كَثِيرٌ » مرفوعاً{[30547]} بالابتداء ، وخبره محذوف وهو مثاب لدلالة خبر مقابله عليه وهو قوله : { وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب } كذا قدره الزمخشري{[30548]} ، وقدره أبو البقاء مطيعون أو{[30549]} مثابون أو نحو ذلك{[30550]} .

الرابع : أن يرتفع «كثير » على الابتداء أيضاً ويكون خبره «مِنَ النَّاسِ » أي من الناس الذين هم الناس على الحقيقة ، وهم الصالحون والمتقون {[30551]} .

الخامس : أن يرتفع بالابتداء أيضاً ويبالغ في تكثير المحقوقين{[30552]} بالعذاب فيعطف «كَثِيرٌ » على «كثير » ثم يخبر عنهم ب { حَقَّ عَلَيْهِ العذاب } ، ذكر ذلك الزمخشري كما تقدم{[30553]} .

قال أبو حيان بعد أن حكى عن الزمخشري الوجهين الأخيرين قال{[30554]} : وهذان التخريجان ضعيفان{[30555]} . ( ولم يبين وجه ضعفهما{[30556]} ) . قال شهاب الدين : أما أولهما فلا شك في ضعفه إذ لا فائدة طائلة في الإخبار بذلك ، وأما الثاني فقد يظهر ، وذلك أن التكرير{[30557]} يفيد التكثير وهو قريب من قولهم : عندي ألف وألف ، وقوله :

لَوْ عُدَّ قَبْرٌ وَقَبْرٌ كُنْتَ أَكْرَمَهُمْ{[30558]} {[30559]} *** . . .

وقرأ الزُّهري «وَالدَّواب » مخفف الباء{[30560]} ، قال أبو البقاء : ووجهها أنَّه حذف الباء الأولى كراهية التَّضعيف والجمع بين ساكنين{[30561]} . وقرأ جناح بن حبيش : «وكَبِيرٌ » بالباء الموحدة{[30562]} .

وقرئ «وَكَثِيرٌ حَقًّا » بالنصب{[30563]} ، وناصبه محذوف وهو الخبر تقديره : وكثير حق عليه العذاب حقاً ، و «العَذَابُ » مرفوع بالفاعلية . وقرئ «حُقَّ » مبنياً للمفعول{[30564]} . وقال ابن عطية : { وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب } يحتمل أن يكون معطوفاً على ما تقدم أي : وكثير حق عليه العذاب يسجد أي كراهية وعلى رغمه إما بظله وإما بخضوعه عند المكاره{[30565]} . فقوله : معطوف على ما تقدم يعني عطف الجمل لا{[30566]} أنه هو وحده عطف على ما قبله بدليل أنه قدره المبتدأ وخبره قوله : يسجد .

فصل{[30567]}

قال ابن عباس في رواية عطاء : { وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس } يوحده ، { وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب } ممن لا يوحده ، وروي عنه أنه قال : { وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس } في الجنة . وهذه الرواية تؤكد أن قوله { وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس } مبتدأ وخبره محذوف . وقال آخرون الوقف على قوله { وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس } ثم استأنف بواو الاستئناف فقال : { وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب } .

( وأما قوله تعالى { وَمَن يُهِنِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ } فالمعنى أن الذين حق عليهم العذاب{[30568]} ) ليس لهم أحد يقدر على إزالة ذلك الهوان عنهم{[30569]} مكرماً لهم . ثم بين بقوله { إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ } أنه الذي يصح منه الإكرام والهوان يوم القيامة بالثواب والعقاب .


[30520]:انظر الفخر الرازي 23/20.
[30521]:انظر القرطبي 12/24.
[30522]:معاني القرآن وإعرابه 3/418 – 419 بتصرف، والنص بلفظه من الفخر الرازي.
[30523]:[فصلت: 11].
[30524]:من قوله تعالى: {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون} [يس: 82].
[30525]:من قوله تعالى: {وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله} [البقرة: 74].
[30526]:[الإسراء: 44].
[30527]:من قوله تعالى: {وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين} [الأنبياء: 79].
[30528]:انظر الفخر الرازي 23/20.
[30529]:في ب: ساجدا. وهو تحريف.
[30530]:انظر الفخر الرازي 23/20.
[30531]:ما بين القوسين سقط من ب.
[30532]:انظر الفخر الرازي 23/20-21.
[30533]:[الإسراء : 44].
[30534]:انظر الفخر الرازي 23/21.
[30535]:[النحل: 48].
[30536]:انظر الفخر الرازي 23/21.
[30537]:انظر البغوي 5/562، القرطبي 12/24.
[30538]:في ب: وفيه.
[30539]:في ب: أحدهما. وهو تحريف.
[30540]:انظر الكشاف 3/28، البحر المحيط 6/359.
[30541]:في ب: أو.
[30542]:في ب: إليها.
[30543]:انظر مشكل إعراب القرآن 2/94، البحر المحيط 6/359.
[30544]:في ب: على مقدمه.
[30545]:في ب: أوجه تأويلات.
[30546]:في ب: كل.
[30547]:في ب: كثيرا مرفوعا. وهو تحريف.
[30548]:الكشاف 3/28.
[30549]:أو: سقط من ب.
[30550]:التبيان 2/937. وانظر هذا الوجه أيضا في البيان 2/171، والبحر المحيط 6/359.
[30551]:الكشاف 3/28.
[30552]:في ب: المحققين: وهو تحريف.
[30553]:الكشاف 3/28.
[30554]:في ب: وقال.
[30555]:البحر المحيط 6/359.
[30556]:ما بين القوسين سقط من الأصل.
[30557]:في ب: التكرار.
[30558]:صدر بيت من بحر بسيط، وعجزه: ميتا وأبعدهم عن منزل الذَّام *** ... قاله عصام بن عبيد الزماني، وهو شاعر جاهلي، ونسبه الجاحظ إلى همام الرقاشي، وهو في البيان والتبيين 2/316، 3/302، 4/85، المقرب (394) الخزانة 7/473. الذَّام: لغة في الذم ـ بتشديد الميم ـ وهو العيب. والشاهد فيه أن التكرير يفيد التكثير، إذ المراد: لو عدت القبور قبرا قبرا.
[30559]:الدر المصون 5/68.
[30560]:المحتسب 2/76، البحر المحيط 6/359.
[30561]:التبيان 2/396.
[30562]:البحر المحيط 6/359.
[30563]:المختصر (94) البحر المحيط 6/359.
[30564]:البحر المحيط 6/359.
[30565]:تفسير ابن عطية 10/246.
[30566]:في ب: إلا.
[30567]:هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 23/21.
[30568]:ما بين القوسين تكملة من الفخر الرازي.
[30569]:في ب: عليهم. وهو تحريف.