قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ } الآية . قيل المراد بهذه الرؤية العلم ، أي : ألم تعلم{[30520]} ، وقيل : ألم تر بقلبك{[30521]} . والمراد بالسجود : قال الزجاج{[30522]} : أنها مطيعة لله تعالى كقوله تعالى للسماء والأرض { ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ }{[30523]} ، [ فصلت : 11 ] ، { أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ{[30524]} } [ يس : 82 ] { وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله }{[30525]} [ البقرة : 74 ] ، { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ{[30526]} } [ الإسراء : 44 ] ، { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الجبال يُسَبِّحْنَ{[30527]} } [ الأنبياء : 79 ] . والمعنى أن هذه الأجسام لما كانت قابلة لجميع ما يحدثه الله تعالى فيها من غير امتناع أشبهت الطاعة والانقياد وهو السجود{[30528]} .
فإن قيل : هذا التأويل يبطله قوله تعالى { وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس } ، فإن السجود بالمعنى المذكور عام في كل الناس ، فإسناده إلى كثير منهم يكون تخصيصاً من غير فائدة .
الأول : أن السجود بالمعنى المذكور وإن كان عاماً في حق الكل إلا أن بعضهم تكبر وترك السجود في الظاهر ، فهذا الشخص ، وإن كان ساجداً بذاته لا يكون ساجداً بظاهره ، وأما المؤمن فإن ساجد{[30529]} بذاته وبظاهره ، فلأجل هذا الفرق حصل التخصيص بالذكر .
وثانيها : أن نقطع قوله : { وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس } عما قبله ، ثم فيه ثلاثة أوجه :
الأول : أن تقدير الآية : ولله يسجد من في السماوات ومن في الأرض ويسجد له كثير من الناس فيكون السجود الأول بمعنى الانقياد ، والثاني بمعنى العبادة ، وإنما فعلنا ذلك لقيام الدلالة على أنه لا يجوز استعمال اللفظ المشترك في معنييه جميعاً .
الثاني : أن يكون قوله : { وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس } مبتدأ وخبره محذوف وهو مثاب ، لأن خبر مقابله يدل عليه وهو قوله : { حَقَّ عَلَيْهِ العذاب } .
والثالث : أن يبالغ في تكثير الحقوق بالعذاب ، فيعطف «كثير » على كثير ثم يخبر عنهم بحق عليهم العذاب .
وثالثها : أن من يجوز استعمال اللفظ المشترك في مفهوميه جميعاً يقول : المراد بالسجود في حق الأحياء العقلاء العبادة ، وفي حق الجمادات الانقياد ( ومن ينكر ذلك فيقول : إن الله تكلم بهذه اللفظة مرتين ، فعنى بها في حق العقلاء الطاعة ، وفي حق الجمادات الانقياد{[30530]} ){[30531]} فإن قيل : قوله : { وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السماوات ومن في والأرض } [ الرعد : 15 ] عام فيدخل فيه الناس ، فلم قال { وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس } مرة أخرى ؟
فالجواب : لو اقتصر على ما تقدم لأوهم أن كل الناس يسجدون كما أن كل الملائكة يسجدون فبين أن كثيراً منهم يسجد طوعاً دون كثير منهم فإنه يمتنع من ذلك ، وهم الذين حق عليهم العذاب{[30532]} وقال القفال : السجود هاهنا هو الخضوع والتذلل ، بمعنى كونها معترفة بالفاقة إليه والحاجة إلى تخليقه وتكوينه ، وعلى هذا تأولوا قوله : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ{[30533]} }{[30534]} [ الإسراء : 44 ] .
وقال مجاهد : إنَّ سجود هذه الأشياء سجود ظلها لقوله تعالى : { يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ اليمين والشمائل سُجَّداً لِلَّهِ{[30535]} }{[30536]} . [ النحل : 48 ] . وقال أبو العالية : ما في السماء نجم ولا شمس ولا قمر إلا يقع ساجداً حين يغيب ، ثم لا ينصرف حتى يؤذن له ، فيأخذ ذات اليمين حين يرجع إلى مطلعه {[30537]} .
قوله : { وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس } . فيه{[30538]} أوجه :
أحدها{[30539]} : أنه مرفوع بفعل مضمر تقديره : ويسجد له كثير من الناس{[30540]} ، وهذا عند من يمنع استعمال المشترك في معنييه ، و{[30541]}الجمع بين الحقيقة والمجاز في كلمة واحدة ، وذلك أن السجود المسند لغير العقلاء غير السجود المسند للعقلاء فلا يعطف { وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس } على ما قبله لاختلاف الفعل المسند إليهما{[30542]} في المعنى ، ألا ترى أن سجود غير العقلاء هو الطواعية والإذعان لأمره ، وسجود العقلاء هو هذه الكيفية المخصوصة .
الثاني : أنه معطوف على ( ما تقدمه{[30543]} ){[30544]} وفي ذلك ثلاث تأويلات : {[30545]}
أحدها : أن المراد بالسجود القدر المشترك بين الكل{[30546]} العقلاء وغيرهم ، وهو الخضوع والطواعية ، وهو من باب الاشتراك المعنوي .
والتأويل الثاني : أنه مشترك اشتراكاً لفظياً ، ويجوز استعمال المشترك في معنييه .
والتأويل الثالث : أن السجود المسند للعقلاء حقيقة ولغيرهم مجاز ، ويجوز الجمع بين الحقيقة والمجاز على خلاف في هذه الأشياء مذكور في كتب الأصول .
الثالث من الأوجه المتقدمة : أن يكون «كَثِيرٌ » مرفوعاً{[30547]} بالابتداء ، وخبره محذوف وهو مثاب لدلالة خبر مقابله عليه وهو قوله : { وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب } كذا قدره الزمخشري{[30548]} ، وقدره أبو البقاء مطيعون أو{[30549]} مثابون أو نحو ذلك{[30550]} .
الرابع : أن يرتفع «كثير » على الابتداء أيضاً ويكون خبره «مِنَ النَّاسِ » أي من الناس الذين هم الناس على الحقيقة ، وهم الصالحون والمتقون {[30551]} .
الخامس : أن يرتفع بالابتداء أيضاً ويبالغ في تكثير المحقوقين{[30552]} بالعذاب فيعطف «كَثِيرٌ » على «كثير » ثم يخبر عنهم ب { حَقَّ عَلَيْهِ العذاب } ، ذكر ذلك الزمخشري كما تقدم{[30553]} .
قال أبو حيان بعد أن حكى عن الزمخشري الوجهين الأخيرين قال{[30554]} : وهذان التخريجان ضعيفان{[30555]} . ( ولم يبين وجه ضعفهما{[30556]} ) . قال شهاب الدين : أما أولهما فلا شك في ضعفه إذ لا فائدة طائلة في الإخبار بذلك ، وأما الثاني فقد يظهر ، وذلك أن التكرير{[30557]} يفيد التكثير وهو قريب من قولهم : عندي ألف وألف ، وقوله :
لَوْ عُدَّ قَبْرٌ وَقَبْرٌ كُنْتَ أَكْرَمَهُمْ{[30558]} {[30559]} *** . . .
وقرأ الزُّهري «وَالدَّواب » مخفف الباء{[30560]} ، قال أبو البقاء : ووجهها أنَّه حذف الباء الأولى كراهية التَّضعيف والجمع بين ساكنين{[30561]} . وقرأ جناح بن حبيش : «وكَبِيرٌ » بالباء الموحدة{[30562]} .
وقرئ «وَكَثِيرٌ حَقًّا » بالنصب{[30563]} ، وناصبه محذوف وهو الخبر تقديره : وكثير حق عليه العذاب حقاً ، و «العَذَابُ » مرفوع بالفاعلية . وقرئ «حُقَّ » مبنياً للمفعول{[30564]} . وقال ابن عطية : { وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب } يحتمل أن يكون معطوفاً على ما تقدم أي : وكثير حق عليه العذاب يسجد أي كراهية وعلى رغمه إما بظله وإما بخضوعه عند المكاره{[30565]} . فقوله : معطوف على ما تقدم يعني عطف الجمل لا{[30566]} أنه هو وحده عطف على ما قبله بدليل أنه قدره المبتدأ وخبره قوله : يسجد .
فصل{[30567]}
قال ابن عباس في رواية عطاء : { وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس } يوحده ، { وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب } ممن لا يوحده ، وروي عنه أنه قال : { وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس } في الجنة . وهذه الرواية تؤكد أن قوله { وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس } مبتدأ وخبره محذوف . وقال آخرون الوقف على قوله { وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس } ثم استأنف بواو الاستئناف فقال : { وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب } .
( وأما قوله تعالى { وَمَن يُهِنِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ } فالمعنى أن الذين حق عليهم العذاب{[30568]} ) ليس لهم أحد يقدر على إزالة ذلك الهوان عنهم{[30569]} مكرماً لهم . ثم بين بقوله { إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ } أنه الذي يصح منه الإكرام والهوان يوم القيامة بالثواب والعقاب .