المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ بِبَدۡرٖ وَأَنتُمۡ أَذِلَّةٞۖ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} (123)

لما أمر الله تعالى بالتوكل عليه ، ذكر بأمر «بدر » الذي كان ثمرة التوكل على الله والثقة به ، فمن قال من المفسرين إن قول النبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنين : { ألن يكفيكم } . كان في غزوة بدر ، فيجيء التذكير بأمر «بدر » وبأمر الملائكة وقتالهم فيه مع المؤمنين ، محرضاً على الجد والتوكل على الله ، ومن قال : إن قول النبي صلى الله عليه وسلم : { ألن يكفيكم } الآية ، إنما كان في غزوة أحد ، كان قوله تعالى : { ولقد نصركم الله ببدر } إلى { تشكرون } اعتراضاً بين الكلام جميلاً ، والنصر ببدر هو المشهور الذي قتل فيه صناديد قريش ، وعلى ذلك اليوم انبنى الإسلام ، وكانت «بدر » يوم سبعة عشر من رمضان يوم جمعة لثمانية عشر شهراً من الهجرة ، و «بدر » ماء هنالك سمي به الموضع ، وقال الشعبي : كان ذلك الماء لرجل من جهينة يسمى بدراً فبه سمي ، قال الواقدي{[3483]} : فذكرت هذا لعبد الله بن جعفر{[3484]} ومحمد بن صالح{[3485]} فأنكراه وقالا : بأي شيء سميت الصفراء والجار وغير ذلك من المواضع ؟ . قال وذكرت ذلك ليحيى بن النعمان الغفاري{[3486]} فقال : سمعت شيوخاً من بني غفار يقولون : هو ماؤنا ومنزلنا وما ملكه أحد قط يقال له بدر ، وما هو من بلاد جهينة إنما هي بلاد غفار ، قال الواقدي : فهذا المعروف عندنا ، وقوله تعالى : { وأنتم أذلة } معناه قليلون ، وذلك أنهم كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر أو أربعة عشر رجلاً ، وكان عدوهم ما بين التسعمائة إلى الألف ، و { أذلة } جمع ذليل ، واسم الذل في هذا الموضع مستعار ، ولم يكونوا في أنفسهم إلا أعزة ، ولكن نسبتهم إلى عدوهم وإلى جميع الكفار في أقطار الأرض يقتضي عند التأمل ذلتهم ، وأنهم مغلوبون ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم : اللهم ( إن تهلك هذه العصابة لم تعبد ){[3487]} ، وهذه الاستعارة كاستعارة الكذب في قوله في الموطأ ، كذب كعب ، وكقوله كذب أبو محمد ، وكاستعارة المسكنة لأصحاب السفينة على بعض الأقوال ، إذ كانت مسكنتهم بالنسبة إلى الملك القادر الغاصب ، ثم أمر تعالى المؤمنين بالتقوى ، ورجاهم بالإنعام الذي يوجب الشكر ، ويحتمل أن يكون المعنى : اتقوا الله عسى أن يكون تقواكم شكراً على النعمة في نصره ببدر .


[3483]:- هو أبو عبد الله محمد بن عمر الواقدي مولى الأسلميين، كان يتشيع، حسن المذهب، يلزم التقية، كان من أهل المدينة، انتقل إلى بغداد وولي القضاء بها. كان عالما بالمغازي والسير والفُتوح واختلاف الناس في الحديث والفقه والأحكام والأخبار، توفي سنة 207. "الفهرست لابن النديم 144".
[3484]:- عبد الله بن جعفر بن أبي طالب الهاشمي، أبو محمود، ولد بأرض الحبشة حفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم وروى عنه وعن أبويه، وعنه بنوه، كان يقال له: قطب السخاء، كان أحد أمراء علي يوم صفين، وقال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وأما عبد الله فيشبه خلقي وخلقي)..." الإصابة 2/289".
[3485]:- محمد بن صالح بن دينار التمار، أبو عبد الله المدني، مولى الأنصار، روى عن أبي حازم، والقاسم، وعمر بن عبد العزيز، وعنه ابنه صالح، والواقدي وغيرهما، ثقة قليل الحديث، توفي سنة 168هـ" تهذيب التهذيب: 2/225".
[3486]:- لم نعثر على ترجمته فيما لدينا من المراجع.
[3487]:- أخرجه مسلم في صحيحه في باب الإمداد بالملائكة من كتاب "الجهاد 5/156".
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ بِبَدۡرٖ وَأَنتُمۡ أَذِلَّةٞۖ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} (123)

إذ قد كانت وقعة أحُد لم تنكشف عن نصر المسلمين ، عَقَّب الله ذكرها بأن ذكَّرهم الله تعالى نَصره إيّاهم النصر الَّذي قدّره لهم يوم بدر ، وهو نصر عظيم إذ كان نصرَ فئة قليلةٍ على جيش كثير ، ذي عُدد وافرة ، وكان قتلى المشركين يومئذ سادةَ قريش ، وأيمّة الشرك ، وحسبك بأبي جهل بن هشام ، ولذلك قال تعالى : { وأنتم أذلة } أي ضعفاء . والذلّ ضد العزّ فهو الوهن والضعف . وهذا تعريض بأنّ انهزام يوم أحُد لا يفلّ حدّة المسلمين لأنّهم صاروا أعزّة . والحرب سجال .

وقوله : { فاتقوا الله لعلكم تشكرون } اعتراض بين جملة { ولقد نصركم الله ببدر } ومتعلّق فعلها أعني { إذ تقول للمؤمنين } . والفاء للتفريع والفاء تقع في الجملة المعترضة على الأصحّ ، خلافاً لمن منع ذلك من النحويين . . فإنَّه لمّا ذكّرهم بتلك المنّة العظيمة ذكّرهم بأنَّها سبب للشكر فأمرهم بالشكر بملازمة التَّقوى تأدّباً بنسبة قوله تعالى : { لئن شكرتم لأزيدنكم } [ إبراهيم : 70 ] .

ومن الشكر على ذلك النَّصر أن يثبتوا في قتال العدو ، وامتثالُ أمر النَّبيء صلى الله عليه وسلم وأن لا تَفُلّ حدّتَهم هزيمة يوم أحُد .