اقتضى المعنى في هذه الآية كون { إنما } حاصرة الحصر التام ، واختلف الناس في سبب هذه الآية ، فروي عن ابن عباس والضحاك أنها نزلت بسبب قوم من أهل الكتاب كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فنقضوا العهد وقطعوا السبيل وأفسدوا في الأرض .
قال القاضي أبو محمد : ويشبه أن تكون نازلة بني قريظة حين هموا بقتل النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال عكرمة ، والحسن : نزلت الآية في المشركين .
قال القاضي أبو محمد : وفي هذا ضعف ، لأن توبة المشرك نافعة بعد القدرة عليه وعلى كل حال ، وقال أنس بن مالك وجرير بن عبد الله وسعيد بن جبير وعروة بن الزبير وعبد الله بن عمر وغيرهم : إن الآية نزلت في قوم من عكل وعرينة{[4522]} قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فأسلموا ثم إنهم مرضوا واستوخموا المدينة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يكونوا في لقاح الصدقة ، وقال اشربوا من ألبانها وأبوالها . فخرجوا فيها فلما صحوا قتلوا الرعاء واستاقوا الإبل فجاء الصريخ فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فأمر فنودي في الناس يا خيل الله اركبي ، فركب رسول الله على أثرهم فُأخذوا ، وقال جرير بن عبد الله فبعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من المسلمين حتى إذا أدركناهم ، وقد أشرفوا على بلادهم فجئنا بهم النبي صلى الله عليه وسلم ، قال جميع الرواة فقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم «أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وسمر أعينهم{[4523]} ، ويروى وسمل ، وتركهم في جانب الحرة يستسقون فلا يسقون ، وفي حديث جرير ، فكانوا يقولون الماء ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : النار{[4524]} ، وفي بعض الروايات عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرقهم بالنار بعدما قتلهم ، قال أبو قلابة ، هؤلاء كفروا وقتلوا وأخذوا الأموال وحاربوا الله ورسوله ، وحكى الطبري عن بعض أهل العلم أن هذه الآية نسخت فعل النبي صلى الله عليه وسلم بالعرنيين ووقفت الأمر على هذه الحدود ، وقال بعضهم : وجعلها الله عتاباً لنبيه صلى الله عليه وسلم على سمل الأعين ، وحكى عن جماعة من أهل العلم أن هذه الآية ليست بناسخة لذلك الفعل لأن ذلك وقع في المرتدين .
قال القاضي أبو محمد : لا سيما وفي بعض الطرق أنهم سملوا أعين الرعاة{[4525]} قالوا ، وهذا الآية هي في المحارب المؤمن ، وحكى الطبري عن السدي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسمل أعين العرنيين وإنما أراد ذلك فنزلت الآية ناهية عن ذلك .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول ضعيف تخالفه الروايات المتظاهرة ، ولا خلاف بين أهل العلم أن حكم هذه الآية مترتب في المحاربين من أهل الإسلام ، واختلفوا فيمن هو الذي يستحق اسم الحرابة ، فقال مالك بن أنس رحمه الله ، المحارب عندنا من حمل على الناس السلاح في مصر أو برية فكابرهم عن أنفسهم وأموالهم دون نائرة ولا دَخل ولا عداوة{[4526]} ، وقال بهذا القول جماعة من أهل العلم ، وقال أبو حنيفة وأصحابه وجماعة من أهل العلم ، لا يكون المحارب إلا القاطع على الناس في خارج الأمصار ، فأما في المصر فلا .
قال القاضي أبو محمد : يريدون أن القاطع في المصر يلزمه حد ما اجترح من قتل أو سرقة أو غصب ونحو ذلك ، والحرابة ُرتب أدناها إخافة الطريق فقط لكنها توجب صفة الحرابة ، ثم بعد ذلك أن يأخذ المال مع الإخافة ثم بعد ذلك أن يقتل مع الإخافة ثم بعد ذلك أن يجمع ذلك كله ، فقال مالك رحمه الله وجماعة من العلماء : في أي رتبة كان المحارب من هذه الرتب فالإمام مخير فيه في أن يعاقبه بما رأى من هذه العقوبات ، واستحسن أن يأخذ في الذي لم يقتل بأيسر العقوبات .
قال القاضي أبو محمد : لا سيما إن كانت زلة ولم يكن صاحب شرور معروفة ، وأما إن قتل فلا بد من قتله ، وقال ابن عباس رضي الله عنه والحسن وأبو مجلز وقتادة وغيرهم من العلماء : بل لكل رتبة من الحرابة رتبة من العقاب ، فمن أخاف الطرق فقط فعقوبته النفي ، ومن أخذ المال ولم يقتل فعقوبته القطع من خلاف . ومن قتل دون أخذ مال فعقوبته القتل ، ومن جمع الكل قتل وصلب ، وحجة هذا القول أن الحرابة لا تخرج عن الإيمان ودم المؤمن حرام إلا بإحدى ثلاث : ارتداد أو زنى بعد إحصان أو قتل نفس ، فالمحارب إذا لم يقتل فلا سبيل إلى قتله ، وقد روي عن ابن عباس والحسن أيضاً وسعيد بن المسيب وغيرهم مثل قول مالك : إن الإمام مخير ، ومن حجة هذا القول أن ما كان في القرآن «أو . أو » ، فإنه للتخيير ، كقوله تعالى : { ففدية من صيام أوصدقة أو نسك }{[4527]} وكآية كفارة اليمين وآية جزاء الصيد .
قال القاضي أبو محمد : ورجح الطبري القول الآخر وهو أحوط للمفتي ولدم المحارب ، وقول مالك أسُّد للذريعة وأحفظ للناس والطرق ، والمخيف في حكم القاتل ، ومع ذلك فمالك يرى فيه الأخذ بأيسر العقوبات استحساناً ، وذكر الطبري عن أنس بن مالك أنه قال سأل رسول الله جبريل عليهما السلام عن الحكم في المحارب ، فقال : من أخاف السبيل وأخذ المال فاقطع يده للأخذ ، ورجله للإخافة ومن قتل فاقتله ، ومن جمع ذلك فاصلبه .
قال القاضي أبو محمد : وبقي النفي للمخيف فقط ، وقوله تعالى : { يحاربون الله } تغليظ جعل ارتكاب نهيه محاربة ، وقيل التقدير يحاربون عباد الله ، ففي الكلام حذف مضاف ، وقوله تعالى : { ويسعون في الأرض فساداً } تبيين للحرابة أي : ويسعون بحرابتهم ، ويحتمل أن يكون المعنى ويسعون فساداً منضافاً إلى الحرابة ، والرابط إلى هذه الحدود إنما هو الحرابة ، وقرأ الجمهور «يقتّلوا ، ُيصلّبوا ، ُتقطّع » بالتثقيل في هذه الأفعال للمبالغة والتكثير ، والتكثير هنا إنما هو من جهة عدد الذين يوقع بهم كالتذبيح في بني إسرائيل في قراءة من ثقل { يذبّحون }{[4528]} وقرأ الحسن ومجاهد وابن محيصن «يقتلوا ، ويصلبوا ، تقطع » بالتخفييف في الأفعال الثلاثة ، وأما قتل المحارب فبالسيف ضربة العنق ، وأما صلبه فجمهور من العلماء على أنه يقتل ثم يصلب نكالاً لغيره ، وهذا قول الشافعي ، وجمهور من العلماء على أنه يصلب حياً ويقتل بالطعن على الخشبة ، وروي هذا عن مالك وهو الأظهر من الآية وهو الأنكى في النكال ، وأما القطع فاليد اليمنى من الرسغ والرجل الشمال من المفصل ، وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان يقطع اليد من الأصابع ويبقي الكف والرجل من نصف القدم ويبقى العقب واختلف العلماء في النفي فقال السدي : هو أن يطلب أبداً بالخيل والرجل حتى يؤخذ فيقام عليه حدّ الله ويخرج من دار الإسلام ، وروي عن ابن عباس أنه قال : نفيه أن يطلب وقاله أنس بن مالك ، وروي ذلك عن الليث ومالك بن أنس غير أن مالكاً قال : لا يضطر مسلم إلى دخول دار الشرك ، وقال سعيد بن جبير : النفي من دار الإسلام إلى دار الشرك ، وقالت طائفة من العلماء منهم عمر بن عبد العزيز : النفي في المحاربين أن ينفوا من بلد إلى غيره مما هو قاص بعيد ، وقال الشافعي : ينفيه من عمله ، وقال أبو الزناد : كان النفي قديماً إلى َدهَلك وباِضع وهما من أقصى اليمن ، وقال أبو حنيفة وأصحابه وجماعة : النفي في المحاربين السجن فذلك إخراجهم من الأرض .
قال القاضي أبو محمد : والظاهر أن { الأرض } في هذه الآية هي أرض النازلة ، وقد جنب الناس قديماً الأرض التي أصابوا فيها الذنوب ومنه حديث الذي ناء بصدره نحو الأرض المقدسة{[4529]} ، وينبغي للإمام إن كان هذا المحارب المنفي مخوف الجانب يظن أنه يعود إلى حرابة وإفساد أن يسجنه في البلد الذي يغرب إليه ، وإن كان غير مخوف الجانب ترك مسرحاً ، وهذا هو صريح مذهب مالك : أن يغرب ويسجن حيث يغرب ، وهذا هو الأغلب في أنه مخوف ، ورجحه الطبري وهو الراجح لأن نفيه من أرض النازلة أو الإسلام هو نص الآية وسجنه بعد بحسب الخوف منه ، فإذا تاب وفهم حاله سرح . وقوله تعالى : { ذلك لهم الخزي } إشارة إلى هذه الحدود التي توقع بهم ، وغلظ الله الوعيد في ذنب الحرابة بأن أخبر أن لهم في الآخرة عذاباً عظيماً مع العقوبة في الدنيا ، وهذا خارج عن المعاصي الذي في حديث عبادة بن الصامت في قول النبي صلى الله عليه وسلم ، «فمن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به فهو له كفارة » .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن يكون الخزي لمن عوقب ، وعذاب الآخرة لمن سلم في الدنيا ، ويجرى هذا الذنب مجرى غيره ، وهذا الوعيد مشروط الإنفاذ بالمشيئة{[4530]} ، أما إن الخوف يغلب عليهم بحسب الوعد وعظم الذنب ، والخزي في هذه الآية : الفضيحة والذل والمقت .
تخلُّص إلى تشريع عقاب المحاربين ، وهم ضرب من الجُناة بجناية القتل . ولا علاقة لهذه الآية ولا الّتي بعدها بأخبار بني إسرائيل . نزلت هذه الآية في شأن حكم النبي صلى الله عليه وسلم في العُرنيّين ، وبه يشعر صنيع البخاري إذ ترجم بهذه الآية من كتاب التّفسير ، وأخرج عَقِبه حديث أنس بن مالك في العُرنيّينَ . ونصّ الحديث من مواضع من صحيحه : " قدم على النّبيء صلى الله عليه وسلم نَفَر من عُكْلٍ وَعُرَيْنَة فأسلموا ثمّ أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا قد استوْخَمْنَا هذه الأرض ، فقال لهم : هذه نَعَم لنا فاخْرُجوا فيها فاشرَبوا ألبانها وأبوالها " فخرجوا فيها فَشَرِبُوا من أبوالها وألبانها واستَصَحُّوا ، فَمَالوا على الرّاعي فقتلوه واطَّرَدُوا الذّوْد وارتَدّوا . فبعث رسول الله في آثارهم ، بعث جريرَ بن عبد الله في خيل فأدركوهم وقد أشرفوا على بلادهم ، فما تَرَجَّل النّهار حتّى جِيء بهم ، فأمر بهم ، فقُطعت أيديهم وأرجلُهم وَسُمِلَتْ أعْيُنُهم بمسامير أحميت ، ثُمّ حبَسهم حتّى ماتوا . وقيل : أمر بهم فأُلْقُوا في الحرّة يستسْقُون فما يُسقَوْن حتَّى ماتُوا . قال جماعة : وكان ذلك سنة ستّ من الهجرة ، كان هذا قبل أن تنزل آية المائدة . نقل ذلك مَوْلى ابنِ الطلاع في كتاب « الأقضيَة المَأثورة » بسنده إلى ابن جبير وابن سيرين ، وعلى هذا يكون نزولها نسخاً للحَدّ الّذي أقامَه النّبيء صلى الله عليه وسلم سواء كان عن وَحي أم عن اجتهادٍ منه ، لأنّه لمّا اجتهد ولم يغيّره الله عليه قبل وقوع العمل به فقد تقرّر به شرع . وإنّما أذن الله له بذلك العقاب الشّديد لأنّهم أرادوا أن يكونُوا قدوة للمشركين في التحيّل بإظهار الإسلام للتوصّل إلى الكيد للمسلمين ، ولأنّهم جمعوا في فعلهم جنايات كثيرة . قال أبو قِلابة : فماذا يُستبقى من هؤلاء قَتلوا النّفس وحاربوا الله ورسولَه وخوّفوا رسولَ الله . وفي رواية للطبري : نزلت في قوم من أهل الكتاب كان بينهم وبين المسلمين عهد فنقضوه وقطعوا السّبيل وأفسدوا في الأرض . رواه عن ابن عبّاس والضحّاك . والصّحيح الأوّل . وأيّاما كان فقد نسخ ذلك بهذه الآية .
فالحصر ب { إنّما } في قوله { إنّما جزاء الّذين يحَاربُون } الخ على أصحّ الروايتين في سبب نزول الآية حصر إضافي ، وهو قصر قلب لإبطال أي لنسخ العقاب الّذي أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم على العُرَنِيّين ، وعلى ما رواه الطبري عن ابن عبّاس فالحصر أن لا جزاء لهم إلاّ ذلك ، فيكون المقصود من القصر حينئذٍ أن لا يُنقص عن ذلك الجزاء وهو أحد الأمور الأربعة . وقد يكون الحصر لردّ اعتقادٍ مُقدّر وهو اعتقاد من يستعظم هذا الجزاء ويميل إلى التّخفيف منه . وكذلك يكون إذا كانت الآية غير نازلة على سبب أصلاً .
وأيَّامّاً كان سبب النزول فإنّ الآية تقتضي وجوب عقاب المحاربين بما ذكر الله فيها ، لأنّ الحصر يفيد تأكيد النسبة . والتّأكيد يصلح أن يعدّ في أمارات وجوب الفل المعدود بعضها في أصول الفقه لأنّه يجعل الحكم جازماً .
ومعنى { يحاربون } أنّهم يكونون مقاتلين بالسّلاح عُدواناً لقصد المغنم كشأن المحارب المبادي ، لأنّ حقيقة الحرب القتال . ومعنى محاربة الله محاربة شرعه وقصد الاعتداء على أحكامه ، وقد عُلم أنّ الله لا يحارِبه أحد فذكره في المحاربة لتشنيع أمرها بأنّها محاربة لمن يغضب الله لمحاربته ، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم والمراد بمحاربَة الرّسول الاعتداء على حكمه وسلطانه ، فإنّ العرنيّين اعتدوا على نَعم رسول الله صلى الله عليه وسلم المتّخذة لتجهيز جيوش المسلمين ، وهو قد امتنّ عليهم بالانتفاع بها فلم يراعوا ذلك لكفرهم فما عاقب به الرّسول العرنيّين كان عقاباً على محاربة خاصّة هي من صريح البغض للإسلام . ثُمّ إنّ الله شرع حكماً للمحاربة الّتي تقع في زمن رسول الله وبعده ، وسوّى عقوبتها ، فتعيّن أن يصير تأويل { يحاربون الله ورسوله } المحاربة لجماعة المسلمين . وجعل لها جزاء عين جزاء الردّة ، لأنّ الردّة لها جزاء آخر فعلمنا أنّ الجزاء لأجل المحاربة . ومن أجل ذلك اعتبره العلماء جزاء لمن يأتي هذه الجريمة من المسلمين ، ولهذا لم يجعله الله جزاء للكفّار الّذين حاربوا الرّسول لأجل عناد الدّين ، فلهذا المعنى عُدّي { يحاربون } إلى { الله ورسوله } ليظهر أنّهم لم يَقصدوا حربَ معيَّن من النّاس ولا حرب صَفّ .
وعُطف { ويسعون في الأرض فساداً } لبيان القصدِ من حربهم اللّهَ ورَسوله ، فصار الجزاء على مجموع الأمرين ، فمجمُوعُ الأمرين سَبَب مركّب للعقوبة ، وكلّ واحد من الأمرين جزءُ سبب لا يقتضي هذه العقوبة بخصوصها .
وقد اختلف العلماء في حقيقة الحرابة ؛ فقال مالك : هي حمل السلاح على النّاس لأخذ أموالهم دون نائرة ولا دخَل ولا عداوة أي بين المحارب بالكسر وبين المحارَب بالفتح ، سواء في البادية أو في المِصر ، وقال به الشّافعي وأبو ثور . وقيل : لا يكون المحارب في المصر محارِباً ، وهو قول أبي حنيفة وسفيان الثوري وإسحاق . والّذي نظر إليه مالك هو عموم معنى لفظ الحرابة ، والّذي نظر إليه مخالفوه هو الغالب في العرف لندرة الحرابة في المصر . وقد كانت نزلت بتونس قضية لصّ اسمه « ونّاس » أخاف أهل تونس بحيله في السرقة ، وكان يحمل السّلاح فحكم عليه بحكم المحارب في مدة الأمير محمد الصادق باي وقتل شنقاً بباب سويقة .
ومعنى { يسعون في الأرض فساداً } أنّهم يكتسبون الفساد ويجتنونه ويجترحونه ، لأنّ السعي قد استعمل بمعنى الاكتساب واللَّمّ ، قال تعالى : { ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها } [ الإسراء : 19 ] . ويقولون : سعَى فلان لأهله ، أي اكتسب لهم ، وقال تعالى : { لتجزي كُلّ نفس بما تسعى } [ طه : 15 ] .
وصاحب « الكشاف » جعله هنا بمعنى المشي ، فجعل { فساداً } حالاً أو مفعولاً لأجله ، ولقد نظر إلى أنّ غالب عمل المحارب هو السعي والتنقّل ، ويكون الفعل منزّلاً منزلة اللازم اكتفاء بدلالة المفعول لأجله . وجَوّز أن يكون سعَى بمعنى أفسد ، فَجَعل { فساداً } مفعولاً مطلقاً . ولا يعرف استعمال سعى بمعنى أفسد .
والفساد : إتلاف الأنفس والأموال ، فالمحارب يقتل الرجل لأخذ ما عليه من الثّياب ونحو ذلك .
و { يُقتّلوا } مبالغة في يُقْتلوا ، كقول امرىء القيس :
قُصِد من المبالغة هنا إيقاعه بدون لين ولا رفق تشديداً عليهم ، وكذلك الوجه في قوله { يُصَلَّبوا } .
والصّلب : وضع الجاني الّذي يُراد قتله مشدوداً على خشبة ثُمّ قتله عليها طَعناً بالرّمح في موضع القتل . وقيل : الصّلب بَعْد القتل . والأول قول مالك ، والثّاني مذهب أشهب والشّافعي .
و { مِنْ } في قوله { مِن خلاف } ابتدائية في موضع الحال من { أيديهم وأرجلُهم } ، فهي قيد للقطع ، أي أنّ القطع يبتدىء في حال التخالف ، وقد علم أنّ المقطوع هو العضو المُخالف فتعيّن أنّه مخالِف لمقطوععٍ آخر وإلاّ لم تتصوّر المخالفة ، فإذا لم يكن عضو مقطوعٌ سابقٌ فقد تعذّر التخالف فيكون القطع للعضو الأوّل آنفاً ثُمّ تجري المخالفَةُ فيما بعدُ . وقد علم من قوله : { من خلاف } أنّه لا يقطع من المحارب إلاّ يد واحدة أو رجل واحدة ولا يقطع يداه أو رجلاه ؛ لأنّه لو كان كذلك لم يتصوّر معنى لكون القطع من خلاف . فهَذا التّركيب من بديع الإيجاز . والظاهر أنّ كون القطع مِن خلاف تيسير ورحمة ، لأنّ ذلك أمكن لحركة بقية الجهد بعد البرء وذلك بأنّ يتوكّأ باليد الباقية على عُود بجهة الرّجل المقطوعة .
قال علماؤنا : تقطع يده لأجل أخذ المال ، ورجلُه للإخافة ؛ لأنّ اليد هي العضو الّذي به الأخذ ، والرّجل هي العضو الّذي به الإخافة ، أي المشي وراء النّاس والتعرّض لهم .
والنّفي من الأرض : الإبعاد من المكان الّذي هو وطنه لأنّ النّفي معناه عدم الوجود . والمراد الإبعاد ، لأنّه إبعاد عن القوم الّذين حاربوهم . يقال : نفوا فلاناً ، أي أخرجوه من بينهم ، وهو الخليع ، وقال النّابغة :
ليُهنىء لكم أنْ قَدْ نَفَيْتُم بُيُوتنا
أي أقصيتمونا عن دياركم . ولا يعرف في كلام العرب معنى للنّفي غير هذا . وقال أبو حنيفة وبعض العلماء : النّفي هو السجن . وحمَلهم على هذا التأويل البعيد التفادي من دفع أضرار المحارب عنْ قوم كانَ فيهم بتسليط ضُرّه على قوم آخرين . وهو نظر يَحمل على التّأويل ، ولكن قد بيّن العلماء أنّ النّفيَ يحصل به دفع الضرّ لأنّ العرب كانوا إذا أخرج أحد من وظنه ذُلّ وخُضدت شوكته ، قال امرؤ القيس :
به الذئْب يعوي كالخليع المُعَيَّل
وذلك حال غير مختصّ بالعرب فإنّ للمرء في بلده وقومه من الإقدام ما ليس له في غير بلده . على أنّ من العلماء من قال : ينفون إلى بلد بعيد منحاز إلى جهة بحيث يكون فيه كالمحصور .
قال أبو الزناد : كان النّفي قديماً إلى ( دَهْلَكَ ) وإلى ( بَاضِع ){[221]} وهما جزيرتان في بحر اليمن .
وقد دلّت الآية على أمرين : أحدهما : التخيير في جزاء المحاربين ؛ لأنّ أصل ( أو ) الدلالة على أحد الشيئين أو الأشياء في الوقوع ، ويقتضي ذلك في باب الأمر ونحوه التخيير ، نحو { ففدية من صيام أو صدقة أو نُسك } [ البقرة : 196 ] . وقد تمسّك بهذا الظّاهر جماعة من العلماء منهم مالك بن أنس ، وسعيدُ بن المسيّب ، وعطاء ، ومجاهد ، والنخعي ، وأبو حنيفة ، والمرويّ عن مالك أنّ هذا التخيير لأجل الحرابة ، فإن اجترح في مدّة حرابته جريمة ثابتة توجب الأخذَ بأشدّ العقوبة كالقتل ؛ قُتل دون تَخيير ، وهو مُدرك واضح . ثُمّ ينبغي للإمام بعد ذلك أن يأخذ في العقوبة بما يقارب جرم المحارب وكثرة مُقامه في فساده . وذهب جماعة إلى أنّ ( أو ) في الآية للتّقسيم لا للتخيير ، وأنّ المذكورات مراتب للعقوبات بحسب ما اجترحه المحارب : فمن قتل وأخذ المال قُتل وصُلب ، ومن لم يَقتل ولا أخذَ مالاً عُزّر ، ومن أخاف الطريق نُفي ، ومن أخذ المال فقط قطع ، وهو قول ابن عبّاس ، وقتادة ، والحسن ، والسديّ ، والشافعي . ويقرب خلافهم من التّقارب .
والأمر الثّاني : أنّ هذه العقوبات هي لأجل الحرابة وليست لأجل حقوق الأفراد من النّاس ، كما دلّ على ذلك قوله بعدُ { إلاّ الّذين تابوا من قبل أن تَقدروا عليهم } الآية وهو بيّن . ولذلك فلو أسقط المعتدى عليهم حقوقهم لم يسقط عن المحارب عقوبة الحرابة .
وقوله { ذلك لهم خِزي في الدّنيا } ، أي الجزاء خزي لهم في الدّنيا . والخزي : الذلّ والإهانة { ولا تُخزنا يوم القيامة } [ آل عمران : 194 ] . وقد دلّت الآية على أنّ لهؤلاء المحاربين عقابين : عقاباً في الدّنيا وعقاباً في الآخرة . فإن كان المقصود من المحاربين في الآية خصوص المحاربين من أهل الكفر كالعُرنيّين ، كما قيل به ، فاستحقاقهم العذابين ظاهر ، وإن كان المراد به ما يشمل المحارب من أهل الإسلام كانت الآية معارِضة لما ورد في الحديث الصّحيح في حديث عبادة بن الصامت من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخذ البيعة على المؤمنين بما تضمّنته آية { إذا جاءك المؤمنات يبايعنك } [ الممتحنة : 12 ] الخ فقال : « فَمَن وفَى منكم فأجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به فهو كفارة له ومن أصاب منها شيئاً فستره الله فهْوَ إلى الله إن شاء عذّبه وإن شاء غفر له » فقوله : فهو كفارة له ، دليل على أنّ الحدّ يسقط عقاب الآخرة ، فيجوز أن يكون ما في الآية تغليظاً على المحاربين بأكثر من أهل بقيّة الذنوب ، ويجوز أن يكون تأويل ما في هذه الآية على التفصيل ، أي لهم خزي في الدنيا إن أُخِذوا به ، ولهم في الآخرة عذاب عظيم إن لم يؤخذوا به في الدّنيا .