المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱبۡتَغُوٓاْ إِلَيۡهِ ٱلۡوَسِيلَةَ وَجَٰهِدُواْ فِي سَبِيلِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (35)

هذه الآية وعظ من الله تعالى بعقب ذكر العقوبات النازلة بالمحاربين ، وهذا من أبلغ الوعظ لأنه يرد على النفوس وهي خائفة وجلة ، وعادة البشر إذا رأى وسمع أَمْرَ ُمْمَتِحن ببشيع المكاره أن يرق ويخشع ، فجاء الوعظ في هذه الحال ، { ابتغوا } معناه اطلبوا ، و { الوسيلة } القربة وسبب النجاح في المراد ، ومن ذلك قول عنترة لامرأته :

إن الرجال لهم إليك وسيلة . . . أن يأخذوك تكحلي وتخضبي

وأما الوسيلة المطلوبة لمحمد صلى الله عليه وسلم فهي أيضاً من هذا ، لأن الدعاء له بالوسيلة والفضيلة إنما هو أن يؤتاهما في الدنيا ويتصف بهما ويكون ثمرة ذلك في الآخرة التشفيع في المقام المحمود ، ومن هذه اللفظة قول الشاعر :

إذا غفل الواشون عدنا لوصلنا . . . وعاد التصافي بيننا والوسائل

أنشده الطبري ، وقوله تعالى : { وجاهدوا في سبيله } خص الجهاد بالذكر لوجهين ، أحدهما نباهته في أعمال البر وأنه قاعدة الإسلام ، وقد دخل بالمعنى في قوله : { وابتغوا إليه الوسيلة } ولكن خصه تشريفاً ، والوجه الآخر أنها العبادة التي تصلح لكل منهي عن المحاربة وهو ُمعٌّد لها من حاله وسنه وقوته وِشَّرةِ نفسه ، فليس بينه وبين أن ينقلب إلى الجهاد إلا توفيق الله تعالى .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱبۡتَغُوٓاْ إِلَيۡهِ ٱلۡوَسِيلَةَ وَجَٰهِدُواْ فِي سَبِيلِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (35)

اعتراض بين آيات وعيد المحاربين وأحكام جزائهم وبين ما بعده من قوله : { إنّ الذين كفروا لو أنّ لهم ما في الأرض جميعاً } [ المائدة : 36 ] الآية . خاطب المؤمنين بالتّرغيب بعد أن حذّرهم من المفاسد ، على عادة القرآن في تخلّل الأغراض بالموعظة والتّرغيب والتّرهيب ، وهي طريقة من الخطابة لاصطياد النّفوس ، كما قال الحريري : « فلمّا دَفنوا الميْتْ ، وفاتَ قول ليتْ ، أقبل شَيخ من رِباوَة ، متأبّطاً لهراوة ، . فقال : لمثل هذا فليعمل العاملون ، إلخ . فعُقّب حكم المحاربين من أهل الكفر بأمر المؤمنين بالتّقوى وطلب ما يوصلهم إلى مرضاة الله . وقابل قتالاً مذموماً بقتال يحمد فاعله عاجلاً وآجلاً » .

والوسيلة : كالوصيلة . وفعل وَسَل قريب من فعل وَصَلَ ، فالوسيلة : القُربة ، وهي فعيلة بمعنى مفعولة ، أي متوسّل بها أي اتبعوا التقرّب إليه ، أي بالطاعة .

و { إليه } متعلّق ب { الوسيلة } أي الوسيلة إلى الله تعالى . فالوسيلة أريد بها ما يبلغ به إلى الله ، وقد علم المسلمون أنّ البلوغ إلى الله ليس بلوغ مسافة ولكنّه بلوغ زلفى ورضى . فالتّعريف في الوسيلة تعريف الجنس ، أي كلّ ما تعلمون أنّه يقرّبكم إلى الله ، أي ينيلكم رضاه وقبول أعمالكم لديه . فالوسيلة ما يقرّب العبد من الله بالعمل بأوامره ونواهيه . وفي الحديث القُدسي : " ما تَقَرّب إلَيّ عبدي بشيء أحبّ إليّ ممّا افترضته عليه " الحديث . والمجرور في قوله : { وابتغوا إليه الوسيلة } متعلّق ب { ابتغوا } . ويجوز تعلّقه ب { الوسيلة } ، وقدم على متعلّقه للحصر ، أي لا تتوسّلوا إلاّ إليه لا إلى غيره فيكون تعريضاً بالمشركين لأنّ المسلمين لا يظنّ بهم ما يقتضي هذا الحصر .