المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{قَالَ قَدۡ وَقَعَ عَلَيۡكُم مِّن رَّبِّكُمۡ رِجۡسٞ وَغَضَبٌۖ أَتُجَٰدِلُونَنِي فِيٓ أَسۡمَآءٖ سَمَّيۡتُمُوهَآ أَنتُمۡ وَءَابَآؤُكُم مَّا نَزَّلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلۡطَٰنٖۚ فَٱنتَظِرُوٓاْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ ٱلۡمُنتَظِرِينَ} (71)

أعلمهم بأن القضاء قد نفذ وحل عليهم الرجس وهو السخط والعذاب يقال «رجس ورجز » بمعنى واحد ، قاله أبو عمرو بن العلاء ، وقال الشاعر : [ الطويل ]

إذا سنة كانت بنجد محيطة*** فكان عليهم رجسها وعذابها

وقد يأتي الرجس أيضاً بمعنى النتن والقذر ، ويقال في الرجيع رجس وركس ، وهذا الرجس هو المستعار للمحرمات ، أي ينبغي أن يجتنب كما يجتنب النتن ، ونحوه في المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم في خبر جهجاه الغفاري وسنان بن وبرة الأنصاري حين دعوا بدعوى الجاهلية : «دعوها فإنها منتنة » وقوله : { أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم } إنما يريد أنهم يخاصمونه في أن تسمى آلهة ، فالجدل إنما وقع في التسميات لا في المسميات ، لكنه ورد في القرآن { ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم } فهنا لا يريد إلا ذوات الأصنام ، فالاسم إنما يراد به المسمى نفسه .

قال القاضي أبو محمد : ومن رأى أن الجدل في هذه الآية إنما وقع في أنفس الأصنام وعبادتها تأول هذا التأويل ، والاسم يرد في كلام العرب بمعنى التسمية وهذا بابه الذي استعمله به النحويون ، وقد يراد به المسمى ويدل عليه ما قاربه من القول ، من ذلك قوله تعالى : { سبح اسم ربك الأعلى } وقوله { تبارك اسم ربك } [ الرحمن : 78 ] على أن هذا يتأول ، ومنه قول لبيد : [ الطويل ]

إلى الحوِل ثمَّ اسمُ السلام عليكما . . . . . . . . . . . . . . . . . .

على تأويلات في البيت ، وقد مضت المسألة في صدر الكتاب والسلطان : البرهان وقوله { فانتظروا إني معكم من المنتظرين } الآية وعيد وتهديد .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{قَالَ قَدۡ وَقَعَ عَلَيۡكُم مِّن رَّبِّكُمۡ رِجۡسٞ وَغَضَبٌۖ أَتُجَٰدِلُونَنِي فِيٓ أَسۡمَآءٖ سَمَّيۡتُمُوهَآ أَنتُمۡ وَءَابَآؤُكُم مَّا نَزَّلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلۡطَٰنٖۚ فَٱنتَظِرُوٓاْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ ٱلۡمُنتَظِرِينَ} (71)

أجابهم بأن أخبرهم بأنّ الله قد غضب عليهم ، وأنّهم وقع عليهم رجس من الله .

والأظهر أنّ : { وقع } معناه حَق وثبت ، من قولهم للأمر المحقّق : هذا وَاقع ، وقولهم للأمر المكذوب : هذا غير واقع ، فالمعنى حَقّ وقُدر عليكم رجس وغضب . فالرّجس هو الشّيء الخبيث ، أطلق هنا مجازاً على خبث الباطن ، أي فساد النّفس كما في قوله تعالى : { فزادتهم رجساً إلى رجسهم } [ التوبة : 125 ] وقوله { كذلك يجعل الله الرّجس على الذين لا يؤمنون } [ الأنعام : 125 ] . والمعنى أصاب الله نفوسهم بالفساد لكفرهم فلا يقبلون الخير ولا يصيرون إليه ، وعن ابن عبّاس أنّه فَسَّر الرّجس هنا باللّعنة ، والجمهور فسّروا الرّجس هنا بالعذاب ، فيكون فعل : { وقَعَ } من استعمال صيغة المضي في معنى الاستقبال ، إشعاراً بتحقيق وقوعه ؟ ومنهم من فسّر الرّجس بالسّخط ، وفسّر الغضب بالعذاب ، على أنّه مجاز مرسَل لأنّ العذاب أثر الغضب ، وقد أخبَر هود بذلك عن علم بوحي في ذلك الوقت أو من حين أرسله الله ، إذْ أعلمه بأنّهم إن لم يرجعوا عن الشّرك بعد أن يُبَلِّغهم الحجّة فإنّ عدم رجوعهم علامة على أنّ خبث قلوبهم متمكّن لا يزول ، ولا يرجى منهم إيمان ، كما قال الله لنوح : { لن يُؤمن من قومك إلاّ مَن قد آمن } [ هود : 136 ] .

وغضب الله تقديره : الإبعاد والعقوبة والتّحقير ، وهي آثار الغضب في الحوادث ، لأنّ حقيقة الغضب : انفعال تنشأ عنه كراهيّة المغضوب عليه وإبعادُه وإضراره .

وتأخير الغضب عن الرّجس لأنّ الرّجس ، وهو خبث نفوسهم ، قد دلّ على أنّ الله فطرهم على خبث بحيث كان استمرارهم على الضّلال أمراً جِبلّياً ، فدلّ ذلك على أنّ الله غضب عليهم . فوقوع الرجس والغضب عليهم حاصل في الزّمن الماضي بالنّسبة لوقت قول هود . واقترانُه ب { قد } للدّلالة على تقريب زمن الماضي من الحال : مثل قَد قامت الصّلاة .

وتقديم : { عليكم من ربّكم } على فاعل الفعل للاهتمام بتعجيل ذكر المغضوب والغاضب ، إيقاظاً لبصائرهم لعلّهم يبادرون بالتّوبة ، ولأنّ المجرورين متعلّقان بالفعل فناسب إيلاؤهما إياه ، ولو ذُكرا بعد الفاعل لتُوهِّم أنّهما صفتان له ، وقدم المجرور الذي هو ضميرهم ، على الذي هو وصف ربّهم لأنّهم المقصود الأوّل بالفعل .

ولمّا قَدّم إنذارهم بغضب الله عاد إلى الاحتجاج عليهم بفساد معتقدهم فأنكر عليهم أن يجادلوا في شأن أصنامهم . والمجادلة : المحاجة .

وعبّر عن الأصنام بأنّها أسماء ، أي هي مجرّد أسماء ليست لها الحقائق التي اعتقدوها ووضعوا لها الأسماء لأجل استحضارها ، فبذلك كانت تلك الأسماء الموضوعة مجرّد ألفاظ ، لانتفاء الحقائق التي وضعوا الأسماء لأجلها . فإنّ الأسماء توضع للمسمّيات المقصودة من التّسمية ، وهم إنّما وضعوا لها الأسماء واهتمّوا بها باعتبار كون الإلهيّة جزءاً من المسمَّى الموضوع له الاسم ، وهو الدّاعي إلى التّسميّة ، فمعاني الإلهية وما يتبعها ملاحظةٌ لمن وَضَع تلك الأسماء ، فلمّا كانت المعاني المقصودة من تلك الأسماء منتفية كانت الأسماء لا مسمّياتتٍ لها بذلك الاعتبار ، سواء في ذلك ما كان منها له ذوات وأجسام كالتّماثيل والأنصاب ، وما لم تكن له ذات ، فلعلّ بعص آلهة عاد كان مجرّد اسم يذكرونه بالإلهيّة ولا يجعلون له تمثالاً ولا نُصباً ، مثل ما كانت العزى عند العرب ، فقد قيل : إنهم جعلوا لها بيتاً ولم يجعلوا لها نصباً وقد قال الله تعالى في ذلك : { إن هي إلاّ أسماء سمّيتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان } [ النجم : 23 ] .

وذكر أهل الأخبار أنّ عادا اتّخذوا أصناماً ثلاثة وهي ( صَمُود ) بفتح الصّاد المهملة بوزن زَبُور . و { صُداء } بضمّ الصّاد المهملة مضبوطاً بخط الهَمَذاني محشي « الكشاف » في نسخة من حاشيته المسمّاة « توضيح المشكلات » ومنسوخة بخطّه ، وبدال مهملة بعدها ألف ولم أقف على ضبط الدّال بالتّشديد أو بالتّخفيف : وقد رأيت في نسخة من « الكشاف » مخطوطة موضوعاً على الدّال علامة شدّ ، ولستُ على تمام الثّقة بصحّة النّسخة ، وبعد الألف همزة كما هو في نسخ « الكشاف » و« تفسير البغوي » ، وكذلك هو في أبيات موضوعة في قصّة قوم عاد في كتب القَصص . ووقع في نسخة « تفسير ابن عطيّة » وفي « مروج الذّهب » للمسعودي ، وفي نسخه من شرح ابن بدرون على قصيدة ابن عبدون الأندلسِي بدون همزة بعد الألف ) . و ( الهباء ) بالمدّ في آخره مضبوطاً بخطّ الهمذاني في نسخة حاشيته على « الكشاف » ، وفي نسخة « الكشاف » المطبوعة ، وفي « تفسيري » البغوي والخازن ، وفي الأبيات المذكورة آنفاً . ووقع في نسخة قلمية من « الكشاف » بألف دون مدّ . ولم أقف على ضبط الهاء ، ولم أر ذكر صداء والهباء فيما رأيت من كتب اللّغة .

وعطف على ضمير المخاطبين : { وآبَاؤكم } لأنّ من آبائهم من وضع لهم تلك الأسماء ، فالواضعون وضعوا وسَمَّوْا ، والمقلّدون سمَّوْا ولم يضَعوا ، واشترك الفريقان في أنّهم يذكرون أسماء لا مسمّيات لها .

و { سمّيتموها } معناه : ذكرتموها بألسنتكم ، كما يقال : سمّ الله ، أي ذاكر اسمه ، فيكون سمّى بمعنى ذكر لفظ الاسم ، والألفاظ كلّها أسماء لمدلولاتها ، وأصل اللّغة أسماء قال تعالى : { وعلم آدم الأسماء كلّها } [ البقرة : 31 ] ، وقال لبيد :

إلى الحول ثمّ اسمُ السّلامُ عليكُما

أي لفظه . وليس المراد من التّسمية في الآية وضع الاسم للمسمّى ، كما يقال : سمّيت ولدي كذا ، لأنّ المخاطبين وكثيراً من آبائهم لاحظّ لهم في تسميّة الأصنام ، وإنّما ذلك من فعل بعض الآباء وهم الذين انتحلوا الشّرك واتّخذوه ديناً وعلَّموه أبناءهم وقومهم ، ولأجل هذا المعنى المقصود من التّسمية لم يُذكر لفعل « سمّيتم » مفعول ثان ولا متعلِّق ، بل اقتصر على مفعول واحد .

والسلطانُ : الحجّة التي يصدّق بها المخالفُ ، سمّيت سلطاناً لأنّها تتسلّط على نفس المعارض وتقنعه ، ونَفَى أن تكون الحجّة منزلة من الله لأنّ شأن الحجّة في مثل هذا أن يكون مخبَراً بها من جانب الله تعالى ، لأنّ أمور الغيب ممّا استأثر الله بعلمه . وأعظم المغيَّبات ثبوت الإلهيّة لأنّها قد يَقصر العمل عن إدراكها فمن شأنها أن تُتلقى من قبل الوحي الإلهي .

والفاء في قوله : { فانتظروا } لتفريع هذا الإنذار والتّهديد السّابق ، لأنّ وقوع الغضب والرّجس عليهم ، ومكابرتهم واحتجاجهم لما لا حجّة له ، ينشأ عن ذلك التّهديد بانتظار العذاب .

وصيغة الأمر للتّهديد مثل : { اعملوا ما شئتم } [ فصلت : 40 ] . والانتظار افتعال من النّظر بمعنى التّرقّب ، كأنّ المخاطب أمِر بالتّرقّب فارْتقبَ .

ومفعول : { انتظروا } محذوف دلّ عليه قوله : { رجس وغضب } أي فانتظروا عقاباً .

وقوله : { إني معكم من المنتظرين } استيناف بياني لأنّ تهديده إياهم يثير سؤالاً في نفوسهم أن يقولوا : إذا كنّا ننتظر العذاب فماذا يكون حالُك ، فبيّن أنّه ينتظر معهم ، وهذا مقام أدب مع الله تعالى كقوله تعالى تَلْقِيناً لرسوله محمّد صلى الله عليه وسلم { وما أدري ما يفعل بي ولا بكم } فهودٌ يخاف أن يشمله العذاب النّازل بقومه وذلك جائز كما في الحديث : أنّ أمّ سلمة قالت : « أنهلك وفينا الصّالحون » قال : " نعم إذا كثر الخبث " . وفي الحديث الآخر : " ثمّ يحشرون على نيّاتهم " ويجوز أن ينزّل بهم العذاب ويراه هود ولكنّه لا يصيبه ، وقد روي ذلك في قصّته ويجوز أن يبعده الله وقد روي أيضاً في قصته بأن يأمره بمبارحة ديار قومه قبل نزول العذاب :