المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ حَقّٗاۚ لَّهُمۡ دَرَجَٰتٌ عِندَ رَبِّهِمۡ وَمَغۡفِرَةٞ وَرِزۡقٞ كَرِيمٞ} (4)

وقوله { أولئك هم المؤمنون حقاً } يريد كل المؤمنين{[5221]} ، و { حقاً } مصدر مؤكد كذا نص عليه سيبويه ، وهو المصدر غير المتنقل ، والعامل فيه أحق ذلك حقاً{[5222]} ، وقوله { درجات } ظاهره ، وهو قول الجمهور ، أن المراد مراتب الجنة ومنازلها ودرجتها على قدر أعمالهم ، وحكى الطبري عن مجاهد أنها درجات أعمال الدنيا ، وقوله { ورزق كريم } يريد به مآكل الجنة ومشاربها ، و { كريم } صفة تقتضي رفع المذام كقولك ثوب كريم وحسب كريم .


[5221]:- "كل" بالرفع- والمعنى أنهم الكاملون في إيمانهم.
[5222]:- قال الزمخشري: [حقا] صفة لمصدر محذوف، أي: "أولئك هم المؤمنون إيمانا حقا"، أو هو مصدر مؤكد للجملة التي هي {أولئك هم المؤمنون} والتقدير: حق ذلك حقا، كقولك: "هو عبد الله حقا"، إذ التقدير فيها: حق ذلك حقا.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ حَقّٗاۚ لَّهُمۡ دَرَجَٰتٌ عِندَ رَبِّهِمۡ وَمَغۡفِرَةٞ وَرِزۡقٞ كَرِيمٞ} (4)

جملة مؤكدة لمضمون جملة : { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله } [ الأنفال : 2 ] إلى آخرها ولذلك فصلت .

وعُرف المسند إليه بالإشارة لوقوعه عقب صفات لتدل الإشارة على أنهم أحرياء بالحكم المسند إلى اسم الإشارة من أجل تلك الصفات ، فكان المخبرَ عنهم قد تميزوا للسامع بتلك الصفات فصاروا بحيث يشار إليهم .

وفي هذه الجملة قصر آخر يشبه القصر الذي قوله : { إنما المؤمنون } [ الأنفال : 2 ] حيث قصر الإيمان مرة أخرى على أصحاب تلك الصفات ولكنه قرن هنا بما فيه بيان المقصور وهو أنهم المؤمنون الأحقاء بوصف الإيمان .

والحق أصله مصدر حَق بمعنى ثبت واستعمل استعمال الأسماء للشيء الثابت الذي لا شك فيه قال تعالى : { وعد الله حقاً ومن أصدق من الله قيلاً } [ النساء : 122 ] .

ويطلق كثيراً ، على الكامل في نوعه ، الذي لاسترة في تحقق ماهية نوعه فيه ، كما يقول أحد لابنه البار به : أنت ابني حَقاً ، وليس يريد أن غيره من أبنائه ليسوا لرشدة ولكنه يريد أنت بنوتك واضحة آثارها ، ويطلق الحق على الصواب والحكمة فاسم الحق يجمع معنى كمال النوع .

ولكل صيغة قصر : منطوق ومفهوم ، فمنطوقها هنا أن الذين جَمعوا ما دلت عليه تلك الصلات هم مؤمنون حقاً ، ومفهومها أن من انتفى عنه أحدُ مدلولات تلك الصلات لم يكن مؤمناً كاملاً ، وليس المقصود أن من ثبتت له إحداها كان مؤمناً كاملاً ، إذا لم يتصف ببقية خصال المؤمنين الكاملين ، فمعنى أولئك هم المؤمنون حقا : أن من كان على خلاف ذلك ليس بمؤمن حقا أي كاملاً .

وهذا تأويل للكلام دعا إليه الجمع بين عديد الأدلة الواردة في الكتاب والسنة القولية والفعلية من ثبوت وصف الإيمان لكل من أيقن بأن الله منفرد بالإلهية وأن محمداً رسول الله إلى الناس كافة ، فتلك الأدلة بلغت مبلغ التواتر المعنوي المحصّل للعلم الضروري بأن الإخلال بالواجبات الدينية لا يسلب صفة الإيمان والإسلام عن صاحبه ، فليس حمل القصر على الادعائي هنا مجردَ صنع باليد ، أو ذهاب مع الهوى على أن شأن الاتصاف ببعض صفات الفضائل أن يتناسق مع نظائِرها فمن كان بحيث إذا ذكر الله وجل قلبه لا بد أن يكون بحيث إذا تُليت عليه آيات الله زادته إيماناً ، فهذا تحقيق معنى القصرين .

ومما يزيد هذا المعنى وضوحاً ما روَى الطبراني ، عن الحارث بن مالك الأنصاري ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للحارث بن مالك الأنصاري يا حارث كيف أصبحت قال أصبحت مؤمناً حقاً قال إعلم ما تقول أو انظرُ ما تقول إن لكل شيء حقيقة فما حقيقة إيمانك قال عزَفتْ نفسي عن الدنيا فأسهرتُ ليلي ، وأظمأتُ نهاري ، وكأني أنظر إلى عرش ربي ، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون ، وكأني أسمع عُوراء أهل النار ، فقال له يا حارث عرفتَ فالزَمْ ثلاثاً وهو حديث ضعيف وإن كثرتْ طرقه .

فقول الحارث « أصبحت مؤمناً حقاً » ظاهر في أنه أراد منه مؤمناً كاملاً وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم " إن لكل شيء حقيقة فما حقيقة إيمانك " ظاهر في أنه سأله عن ماكان به إيمانه كاملاً ولم يسأله عن أصل ماهية الإيمان لأنه لم يكن يشك في أنه من عداد المؤمنين .

ومن هذا المعنى ما ذكره القرطبي وغيره أن رجلاً سأل الحسن البصري فقال له يا أبا سعيد أمومنٌ أنتَ فقال : « الإيمان إيمانانِ فإن كنتَ تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والجنة والنار والبعث والحساب ، فأنا به مؤمن ، وإن كنت تسألني عن قول الله تبارك وتعالى : { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم } إلى قوله { أولئك هم المؤمنون حقا } [ الأنفال : 2 4 ] فوالله ما أدري أنا منهم أم لا ؟ .

وانتصب { حقاً } على أنه مفعول مطلق صفة لمصدر محذوف دل عليه { المؤمنون } أي إيماناً حقاً ، أو على أنه موكدٌ لمضمون جملة { أولئك هم المؤمنون } أي ثبوت الإيمان لهم حق لا شبهة فيه ، وهو تحقيق لمعنى القصر بما هو عليه من معنى المبالغة ، وليس تأكيداً لرفع المجاز عن القصر حتى يصير بالتأكيد قصراً حقيقياً ، بل التأكيد بمعنى المبالغة اعتماداً على القرائن ، والأحسن أن يكون منصوباً على الحال من ضمير { هم } فيكون المصدر مؤولاً باسم الفاعل كما هو الشأن في وقوع المصدر حالاً مثل { أو تأتيهم الساعة بغتة } [ يوسف : 107 ] ، أي محققين إيمانهم بجلائل أعمالهم ، وقد تقدم مثل هذا المصدر في قوله : { خالدين فيها أبداً وعد الله حقا } في سورة [ النساء : 122 ] .

( وجملة : { لهم درجات } خبر ثان عن اسم الإشارة .

واللام للاستحقاق ، أي درجات مستحقة لهم ، وذلك استعارة للشرف والكرامة عند الله ، لأن الدرجات حقيقتها ما يتخذ من بناء أو أعواد لإمكان تخطي الصاعد إلى مكان مرتفع مُنقطع عن الأرض ، كا تقدم عند قوله تعالى : { وللرجال عليهن درجةٌ } في سورة [ البقرة : 228 ] ، وفي غير موضع ، وتستعار الدرجة لعناية العظيم ببعض من يصطفيهم فتشبه العناية بالدرجة تشبيه معقول بمحسوس ، لأن الدنو من العُلْو عُرفاً يكون بالصعود إليه في الدرجات ، فشبه ذلك الدنو بدرجات وقوله : { عند ربهم } قرينة المجاز .

ويجوز أن تستعار الدرجة هنا لمكان جلوس المرتفع كدرجة المنبر كما في قوله تعالى : { وللرجال عليهن درجةٌ } [ البقرة : 228 ] والقرينة هي .

وقد دل قوله : { عند ربهم } على الكرامة والشرف عند الله تعالى في الدنيا بتوجيه عنايته في الدنيا ، وفي الآخرة بالنعيم العظيم .

وتنوين { درجات } للتعظيم لأنها مراتب متفاوتة .

والرزق اسم لما يُرزقُ أي يعطى للانتفاع به ، ووصفه بكريم بمعنى النفيس فهو وصف حقيقي للرزق ، وفعله كرُمَ بضم العينَ ، والكرم في كل شيء الصفات المحمودية في صنفه أو نوعه كما في قوله تعالى : { إني ألْقيَ إلي كتابٌ كريمٌ } في سورة [ النمل : 29 ] ، ومنه إطلاق الكرم على السخاء والجود ، والوصفُ منه كريم ، وتصح إرادته هنا على أن وصف الرزق به مجازٌ عقلي ، أي كريم رازقه ، فإن الكريم يرزق بوفرة وبغير حساب .