{ أولئك هم المومنون حقا }[ 4 ] ، الآية المعنى : أولئك الذين هذه صفتهم هم المؤمنون حقا .
قال ابن عباس : { المومنون حقا } ، أي : برئوا من الكفر{[26709]} .
وهذا باب تذكر فيه حقيقة الإيمان وتفسيره ، وما روي فيه ، إن شاء الله عز وجل .
وحقيقة الإيمان عند أهل السنة : أنه المعرفة بالقلب ، والإقرار باللسان ، والعمل بالجوارح{[26710]} ، وكذلك رواه علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وقالت المرجئة : الإيمان قول ومعرفة بالقلب بلا عمل{[26711]} .
وقال الجهمية : الإيمان المعرفة بلا{[26712]} قول ولا عمل{[26713]} .
وأهل السنة والطريقة القويمة على أنه : المعرفة والقول والعمل ، كما رواه علي عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا مأخوذ من إجماع الأمة{[26714]} .
قد أجمع المسلمون على أنه من قال : لا إله إلا الله محمد{[26715]} رسول الله ، ثم أخبر أن قلبه غير مصدق بشيء من ذلك ، أنه كافر ، فدل على أن الاعتقاد لابد منه{[26716]} .
ثم أجمعوا على أن الكافل إذا قال : قد اعتقدت/في قلبي الإيمان ولم يقله{[26717]} ويسمع منه ، [ أن حكمه حكم الكافر ]{[26718]} حتى يقوله ويسمع منه ، فإن{[26719]} دمه لو قتل لا تلزم منه دية ، فدل على أن القول مع الاعتقاد لابد منه{[26720]} .
ثم أجمعوا على أن شهد الشهادتين ، وقال : اعتقادي مثل قولي ، ولكني لا أصوم ولا أصلي ولا أعمل شيئا من الفروض أنه يستتاب ، فإن تاب وعمل وإلا قتل كما يقتل الكافر ، فدل{[26721]} على وجوب العمل{[26722]} .
فصح من هذا الإجماع ، أن الإيمان هو الاعتقاد والقول والعمل ، وتمامه : موافقة السنة{[26723]} ، وقد قال الله تعالى : { وما أمروا إلا ليعبدوا الله } ، ثم قال : { ويقيموا الصلاة ويوتوا الزكاة وذلك دين القيمة{[26724]} } ، أي : دين الملة القيمة{[26725]} . ومن لم يقل : إن الله تعالى ، أراد الإقرار والعمل من العباد فهو كافر . فإن قيل : لو أن رجلا أسلم فأقر بجميع ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، أكون مؤمنا بهذا الإقرار أم لا ؟ قيل له : لا يطلق عليه اسم مؤمن إلا ونيته أنه إذا جاء وقت العمل عمل ما افترض عليه ، ولو علم منه وقت إقراره أنه لا يعمل لم يطلق عليه اسم مؤمن ، ولو أنه أقرَّ في الوقت وقال : لا أعمل إذا جاء وقت العمل ، لم يطلق عليه اسم مؤمن{[26726]} .
والأعمال لا يقبل منها إلا ما أريد به وجه الله ، ( سبحانه{[26727]} ) ، فأما من أراد بعمله محمدة الناس ورايا{[26728]} به فليس مما يقبله الله ، عز وجل ، وصاحبه في مشيئة{[26729]} الله سبحانه . وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أول{[26730]} ما يُقضى فيه يوم القيامة ثلاثة : رجل استشهد فأمر به ، فعرفه نعمه{[26731]} فعرفها ؛ قال : فما عملت فيها ؟ قال : قاتلت فيك حتى استشهدت ، قال : كذبت ولكن قاتلت ليقال : جريء ، فقد قيل ، ثم أمر به فسحب وجهه حتى ألقي في النار . ورجل تعلم العلم وعلَّمه ، وقرأ القرآن ، فأُتي به ، فعرفه نعمه ، فعرفها ، فقال : فما عملت فيها ؟ فقال : تعلمت فيك العلم وعلمته ، وقرأت فيك القرآن ، قال : كذبت ، ولكنك تعلمت العلم ليقال{[26732]} : إنك عالم ، فقد قيل ، وقرأت القرآن ليقال : إنك قارئ ، فقد قيل ، ثم أُمِر به فسُحب على وجهه حتى ألقي في النار . ورجل وسَّع الله عليه ، وأعطاه أنواع المال كله ، فعرفه نعمه فعرفها ، قال : فما عملت فيها ؟ قال : ما تركت في سبيل الله شيئا تحب{[26733]} أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك ، قال : كذبت ، ولكنك فعلت ليقال{[26734]} : جواد ، فقد قيل ، ثم أُمِر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار " {[26735]} .
وروى أبو هريرة أيضا ، أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " قال الله جل ذكره{[26736]} من قائل ، : أنا خير الشركاء ، فمن عمل عملا أشرك فيه غيري ، فهو للذي أشركه ، وأنا{[26737]} بريء منه " {[26738]} .
وفي خبر آخر{[26739]} : " أنا أغنى الشركاء " {[26740]} .
وروى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " أشد الناس يوم القيامة عذابا ، من يرى الناس أن فيه خيرا ولا خير فيه " .
وعنه ، صلى الله عليه وسلم : من سمَّع الناس بعمله ، سمَّع الله به يوم القيامة وصغَّره وحقَّره " {[26741]} .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تخادعوا الله فإنه من خادع الله بخدعة{[26742]} فنفسه يخدع لو يشعر " . قالوا : يا رسول الله ، وكيف يُخادع{[26743]} الله ، قال : " تعمل ما أمرك به تطلب غيره ، فاتقوا الرياء ، فإنه الشرك ، فإن المرائي يدعى يوم القيامة على / رؤوس الأشهاد بأربعة أسماء ، ينسب إليها : يا كافر ، يا خاسر ، يا فاجر ، يا غادر ، ضل أجرك ، وبطل عملك ، فلا خلاق لك اليوم ، فالتمس أجرك ممن كنت تعمل له يا خادع " {[26744]} .
وعنه ، صلى الله عليه وسلم : " إن أدنى الرياء شرك{[26745]} " .
فيجب على المؤمن الراجي ثواب الله عز وجل ، الخائف من عقابه ، سبحانه ، أن يخلص العمل لله سبحانه{[26746]} ، ويريد به وجهه ، تبارك وتعالى{[26747]} . وألا يتباهى بعمله عند أحد فيشركه في علمه .
فإن عمل عامل عملا مخلصا لله عز وجل ، في السر ، فسُرَّ به{[26748]} ، وأعجب به إذ وفقه الله عز وجل ، لذلك فهو حسن ، وليس برياء ، وهو{[26749]} ممدوح{[26750]} إن سلم من الإعجاب بنفسه ؛ فإن الإعجاب ضرب من التكبر ، والتكبر يُحْبِط الأعمال .
فإن ظهر عمله الذي أسره للناس من غير أن يشهره هو على طريق الافتخار به ، فأثنوا عليه بفعله فسره ذلك فليس برياء ، بل له أجر على ذلك ؛ لأن الأصل كان لله عز وجل ، والناس يتأسون به في فعله .
وقد روى أبو هريرة : أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله ، دخل علي رجل وأنا أصل فأعجبني الحال التي رآني عليها ، فقال له{[26751]} النبي صلى الله عليه وسلم : " فلك أجران : أجر السر ، وأجر العلانية " {[26752]} .
وروى حبيب{[26753]} بن ثابت عن أبي صالح قال : أتى النبي صلى الله عليه وسلم ، [ رجل ]{[26754]} ، فسأله عن رجل يعمل العمل من الخير يُسِرُّه ، فإذا ظهر أعجبه ذلك ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " له أجران : أجر السر وأجر العلانية " {[26755]} .
وروى حبيب : أن ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، قالوا : يا رسول الله ، إنا نعمل أعمالا في السر ، فنسمع{[26756]} الناس يذكرونها فيعجبنا{[26757]} أن تُذْكَر بخير ، فقال : " لكم أجر السر وأجر العلانية " .
وقد روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم ، وجد ذات ليلة شيئا ، فلما أصبح قيل : يا رسول الله إن أثر الوجع عليك لبيِّن ، فقال : " أما إني على مال ترون بحمد الله ، قد قرأت البارحة السبع الطُّوَالُ " {[26758]} .
وهذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، استدعاء بأن يعمل الناس مثل عمله ، ويرغبوا في الخير ، ويجتهدوا ، ولو وقع مثل هذا لمن صح قصده ونيته ، وأراد به مثل ما أراد{[26759]} النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يرد المحمدة والافتخار ، لكان حسنا ، وصاحبه مأجور ؛ لأنه يفعله ليقتدى به ، ويعمل مثل عمله ، هذا طريق من الدعاء إلى الخير ، إذا صحت النية ، فهو طريق شريف غير مستنكر .
فحق العامل{[26760]} المجتهد أن يُجهد نفسه في تكذيب وساوس الشيطان ، ولا يلتفت ما{[26761]} يوسوس إليه ، وليقبل على عمله بنية خالصة لله ، ويجهد نفسه في طاعة الله عز وجل ، والعمل لله ، سبحانه ، فلا شيء أبغض إلى الشيطان من طاعة العبد لربه ( عز وجل ){[26762]} ، ولا شيء أسر إليه من عصيان العبد لربه ، سبحانه ، نعوذ بالله منه .
فحسب أهل الخير أن لا تأتي عليهم حال إلا وهم للشيطان مرغمون{[26763]} ، ولطمعه في أنفسهم حاسمون . فإن عجزوا عن ذلك في كل الأوقات فليفعلوه في حال اشتغالهم بأعمال الطاعة حتى تخلص{[26764]} أعمالهم لله عز وجل ، وتسلم من الشيطان من أولها إلى آخرها فإن عجزوا عن ذلك فلا يعجزوا عن أن يكون ذلك منهم في أول أعمالهم ، وفي آخرها ، فإن عجزوا عن / ذلك ، فلا بد من إخلاصها{[26765]} في أولها ليكون الابتداء بالنية لله عز وجل ، والإخلاص له ، سبحانه ؛ فإنه إذا كان [ ذلك ]{[26766]} كذلك ، ثم عرض في أضعاف{[26767]} العمل عوارض الشيطان ووساوسه ، رجي له ألا يضره ذلك ، فإن عجز عن ذلك وغلبه الشيطان حتى ابتدأ بغير إخلاص . ثم حدث له في بعض العمل إخلاص وإنابة عما فعل رجي له ، لقوله : { إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا }{[26768]} .
فإن ابتدأ بغير إخلاص وتمادى حتى فرغ عن{[26769]} ذلك ، كان ثمرة عمله سخط ربه .
والله عز وجل ، حسن العفو كريم . روينا في بعض الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم : " أن الرجل إذا ابتدأ العمل بنية الله عز وجل ، ثم عرض له الشيطان في آخر عمله فغيَّر نيته ، أن الله سبحانه ، يعفو له عما عرض له ، ويكتب له عمله على ما ابتدأه به ، وأن الرجل ليبتدئ بالعمل بغير نية ، فتحدث له نية لله عز وجل ، في آخره أن الله{[26770]} ، يعفو له عن أوله ، ويكتب له عمله على ما حدث له في آخره . هذا معنى الحديث الذي روينا ، وهو حديث مشهور بنحو{[26771]} هذا اللفظ وبمثله في المعنى .
فقال{[26772]} ابن حازم : انظر إلى العمل الذي تحب{[26773]} أن يأتيك الموت وأنت عليه ، فخذه الساعة ، وإذا قال لك الشيطان : أنت مُراء فلست مرائيا ، وإذا خرجت من بيتك ، وأنت صادق النية ، فلا يضرك ما جاء به الشيطان .
وكان رجل حسن الصوت بالقرآن يأتي الحسن ، فربما قال له الحسن : اقرأ ، فقال{[26774]} : يا أبا سعيد إني أقوم من الليل فيأتيني الشيطان إن رفعت صوتي ، فيقول : إنما تريد الناس ، فقال له الحسن : لك نيتك إذا قمت من فراشك .
فالشيطان ، عليه لعنة الله ، عدو الله ، سبحانه{[26775]} ، لطيف المدخل لابن آدم ، كثير الرصد له بما يوبقه . قد أوبق كثيرا من القرون السالفة{[26776]} ، فنفذت فيهم سهامه ، وصدق عليهم ظنه ، فاللجأ{[26777]} منه إلى الله عز وجل ، والمستغاث على دفع شره الله ، تبارك وتعالى .
وروى معقل{[26778]} بن يسار عن أبي بكر الصديق ، ( رضي الله عنه ){[26779]} أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " الشرك فيكم أخفى من دبيب النمل " . فقال أبو بكر : يا رسول الله ، وهل الشرك إلا أن يُدعى مع الله إله{[26780]} آخر ، فقال : " الشرك أخفى فيكم من دبيب النمل " ثم قال : " يا أبا بكر ، ألا أدلك على ما يذهب صغير ذلك وكبيره ؟ قل : اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم " {[26781]} .
وقوله : { لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم }[ 4 ] .
الدرجات : منازل ومراتب رفيعة في الجنة بقدر أعمالهم{[26782]} .
قال مجاهد [ الدرجات{[26783]} ] : أعمال رفيعة{[26784]} .
وقال ابن محيريز{[26785]} الدرجات : سبعون درجة ، كل درجة خطو{[26786]} الفرس الجواد المُضمر{[26787]} ستين{[26788]} سنة{[26789]} .
{ ومغفرة } ، أي : مغفرة لذنوبهم ، { ورزق كريم } : الجنة{[26790]} .
قال الضحاك : أهل الجنة بعضهم فوق بعض ، فيرى الذي{[26791]} فوق ، فضله على الذي أسفل منه ، ولا يرى{[26792]} الأسفل أنه فضل عليه أحد{[26793]} .