البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ حَقّٗاۚ لَّهُمۡ دَرَجَٰتٌ عِندَ رَبِّهِمۡ وَمَغۡفِرَةٞ وَرِزۡقٞ كَرِيمٞ} (4)

{ أولئك هم المؤمنون حقاً } قال ابن عطيّة { حقّاً } مصدر مؤكد كذا نص عليه سيبويه وهو المصدر غير المنتقل والعامل فيه أحقّ ذلك حقاً انتهى ، ومعنى ذلك أنه تأكيد لما تضمنته الجملة من الإسناد الخبري وأنه لا مجاز في ذلك الإسناد .

وقال الزمخشري { حقاً } صفة للمصدر المحذوف أي { أولئك هم المؤمنون } إيماناً حقّاً وهو مصدر مؤكد للجملة التي هي أولئك هم المؤمنون كقوله هو عبد الله حقاً أي حقّ ذلك حقاً .

وعن الحسن أنه سأله رجل أمؤمن أنت قال : الإيمان إيمانان فإن كانت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجنة والنار والبعث والحساب ، فأنا مؤمن ، وإن كنت تسألني عن قوله { إنما المؤمنون } فوالله لا أدري أمنهم أنا أم لا وأبعد من زعم أن الكلام ثم عند قوله { أولئك هم المؤمنون } وأنّ { حقاً } متعلق بما بعده أي { حقاً لهم درجات } وهذا لأنّ انتصابَ حقاً على هذا التقدير يكون عن تمام جملة الابتداء بمكان التأخير عنها لأنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة فلا يجوز تقديمه وقد أجازه بعضهم وهو ضعيف .

{ لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم } لما تقدمت ثلاث صفات قلبية وبدنية ومالية ترتّب عليها ثلاثة أشياء فقوبلت الأعمال القلبية بالدرجات ، والبدنية بالغفران ، وفي الحديث أن رجلاً أتى من امرأة أجنبية ما يأتيه الرجل من أهله غير الوطء ، فسأله الرسول صلى الله عليه وسلم لما أخبر بذلك أصلّيت معنا فقال نعم فقال له : وقوبلت المالية بالرزق بالكريم وهذا النوع من المقابلة من بديع علم البيان .

وقال ابن عطية والجمهور : إنّ المراد مراتب الجنة ومنازلها ودرجاتها على قدر أعمالهم ، وحكى الطبري عن مجاهد أنها درجات أعمال الدنيا وقوله { ورزق كريم } يريد به مآكل الجنة ومشاربها و { كريم } صفة تقتضي رفع المقام كقوله ثوب كريم وحسب كريم ، وقال الزمخشري درجات شرف وكرامة وعلوّ منزلة ومغفرة وتجاوز لسيئاتهم ورزق كريم ونعيم الجنة منافع حسنة دائمة على سبيل التعظيم وهذا معنى الثواب انتهى .

وقال عطاء درجات الجنة يرتقونها بأعمالهم ، وقال الربيع بن أنس سبعون درجة ما بين كل درجتين حضر الفرس المضمر سبعين سنة وقيل مراتب ومنازل في الجنة بعضها على بعض ، وفي الحديث « أنّ أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف كما يتراءى الكوكب الدرّيّ » وثلاثة الأقوال هذه تدل على أنه أريد الدرجات حقيقة وعن مجاهد درجات أعمال رفيعة .