اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ حَقّٗاۚ لَّهُمۡ دَرَجَٰتٌ عِندَ رَبِّهِمۡ وَمَغۡفِرَةٞ وَرِزۡقٞ كَرِيمٞ} (4)

قوله : { أولئك هُمُ المؤمنون حَقّاً } يجوز في حقّاً أن يكون صفة لمصدر محذوف ، أي : هم المؤمنون إيماناً حقاً ، ويجوز أن يكون مؤكداً لمضمون الجملة ، كقولك : هو عبد الله حقاً ، والعاملُ فيه على كلا القولين مُقدَّرٌ ، أي : أحقُّه حقاً ، ويجوز وهو ضعيفٌ جدّاً أن يكون مؤكِّداً لمضمون الجملة الواقعةِ بعده وهي : لَهُم درجاتٌ ويكون الكلامُ قد تمَّ عند قوله : هُمُ المُؤمِنُونَ ثم ابتدأ ب { حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ } وهذا إنَّما يجوزُ على رأي ضعيف ، أعني تقديم المصدر المؤكِّد لمضمون جملة عليها .

قوله : عِندَ ربِّهِمْ يجوزُ أن يكون متعلقاً ب " دَرَجَاتٌ " ، لأنَّها بمعنى أجُورٌ ، وأن يتعلَّق بمحذوفٍ ؛ لأنَّها صفةٌ ل " درجاتٌ " أي : اسْتقرَّت عند ربهم ، وأن يتعلَّق بما تعلَّق به لَهُمْ من الاستقرار .

فصل

قوله : { أولئك هُمُ المؤمنون حَقّاً } أي : يقيناً ، قال ابنُ عبَّاسٍ : برءوا من الكفر{[17160]} ، قال مقاتل : حَقّاً لا شكَّ في إيمانهم{[17161]} ، وفيه دليلٌ على أنَّه ليس لكل أحد أن يصف نفسه بكونه مؤمناً حقّاً ؛ لأنَّ الله تعالى إنَّما وصف بذلك أقواماً مخصوصين على أوصاف مخصوصة ، وكلُّ أحدٍ لا يتحقَّقُ وجود ذلك الأوصاف فيه وقال ابنُ أبي نجيح : سألَ رجلٌ الحسن فقال : أمؤمن أنت ؟ فقال : إن كنت تسألني عن الإيمان باللَّه وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، والجنَّة ، والنَّار ، والبعث ، والحساب ، فأنا بها مؤمن وإن كنت تسألني عن قوله : { إِنَّمَا المؤمنون الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } الآية ، فلا أدري أمنهم أنا أم لا ؟ . وقال علقمةُ : كنا في سفر فلقينا قوماً فقلنا : من القومُ ؟ فقالوا : نحنُ المؤمنون حقاً ، فلم ندر ما نجيبهم حتَّى لقينا عبد الله بن مسعود ، فأخبرناه بما قالوا : قال : فما رَدَدْتُمْ عليهم ؟ قلنا : لم نردّ عليهم شيئاً ، قال : أفلا قلتم أمِنْ أهلِ الجنَّة أنتم ؟ إنَّ المؤمنين أهلُ الجنَّةِ .

وقال سفيانُ الثوريُّ : من زعم أنَّهُ مؤمن حقاً عند الله ، ثم لم يشهدْ أنَّه في الجنَّة فقد آمن بنصف الآية دون النِّصف{[17162]} .

ثم قال تعالى : { لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ } قال عطاءٌ : بمعنى : درجات الجنَّةِ ويرتقونها بأعمالهم ، قال الربيعُ بنُ أنس : سبعون درجة بين كلِّ درجتين حر الفرس المضمر سبعين سنة " ومَغْفرةٌ " لذنوبهم وَرِزقٌ كريمٌ حسن .

قال الواحديُّ{[17163]} : قال أهل اللُّغةِ : الكريمُ : اسم جامع لكل ما يحمدُ ويستحسنُ ، والكريم المحمود فيما يحتاج إليه فاللَّهُ تعالى موصوفٌ بأنه كريم ، والقرآنُ موصوف بأنَّه كريم ، قال تعالى : { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } [ الواقعة : 77 ] وقال تعالى : { مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ } [ الشعراء : 7 ] { وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً } [ النساء : 31 ] وقال : { وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً } [ الإسراء : 23 ] فالرزق الكريم هو الشريفُ الفاضل الحسن .


[17160]:أخرجه الطبري في تفسيره (6/179) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/298) وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم وذكره البغوي في "معالم التنزيل" (2/229).
[17161]:انظر معالم التنزيل للبغوي (2/229).
[17162]:انظر: المصدر السابق.
[17163]:ينظر: تفسير الفخر الرازي 15/100.