محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ حَقّٗاۚ لَّهُمۡ دَرَجَٰتٌ عِندَ رَبِّهِمۡ وَمَغۡفِرَةٞ وَرِزۡقٞ كَرِيمٞ} (4)

4 { أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم } .

{ أولئك هم المؤمنون حقا } أي لاشك في إيمانهم ، و { حقا } صفة لمصدر محذوف ، أي إيمانا حقا ، أو مصدر مؤكد للجملة ، أي حق ذلك حقا ، كقولك : هو عبد الله حقا .

قال عمرة بن مرة : في هذه الآية : إنما أنزل القرآن بلسان العرب ، كقولك : فلان سيد حقا ، وفي القوم سادة ، وفلان تاجر حقا ، وفي القوم تجار ، وفلان شاعر حقا ، وفي القوم شعراء انتهى .

وكأنه أراد الرد على من زعم أن { حقا } من صلة قوله { لهم درجات } بعدُ ، تأكيداً له وأن الكلام تم عند قوله : { المؤمنون } ، فإن هذا الزعم يصان عنه أسلوب التنزيل الحكيم .

/ وقد تطرف بعض المفسرين هنا لمسألة شهيرة ، وهي : هل يجوز أن يقال : أنا مؤمن حقا .

قال الطوسي في ( نقد المحصل ) : المعتزلة ومن تبعهم يقولون : اليقين لا يحتمل الشك والزوال ، فقول القائل : ( أنا مؤمن إن شاء الله ) لا يصح إلا عند الشك ، أو خوف الزوال ، وما يوهم أحدهما ، لا يجوز أن يقال للتبرك . انتهى .

والغزالي في ( الإحياء ) ، بسط هذه المسألة ، وأجاب عمن سوّغ ذلك بأجوبة .

منها : التخوف من الخاتمة ، لأن الإيمان موقوف على سلامة الخاتمة .

ومنها : الاحتراز من تزكية النفس .

ومنها : غير ذلك ، انظره بطوله .

وقال ابن حزم في ( الفصل ) : القول عندنا في هذه المسألة أن هذه صفة يعلمها المرء من نفسه ، فإن كان يدري أنه مصدق بالله عز وجل ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم ، وبكل ما أتى به ، وأنه يقر بلسانه بكل ذلك فواجب عليه أن يعترف بذلك ، كما أمر تعالى في قوله : { وأما بنعمة ربك فحدث } {[4306]} ، ولا نعمة أوْكد ولا أفضل ، ولا أولى بالشكر ، من نعمة الإسلام ، فواجب عليه أن يقول : أنا مؤمن مسلم قطعا عند الله تعالى ، في وقتي هذا . ولا فرق بين قوله : ( أنا مؤمن مسلم ) وبين قوله : ( أنا أسود أوأنا أبيض ) وهكذا سائر صفاته التي لا يشك فيها . وليس هذا من باب الامتداح والعجب في شيء ، لأنه فرض عليه أن يحقن دمه بشهادة التوحيد . وقول ابن مسعود : ( أنا مؤمن إن شاء الله ) عندنا صحيح ، لأن الإسلام والإيمان اسمان منقولان عن موضوعهما في اللغة ، إلى جميع البر والطاعات . فإنما منع ابن مسعود الجزم على معنى أنه مستوف لجميع الطاعات ، وهذا صحيح . ومن ادعى لنفسه هذا فقد كذب بلا شك ، وما منع أن يقول المرء : ( إني مؤمن ) بمعنى ( مصدق ) .

/ وأما قول المانعين : ( من قال أنا مؤمن فليقل إنه من أهل الجنة ) ، فالجواب : إنا نقول إن متنا على ما نحن عليه الآن ، فلا بد لنا من الجنة بلا شك ، وبرهان ذلك أنه قد صح من نصوص القرآن والسنن والإجماع ، أن من آمن بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وبكل ما جاء به ، ولم يأت بما هو كفر ، فإنه في الجنة إلا أننا لا ندري ما يفعل بنا في الدنيا ، ولا نأمن مكر الله تعالى ، ولا إضلاله ، ولا كيد الشيطان ولا ندري ماذا نكسب غدا ، ونعوذ بالله من الخذلان . انتهى كلام ابن حزم رحمه الله ، ولقد أجاد فيما أفاد .

وقوله تعالى : { لهم درجات عند ربهم } أي منازل ومقامات عاليات في الجنة { ومغفرة } أي تجاوز لسيآتهم { رزق كريم } وهو ما أعد لهم من نعيم الجنة .

تنبيه :

قال الجُشميّ : تدل الآية على أشياء :

منها : أن الإيمان اسم شرعي لثلاث خصال : القول ، والاعتقاد والعمل ، خلاف ما تقوله المرجئة . لأن الوجل وزيادة التصديق من فعل القلب ، والتدبر والتفكر كذلك ، والصلاة والإنفاق من أعمال الجوارح ، والتوكل يشتمل على فعل القلب والجوارح ، ثم بين في آخره أن من جمع هذه الخصال فهو المؤمن حقا .

ومنها : أنها تدل على أن الإيمان يزيد وينقص ، لأن هذه الطاعات تزيد وتنقص ، وقد نص على ذلك في قوله : { زادتهم إيمانا } .

ومنها أن الواجب عند تلاوة القرآن التدبر والتفكر فيما أمر ونهى ، ووعد وأوعد ، لينجر للرغبة والرهبة ، وذلك حث على الطاعة ، وزجر عن المعاصي .

ومنها وجوب التوكل عليه ، والتوكل على ضربين : منها في الدنيا ، ومنها في الدين .

أما في الدنيا فلا بد من خصال :

منها : أن يطلب مصالح دنياه من الوجه الذي أتيح له ، ولا يطلب محرما .

/ ومنها : إذا حرم الرزق الحلال لا يعدل إلى محرّم .

ومنها : ألا يظهر الجزع عند الضيق ، بل يسلك فيه طريق الصبر ، واعتقاد أن ما هو فيه مصلحة له .

ومنها : أن ما يرزق من النعم بعدها ، من جهته تعالى ، إما بنفسه أو بواسطة .

ومنها : ألا يحبسه عن حقوقه خشية الفقر .

ومنها : ألا يسرف في النفقة ولا يقتر .

فعند اجتماع هذه الخصال يصير متوكلا .

فأما الذي يزعمه بعضهم أن التوكل إهمال النفس ، وترك العمل ، فليس بشيء وقد أمر الله تعالى بالإنفاق ، وبالعمل ، وثبت عن الصحابة وهم سادات الإسلام- التجارة والزراعة والأعمال . وكذلك التابعين ، وبهذا أجرى الله العادة ، وقد أمر النبي{[4307]} صلى الله عليه وسلم ، الأعرابي أن يعقل ناقته ويتوكل .

فأما التوكل في الدين فخصال :

منها أن يقوم بالواجبات ، ويجتنب المحارم لأنه بذلك يصل إلى الجنة والرحمة .

ومنها : أن يسأله التوفيق والعصمة .

ومنها : أن يرى جميع نعمه منه ، إذ حصل بهدايته وتمكينه ولطفه .

ومنها : أن لا يثق بطاعته جملة ، بل يطيع ويجتنب المعاصي ، ويرجو رحمة ربه ، ويخاف عذابه ، فعند ذلك يكون متوكلا .

ثم قال الجشمي : وتدل الآية على أن تارك الصلاة والزكاة لا يكون مؤمنا ، خلاف قول المرجئة . انتهى .


[4306]:[93 /الضحى / 11].
[4307]:أخرجه الترمذي في: 35 - كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، 60 - باب حدثنا عمرو بن علي.