لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن - الخازن  
{أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ حَقّٗاۚ لَّهُمۡ دَرَجَٰتٌ عِندَ رَبِّهِمۡ وَمَغۡفِرَةٞ وَرِزۡقٞ كَرِيمٞ} (4)

ثم قال تعالى : { أولئك } : يعني من هذه صفتهم { هم المؤمنون حقاً } يعني يقيناً لا شك في إيمانهم قال ابن عباس برؤا من الكفر . وقال قتادة : استحقوا الإيمان وأحقه الله لهم وفيه دليل على انه لا يجوز أن يصف أحد نفسه بكونه مؤمناً حقاً لأن الله سبحانه وتعالى إنما وصف بذلك أقواماً مخصوصين على أوصاف مخصوصة وكل أحد لا يتحقق وجود تلك الأوصاف فيه وهذا يتعلق بمسألة أصولية وهي أن العلماء اتفقوا على أنه يجوز للرجل أن يقول أنا مؤمن واختلفوا في أنه هل يجوز له أن يقول أنا مؤمن حقاً أم لا ؟ فقال أصحاب الإمام أبي حنيفة : الأولى أن يقول أنا مؤمن حقاً ولا يجوز أن يقول أنا مؤمن إن شاء الله واستدلوا على صحة هذا القول بوجهين :

الأول : أن المتحرك لا يجوز أن يقول أنا متحرك إن شاء الله وكذا القول في القائم والقاعد ، فكذلك هذه المسألة يجب فيها أن يكون المؤمن مؤمناً حقاً ، ولا يجوز أن يقول أنا مؤمن إن شاء الله .

الوجه الثاني : أنه سبحانه وتعالى قال { أولئك هم المؤمنون حقاً } فقد حكم الله لهم بكونهم مؤمنين حقاً وفي قوله أنا مؤمن إن شاء الله تشكيك فيما قطع الله لهم به وذلك لا يجوز وقال أصحاب الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه الأولى أن يقول الرجل أنا مؤمن إن شاء الله واحتجوا لصحة هذا القول بوجوه : الأول أن الإيمان عندهم عبارة عن الاعتقاد والإقرار والعمل وكون الإنسان آتيا بالأعمال الصالحة المقبولة أمر مشكوك فيه والشك في أحد أجزاء الماهية يوجب الشك في الماهية فيجب أن يقول أنا مؤمن إن شاء الله وإن كان اعتقاده وإقراره صحيحاً وعند أصحاب أبي حنيفة أن الإيمان عبارة عن الاعتقاد فيخرج العمل من مسمى الإيمان فلم يلزم حصول الشك .

الوجه الثاني : أن قولنا أنا مؤمن إن شاء الله ليس هو على سبيل الشك ولكن إذا قال الرجل أنا مؤمن فقد مدح نفسه بأعظم المدائح فربما حصل له بذلك عجب فإذا قال : إن شاء الله زال عنه ذلك العجب وحصل له الانكسار .

روي أن أبا حنيفة قال لقتادة : لم استثنيت في إيمانك ؟ فقال قتادة : اتباعاً لإبراهيم عليه السلام في قوله : { والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين } فقال أبو حنيفة هلا اقتديت به في قوله أولم تؤمن ؟ قال : بلى فانقطع قتادة قال بعضهم كان لقتادة أن يقول إن إبراهيم قال بعد قوله بلى ولكن ليطمئن قلبي فطلب . مزيد الطمأنينة .

الوجه الثالث : أن الله سبحانه وتعالى ذكر في أول الآية إنما المؤمنون ولفظة إنما تفيد الحصر يعني إنما المؤمنون الذين هم كذا وكذا وذكر بعد ذلك أوصافاً خمسة وهي الخوف من الله والإخلاص لله والتوكل على الله والإتيان بالصلاة كما أمر الله سبحانه وتعالى وإيتاء الزكاة كذلك ثم بعد ذلك قال : أولئك هم المؤمنون حقاً يعني أن من أتى بجميع هذه الأوصاف كان مؤمناً حقاً ولا يمكن لأحد أن يقطع بحصول هذه الصفات له فكان الأولى له أن يقول أنا مؤمن إن شاء الله . وقال ابن أبي نجيح : سأل رجل الحسن فقال أمؤمن أنت ؟ فقال الحسن : إن كنت سألتني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجنة والنار والبعث والحساب فأنا بها مؤمن وإن كنت سألتني عن قوله إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم الآية فلا أدري أنا منهم أم لا . وقال علقمة : كنا في سفر فلقينا قوم فقلنا من القوم ؟ فقالوا نحن المؤمنون حقاً فلم ندر ما نجيهم حتى لقينا عبد الله بن مسعود فأخبرناه بما قالوا قال فما رددتم عليهم قلنا لم نرد عليهم شيئاً قال هلا قلتم لهم أمن أهل الجنة أنتم إن المؤمنين هم أهل الجنة ؟ وقال سفيان الثوري : من زعم أنه مؤمن حقاً عند الله ثم لم يشهد أنه في الجنة فقد آمن بنصف الآية دون النصف الآخر .

الوجه الرابع : إن قولنا أنا مؤمن إن شاء الله للتبرك لا للشك فهو كقوله صلى الله عليه وسلم : «وإنا إن شاء الله بكم لاحقون » مع العلم القطعي أنه لاحق بأهل القبور .

الوجه الخامس : إن المؤمن لا يكون مؤمناً حقاً إلا إذا ختم له بالإيمان ومات عليه وهذا لا يحصل إلا عند الموت ، فلهذا السبب حسن أن يقول : أنا مؤمن إن شاء الله . فالمراد صرف هذا الاستثناء إلى الخاتمة . وأجاب أصحاب هذا القول ، وهم أصحاب الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنهم ، عن استدلال أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنهم بقولهم : إن المتحرك لا يجوز أن يقول أنا متحرك إن شاء الله بأن الفرق بين وصف الإنسان بكونه مؤمناً وبين وصفه بكونه متحركاً أن الإيمان يتوقف حاله على الخاتمة والحركة فعل يقيني فحصل الفرق بينهما والجواب عن الوجه الثاني وهو قولهم إنه سبحانه وتعالى قال : { أولئك هم المؤمنون حقاً } فقد حكم لهم بكونهم مؤمنين حقاً أنه تعالى حكم للموصفين بتلك الصفات المذكورة في الآية بكونهم مؤمنين حقاً إذا أتوا بتلك الأوصاف الخمسة ولا يقدر أحد أن يأتي بتلك الأوصاف على الحقيقة ونحن نقول أيضاً إن من أتى بتلك الأوصاف على الحقيقة كان مؤمناً حقاً ولكن لا يقدر على ذلك أحد والله أعلم بمراده وأسرار كتابه . وقوله تعالى : { لهم درجات عند ربهم } يعني لهم مراتب بعضها أعلى من بعض لأن المؤمنين تتفاوت أحوالهم في الأخذ تلك الأوصاف المذكورة فلهذا تتفاوت مراتبهم في الجنة لأن درجات الجنة على قدر الأعمال . قال عطاء : درجات الجنة يرتقون فيها بأعمالهم ، وقال الربيع بن أنس : درجات الجنة سبعون درجة ما بين الدرجتين حضر الفرس المضمر سبعين سنة وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين مائة عام » أخرجه الترمذي وله عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن في الجنة مائة درجة لو أن العالمين اجتمعوا في إحداهن لوسعتهم » { ومغفرة } يعني ولهم مغفرة لذنوبهم { ورزق كريم } يعني ما أعدَّ لهم في الجنة وصفه بكونه كريماً منافعه حاصلة لهم دائمة عليهم مقرونة بالإكرام والتعظيم .