السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ حَقّٗاۚ لَّهُمۡ دَرَجَٰتٌ عِندَ رَبِّهِمۡ وَمَغۡفِرَةٞ وَرِزۡقٞ كَرِيمٞ} (4)

{ أولئك } أي : الموصوفون بهذه الصفات الخمسة { هم المؤمنون حقاً } لأنهم حققوا إيمانهم بأن ضموا إليه مكارم أعمال القلوب من الخشية والإخلاص والتوكل ومحاسن أفعال الجوارح التي المعيار عليها ، وهي الصلاة والصدقة و{ حقاً } مصدر مؤكد للجملة التي هي { أولئك هم المؤمنون } كقوله : هو عبد الله حقاً ، أي : أحق ذلك حقاً .

تنبيه : اختلف العلماء في أنه هل للشخص أن يقول : أنا مؤمن حقاً ، أو لا ؟ فقال أصحاب الشافعي رضي الله تعالى عنه : الأولى أن يقول الرجل : أنا مؤمن إن شاء الله تعالى ، ولا يقول : أنا مؤمن حقاً ، وقال أصحاب أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه : الأولى أن يقول : أنا مؤمن حقاً ، ولا يجوز أن يقول : إن شاء الله تعالى ، واستدل للأوّل بوجوه :

الأوّل أن قوله : أنا مؤمن إن شاء الله تعالى ليس على سبيل الشك ، ولكن الشخص إذا قال : أنا مؤمن فقد مدح نفسه بأعظم المدائح فربما حصل له بذلك عجب ، فإذا قال : إن شاء الله تعالى زال ذلك العجب ، وحصل الانكسار له .

الثاني إنّ الله تعالى ذكر في أوّل الآية ما يدل على الحصر وهو قوله تعالى : { إنما المؤمنون } هم كذا وكذا وكلمة إنما تفيد الحصر ، وذكر في آخر الآية قوله تعالى : { أولئك هم المؤمنون حقاً } وهذا أيضاً يفيد الحصر ، فلما دلت هذه الآية على هذا المعنى ، ثم إنّ الإنسان لا يمكنه القطع على نفسه بحصول هذه الصفات الخمس ، فكان الأولى له أن يقول : إن شاء الله تعالى ، وعن الحسن أنّ رجلاً سأله : أمؤمن أنت ؟ فقال : الإيمان إيمانان ، فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجنة والنار والبعث والحساب ، فأنا مؤمن بها ، وإن كنت تسألني عن قوله تعالى : { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم } الآية فلا أدري أنا منهم أم لا ؟ وقال سفيان الثورّي : من زعم أنه مؤمن حقاً عند الله ، ثم لم يشهد أنه من أهل الجنة فقد آمن بنصف الآية ، وهذا إلزام منه أي : كما لا نقطع أنه من أهل الجنة قطعاً ، فلا نقطع أنه مؤمن حقاً .

الثالث : أنّ قوله : أنا مؤمن إن شاء الله تعالى للتبرّك ، فهو كقوله صلى الله عليه وسلم : ( وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ) مع العلم القطعيّ بأنه لاحق بأهل القبور .

الرابع : أنّ المؤمن لا يكون مؤمناً حقاً إلا إذا ختم له بالإيمان ، ومات عليه ، وهذا لا يحصل إلا عند الموت ، فلهذا السبب حسن أن يقول : أنا مؤمن إن شاء الله تعالى ، فالمراد صرف هذا الاستثناء إلى الخاتمة .

الخامس : أنّ ذكر هذه الكلمة لا ينافي حصول الجزم والقطع ألا ترى أنه تعالى قال : { لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلنّ المسجد الحرام إن شاء الله آمنين } ( الفتح ، 27 ) وهو تعالى منزه عن الشك والريب ، فثبت أنه تعالى إنما ذكر ذلك تعليماً منه لعباده فالأولى ذكر هذه الكلمة الدالة على تفويض الأمور إلى الله تعالى حتى يحصل ببركة هذه الكلمة دوام الإيمان ، واستدلّ الثاني بوجهين :

الأول : أنّ المتحرك يجوز أن يقول : أنا متحرّك ، ولا يجوز أن يقول أنا متحرّك إن شاء الله تعالى ، وكذا في القول في القائم والقاعد فكذا هنا .

الثاني : أنه تعالى قال : { أولئك هم المؤمنون حقاً } فقد حكم الله لهم بكونهم مؤمنين حقاً ، فكان قوله : إن شاء الله يوجب الشك فيما قطع الله تعالى لهم به ، وذلك لا يجوز ، وأجاب الأوّل عن قولهم : المتحرّك لا يجوز أن يقول : أنا متحرك إن شاء الله تعالى بالفرق بين وصف الإنسان بكونه مؤمناً وبين وصفه بكونه متحركاً إذ الإيمان يتوقف حاله على الخاتمة ، والحركة فعل للإنسان نفسي ، فحصل الفرق بينهما ، وعن قولهم : إنه تعالى قال : { أولئك هم المؤمنون حقاً } فحكم لهم بكونهم مؤمنين حقاً إذا أتوا بتلك الأوصاف الخمسة على الحقيقة ، ونحن لا نعلم ذلك ، فثبت حينئذ أنّ الصواب مع أصحاب القول الأوّل : { لهم } أي : للموصوفين بتلك الصفات { درجات } أي : منازل في الجنة { عند ربهم } بعضها أعلى من بعض ؛ لأنّ المؤمنين تتفاوت أحوالهم في الأخذ بتلك الأوصاف المذكورة ، فلهذا تتفاوت منازلهم في الجنة على قدر أعمالهم . قال عطاء : درجات الجنة يرتفعون فيها بأعمالهم ، وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنّ في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين مائة عام ) ، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : ( في الجنة مائة درجة لو أنّ العالمين اجتمعوا في إحداهنّ لوسعتهم ) { ومغفرة } أي : لما فرط منهم { ورزق كريم } أعدّ لهم في الجنة لا ينقطع عدده ولا ينتهي أمده .

فإن قيل : أليس المفضول إذا علم حصول الدرجات العالية للفاضل ، وحرمانه منها فإنه يتألم قلبه ويتنغص عيشه وذلك يحيل كون الثواب رزقاً حسناً ؟ أجيب : بأنّ استغراق كل أحد في سعادته الحاضرة تمنعه من حصول النظر إلى غيره ، وبالجملة فأحوال الآخرة لا تناسب أحوال الدنيا إلا بالاسم .