مقتضى { إنما } في اللغة الحصر ، هذا منزع المتكلم بها من العرب ، ثم إذا نظر مقتضاها -عقلاً- وهذا هو نظرالأصوليين - فهي تصلح للحصر وللتأكيد الذي يستعار له لفظ الحصر ، وهي في هذه الآية حاصرة ، والإشارة ب { ذلكم } إلى جميع ما جرى من أخبار الركب العبديين ، عن رسالة أبي سفيان ومن تحميل أبي سفيان ذلك الكلام ، ومن جزع من ذلك الخبر من مؤمن أو متردد ، و { ذلكم } في الإعراب ابتداء ، و { الشيطان } مبتدأ آخر ، و { يخوف أولياءه } خبر عن الشيطان ، والجملة خبر الابتداء الأول ، وهذا الإعراب خير في تناسق المعنى من أن يكون { الشيطان } خبر { ذلكم } لأنه يجيء في المعنى استعارة بعيدة ، و { يخوف } فعل يتعدى إلى مفعولين ، لكن يجوز الاقتصار على أحدهما إذ الآخر مفهوم من بنية هذا الفعل ، لأنك إذا قلت : خوفت زيداً ، فمعلوم ضرورة أنك خوفته شيئاً حقه أن يخاف ، وقرأ جمهور الناس { يخوف أولياءه } فقال قوم المعنى : يخوفكم أيها المؤمنون أولياءه الذين هم كفار قريش ، فحذف المفعول الأول وقال قوم : المعنى يخوف المنافقين ومن في قلبه مرض وهم أولياؤه ، فإذاً لا يعمل فيكم أيها المؤمنون تخويفه ، إذ لستم بأوليائه ، والمعنى : يخوفهم كفار قريش ، فحذف هنا المفعول الثاني واقتصر على الأول ، وقرأ ابن عباس فيما حكى أبو عمرو الداني «يخوفكم أولياءه » المعنى يخوفكم قريش ومن معهم ، وذلك بإضلال الشيطان لهم وذلك كله مضمحل ، وبذلك قرأ النخعي وحكى أبو الفتح بن جني{[3726]} عن ابن عباس أنه قرأ «يخوفكم أولياءه » فهذه قراءة ظهر فيها المفعولان ، وفسرت قراءة الجماعة «يخوف أولياءه » قراءة أبي بن كعب «يخوفكم بأوليائه » والضمير في قوله { فلا تخافوهم } لكفار قريش وغيرهم من أولياء الشيطان ، حقر الله شأنه وقوى نفوس المؤمنين عليهم ، وأمرهم بخوفه هو تعالى وامتثال أمره ، من الصبر والجلد ، ثم قرر بقوله تعالى : { إن كنتم مؤمنين } كما تقول : إن كنت رجلاً فافعل كذا .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني بذلك تعالى ذكره: إنما الذي قال لكم أيها المؤمنون: إن الناس قد جمعوا لكم، فخوفوكم بجموع عدوكم، ومسيرهم إليكم، من فعل الشيطان، ألقاه على أفواه من قال ذلك لكم، يخوفكم بأوليائه من المشركين أبي سفيان وأصحابه من قريش، لترهبوهم، وتجبنوا عنهم.
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
قوله تعالى: {إنما ذلكم الشيطان}. يعني ذلك الذي قال لكم إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم من فعل الشيطان ألقي في أفواههم ليرهبوهم ويجبنوا عنهم.
قوله تعالى: {يخوف أولياءه}. أي يخوفكم بأوليائه، وكذلك هو في قراءة أبي بن كعب يعني يخوف المؤمنين بالكافرين، قال السدي: يعظم أولياءه في صدورهم ليخافوهم، يدل عليه قراءة عبد الله بن مسعود يخوفكم أولياءه.
قوله تعالى: {فلا تخافوهم وخافون}. في ترك أمري.
قوله تعالى: {إن كنتم مؤمنين}. مصدقين بوعدي لأني متكفل لكم بالنصر والظفر.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فلا تخافوهم فتقعدوا عن القتال وتجبنوا {وَخَافُونِ} فجاهدوا مع رسولي وسارعوا إلى ما يأمركم به {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} يعني أنّ الإيمان يقتضي أن تؤثروا خوف الله على خوف الناس..
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
(إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه) قيل إن المراد بالشيطان هنا شيطان الإنس الذي غش المسلمين وخوفهم ليخذلهم، واختلف في تعيينه فقيل هو أبو سفيان فإنه أراد بعد أحد أن يكر ليستأصل المسلمين وأرسل إليهم يخوفهم في بدر الثانية أو الصغرى. وقيل هو نعيم بن مسعود الذي أرسله أبو سفيان ليثبط المسلمين عن الخروج إلى بدر الموعد (وقد أسلم نعيم يوم الأحزاب) وقيل هو وفد عبد القيس على الخلاف الذي تقدم ذكره في سبب النزول. وقيل بل المراد به شيطان الجن الذي يوسوس في صدور الناس على حد (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء) [البقرة: 268].
والمعنى على الأول: ليس ذلك الذي قال لكم إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم أو من عز إليه بأن يقول ذلك أو من وسوس به إلا الشيطان يخوفكم أولياءه وهم مشركو مكة ويوهمكم أنهم جمع كثير أولو بأس شديد وأن مصلحتكم أن تقعدوا عن لقائهم وتجبنوا عن مدافعتهم.
والمعنى على الثاني: أن الشيطان يخوف أولياءه ولا سلطان له على أولياء الله المؤمنين، فهو عاجز عن تخويفهم. وفي التفسير الكبير للرازي إنه يخوف أولياءه المنافقين فيسول لهم القعود عن قتال المشركين ويزين لهم خذلان المسلمين. وإذا صح هذا من جهة المعنى فإن الإشارة فيه ليست جلية كجلائها في الوجه الأول ولا الثاني أيضا ولا يظهر عليه قوله: (فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين) لأن المنافقين لم يكونوا بحيث يخاف المؤمنون منهم فينهون عن ذلك. أي لا تحلفوا بقوله:"فاخشوهم" فتخافوهم بل خافوني أنا لأنكم أوليائي وأنا وليكم وناصركم إن كنتم راسخين في الإيمان قائمين بحقوقه.
قال الأستاذ الإمام: في الآية التنبيه إلى الموازنة بين أولياء الشيطان من مشركي مكة وغيرهم وبين ولي المؤمنين القادر على كل شيء، كأنه يقول: عليكم أن توازنوا بين قوتي وقوتهم ونصرتي ونصرتهم، فأنا الذي وعدتكم النصر وأنا وليكم ونصيركم ما أطعتموني وأطعتم رسولي. وفي هذا المقام شبهة تعرض لبعضهم: يقولون إن تكليف عدم الخوف من تكليف ما لا يستطاع ولا يدخل في الوسع، فإن الإنسان إذا علم أن العدد الكثير ذا العدد العظيمة يريد أن يواثبه وينزل به العذاب بأن رآه أو سمع استعداده من الثقات فإنه لا يستطيع أن لا يخافه، فكان الظاهر أن يؤمروا بإكراه النفس على المقاومة والمدافعة مع الخوف لا أن ينهوا عن الخوف.
والجواب: أن هذه الشبهة حجة الجبناء فهي لا تطوف إلا في خيال الجبان، فإن أعمال النفس من الخوف والحزن والقرح يتراءى للإنسان أنها اضطرارية وأن آثارها كائنة لا محالة مهما حدث سببها.
والحقيقة أن ذلك اختياري من وجهين:
أحدهما: أن هذه الأمور تأتي بالعادة والمزاولة ولذلك تختلف باختلاف الشعوب والأجيال فمن اعتاد الإحجام عند الحاجة إلى الدفاع يصير جبانا والعادات خاضعة للاختيار بالتربية والتمرين ففي استطاعة الإنسان أن يقاوم أسباب الخوف ويعود نفسه الاستهانة بها.
وثانيهما: أن هذه الأمور إذا حدثت بأسبابها. فالإنسان مختار في الإسلاس لها والاسترسال معها حتى يتمكن أثرها في النفس وتتجسم صورتها في الخيال ومختار في ضد ذلك وهو مغالبتها والتعمل في صرفها وشغل النفس بما يضادها ويذهب بأثرها أو يتبدل به أثرا آخر مناقضا له. فهذا الأمر الاختياري هو مناط التكليف، كأنه يقوله إذا عرضت لكم أسباب الخوف فاستحضروا في نفوسكم قدرة الله على كل شيء وكونه بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه، وتذكروا وعده بنصركم وإظهار دينكم على الدين كله وأن الحق يدمغ الباطل فإذا هو زاهق، وتذكروا قوله: (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين) [البقرة: 239] ثم خذوا أهبتكم وتوكلوا على ربكم فإنه لا يدع لخوف غيره مكانا في قلوبكم ا ه بتصرف منه. إن مقول "كأنه يقول "من عندي لأنني لم أكتب ما قاله رحمه الله فيه، وإنما تركت له بياضا لأكتبه في وقت الفراغ ثم نسيته، ومراده أن الوجه الأول إنما يتعلق به الاختيار في التربية التدريجية والثاني يتعلق به الاختيار فورا في كل وقت...
قال الأستاذ الإمام: إن قوله تعالى: (إن كنتم مؤمنين) يفيد وجوب توثيق الإيمان بالله في القلب قبل كل شيء لأن تلك الخواطر والهواجس التي تحدث الخوف من أولياء الشيطان لا يمحوها من لوح القلب إلا الإيمان الصحيح الثابت. وفي قوله: (إن كنتم) إشارة إلى إيمان من يرجح الخوف من أولياء الشيطان على الخوف من الله تعالى مشكوك فيه. أقول: فليزن كل مؤمن نفسه بهذه الآية ويقارن بين عمله وعمل الصحابة الكرام وبين إيمانهم لكي لا يكون من المغرورين.
من تدبر هذه الآية حق التدبير علم أن المؤمن الصادق لا يكون جبانا فالشجاعة وصف ثابت للمؤمنين إذا شاركهم فيه غيرهم فإنه لا يدرك فيه مداهم ولا يبلغ شأوهم. ومن بحث عن علل الأشياء يرى أن علة الجبن هي الخوف من الموت والحرص على الحياة، وكل من الخوف والحرص مما لا يتسع له قلب المؤمن كقلب غيره. قال تعالى في سياق الكلام على اليهود (ولتجدنهم أحرص الناس على حياة؛ ومن الذين أشركوا، يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر) [البقرة: 96] ولا يزال العالم كله يشهد أن الجيش الإسلامي أشجع جيوش الملل كلها، هذا مع ما مني به المسلمون من ضعف الإيمان والجهل بالإسلام، هذا وما، فكيف لو.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
قال تعالى: {إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه} أي: إن ترهيب من رهب من المشركين، وقال: إنهم جمعوا لكم، داع من دعاة الشيطان، يخوف أولياءه الذين عدم إيمانهم، أو ضعف. {فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين} أي: فلا تخافوا المشركين أولياء الشيطان، فإن نواصيهم بيد الله، لا يتصرفون إلا بقدره، بل خافوا الله الذي ينصر أولياءه الخائفين منه المستجيبين لدعوته. وفي هذه الآية وجوب الخوف من الله وحده، وأنه من لوازم الإيمان، فعلى قدر إيمان العبد يكون خوفه من الله، والخوف المحمود: ما حجز العبد عن محارم الله.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إن الشيطان هو الذي يضخم من شأن أوليائه، ويلبسهم لباس القوة والقدرة، ويوقع في القلوب أنهم ذوو حول وطول، وأنهم يملكون النفع والضر.. ذلك ليقضي بهم لباناته وأغراضه، وليحقق بهم الشر في الأرض والفساد، وليخضع لهم الرقاب ويطوع لهم القلوب، فلا يرتفع في وجوههم صوت بالإنكار؛ ولا يفكر أحد في الانتقاض عليهم، ودفعهم عن الشر والفساد.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة {إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه} إمّا استئناف بياني إن جَعلتَ قوله: {الذين قال لهم الناس} بدلاً أو صفة كما تقدّم، وإمَّا خبر عن {الذين قال لهم الناس} إن جَعلَت قوله: {الذين قال لهم الناس} مبتدأ، والتقدير: الذين قال لهم الناس إلى آخره إنّما مقالهم يخوّف الشيطان به. ورابط هذه الجملة بالمبتدأ، وهو « الذين قال لهم الناس» على هذا التقدير، هو اسم الإشارة، واسم الإشارة مبتدأ.
ثم الإشارة بقوله: {ذلكم} إمّا عائد إلى المقال فلفظ الشيطان على هذا مبتدأ ثان، ولفظه مستعمل في معناه الحقيقي، والمعنى: أنّ ذلك المقال ناشئ عن وسوسة الشيطان في نفوس الذين دبّروا مكيدة الإرجاف بتلك المقالة لتخويف المسلمين بواسطة ركب عبد القيس.
وإمّا أن تعود الإشارة الى {الناس} من قوله: {قال لهم الناس} لأن الناس مؤوّل بشخص، أعني نُعميا بن مسعود، فالشيطان بدل أو بيان من اسم الإشارة وأطلق عليه لفظ شيطان على طريقة التشبيه البليغ.
وقوله: {يخوف أولياءه} تقديره يخوّفكم أولياءه، فحذف المفعول الأول لفعل (يخوّف) بقرينة قوله بعده: {فلا تخافوهم} فإنّ خَوّف يتعدّى إلى مفعولين إذ هو مضاعف خاف المجرّد، وخاف يتعدّى الى مفعول واحد فصار بالتضعيف متعدّياً إلى مفعولين من باب كَسَا كما قال تعالى: {ويخوّفكم اللَّه نفسه} [آل عمران: 28].
وضمير {فلا تخافوهم} على هذا يعود إلى {أولياءه} وجملة {وخافون} معترضة بين جملة {فلا تخافوهم} وجملة {إن كنتم مؤمنين}.
وقوله: {إن كنتم مؤمنين} شرط مؤخّر تقدّم دليل جوابه، وهو تذكير وإحماء لإيمانهم وإلا فقد علم أنّهم مؤمنون حقّاً.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
ومن أفضل نعم الله أنه ثبت قلوب المؤمنين، فلم يفزعوا عندما دست الأخبار لإفزاعهم وترويعه، فلم يرعوا لأن الله حاميهم وهم اعتمدوا عليه وهو وليهم؛ والترويع من الأوهام إنما يكون لأولياء الشيطان، ولذلك قال سبحانه موازنا بين أهل الإيمان وأهل الكفر والشيطان:
{إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون} الخطاب في الآية للمؤمنين الأقوياء أي إن الإرهاب والإفزاع يكون من أولياء الشيطان، وهو يخوف أولياءه ونصراءه بهذا التخويف وذلك الإفزاع، لأن أولئك لا يهمهم إلا الحياة الدنيا، ودائرة سلطان الشيطان في ان يحملهم على ألا يؤمنوا بالحياة الأخرى، ومادامت الدنيا همهم اللازم، فإنه لا يهمهم إلا الفوز الحاضر، ومن هنا يجد الشيطان موضع ثقته ووسوسته، فأولياء الشيطان إذا كانوا قد خوفوا المؤمنين بالكثرة والعدد والهزيمة القريبة، فذلك هو منطقهم ومنطق الشيطان، اما المؤمنون فهم أولياء الله ولا يعتمدون إلا عليه، ولهم إحدى الحسنيين إما النصر العاجل ومعه الجزاء، وإما الاستشهاد والثواب المقيم، ورضوان الله اكبر، وهو ثابت في الحالين، ولذلك لا يفزعهم مثل هذا التهديد الذي حملته رسل أبي سفيان، ويكون المعنى على هذا، إن تخويف الشيطان المبني على الإفزاع والإرهاب إنما يكون أثره في أوليائه من الكافرين والمنافقين، ولا يمكن ان يكون له أثر في قلوب المؤمنين،والإشارة في قوله تعالى: {إنما ذلكم} هي للعمل الذي قام به أولئك الذين دسوا القول المفزع المثبط في النبي صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه، وجعل المسند إليه من قبيل ذكر السبب وإرادة المسبب، فالمعنى: إنما ذلكم القول المدسوس هو الشيطان أي عمله وتدبيره، ولا يمكن ان يكون إلا في أوليائه، والله ولى الذين آمنوا، والشيطان على هذا هو إبليس اللعين الذي أضلهم ويخوفهم، هم ومن هم على شاكلتهم من المنافقين.
ولقد أكد الله سبحانه ولايته لهم، ونصرته لهم فقال تبارك وتعالى: {فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين} أي فلا تخافوا تهديدهم الذي هو تدبير الشيطان، فإنه إذا كنتم أولياء الله، ولا يهمكم إلا رضاه، ولستم أولياء الشيطان، ولا أثر له في قلوبكم، فلا يصح لكم ان تخافوا أولياء الشيطان، ولا تدبيره، والله معكم، ولذلك لا تخافوا سواه ما دام الإيمان شأنكم ووصفكم، فضعوا في نفوسكم ولاية الله ونصرته وتقواه، وضعوا أيضا في نفوسكم خشية عقابه ورجاء رضاه، فإن فعلتم خفتم الله وأرضيتموه، واتبعتم طريق السداد، وكنم في امن من الشيطان وأوليائه.
والخوف أمر نفسي لا قدرة للإنسان على منعه، فكيف يكون النهي عنه؟ والجواب عن ذلك أن النهي عن الخوف نهى عن أسبابه، ودعوة إلى رياضة النفس على الصبر؛ وذلك لن سبب الخوف والجبن حب الدنيا وكراهية الموت، وعدم عمران القلب بذكر الله وعدم الإحساس بولاية الله تعالى، وضعف الثقة بالنفس وبالله، فالله سبحانه وتعالى إذ نهى المؤمنين عن الخوف من الشيطان فمعناه النهي عن أسباب الخوف والأخذ في أسباب القوة، بالتقوى وذكر الله تعالى، والاتكال عليه بعد الأخذ في الأسباب، والإيمان بأن الله تعالى ناصر دينه، وناصر من استمسك به واخذ بعروته ولم يتركها قط.
والمقابلة بين النهي عن الخوف من أولياء الشيطان، والأمر بالخوف منه سبحانه، فيها بيان علاج النفس إذا ضعفت وخافت من الشيطان وأوليائه، فدفع الخوف من أولياء الشيطان يكون بالخوف من الله تعالى، فمن خاف الله تعالى حق الخوف منه لا يخاف أحدا من العباد إذا عاندوا وحادوا الله ودينه، لا يخاف اهل الضلال من يخاف الله سبحانه وتعالى.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
هذه الآية تعقيب على الآيات التي نزلت حول غزوة «حمراء الأسد»، ولفظة «ذلكم» إِشارة إِلى الذين كانوا يخوفون المسلمين من قوّة قريش، وبأس جيشهم لإضعاف معنويات المسلمين.
وعلى هذا الأساس يكون معنى هذه الآية هو: إِن عمل نعيم بن مسعود، أو ركب عبد القيس من عمل الشيطان لكي يخوفوا به أولياء الشيطان، يعني أن هذه الوساوس إِنما تؤثر في أتباع الشيطان وأوليائه خاصّة، وأمّا المؤمنون الثابتون فلا تزل أقدامهم لهذه الوساوس مطلقاً، ولن يرعبوا ولن يخافوا أبداً، وعلى هذا الأساس فأنتم لستم من أولياء الشيطان، فلا تخافوا هذه الوساوس، ويجب أن لا تزلزلكم أو تزعزع إِيمانكم.
إِنّ التّعبير عن نعيم بن مسعود أو ركب عبد القيس ووصفهم ب «الشّيطان» إمّا لكون عملهم ذلك من عمل الشيطان ومستلهم منه ومأخوذ من وحيه، لأن القرآن يسمّي كل عمل قبيح وفعل مخالف للدين عمل شيطاني، لأنه يتم بوسوسته، ويصدر عن وحيه إِلى أتباعه.
وإمّا أن المقصود من الشّيطان هم نفس هؤلاء الأشخاص، فيكون «هذا المورد» من الموارد التي يطلق فيها اسم «الشّيطان» على المصداق الإِنساني له، لأن للشيطان معنىً وسيعاً يشمل كل غاو مضل، إِنساناً كان أم غير إِنسان كما نقرأ في سورة الأنعام الآية (112)، (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإِنس والجن).
ثمّ إنّه سبحانه يقول في ختام الآية: (وخافون إِن كنتم مؤمنين) يعني أن الإِيمان بالله والخوف من غيره لا يجتمعان، وهذا كقوله سبحانه في موضع آخر: (فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخساً ولا رهقاً).
وعلى هذا الأساس فإن وجد في أحد الخوف من غير الله كان ذلك دليلا على نقصان إِيمانه وتأثيره بالوساوس الشيطانية لأنّنا نعلم أنّه لا ملجأ ولا مؤثر بالذات في هذا الكون العريض سوى الله الذي ليس لأحد قدرة في مقابل قدرته.
وأساساً لو أن المؤمنين قارنوا وليهم وهو الله سبحانه بولي المشركين والمنافقين الذي هو الشيطان، لعلموا أنّهم لا يملكون تجاه الله أية قدرة، ولهذا لا يخافونهم قيد شعرة.
وخلاصة هذا الكلام ونتيجته هي أنّ الإِيمان أينما كان، كانت معه الشجاعة والشهامة، فهما توأمان لا يفترقان.