البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ يُخَوِّفُ أَوۡلِيَآءَهُۥ فَلَا تَخَافُوهُمۡ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} (175)

{ إنما ذلكم الشيطان يخوّف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين } ما : هي الكافة لأنَّ عن العمل .

وهي التي يزعم معظم أهل أصول الفقه أنّها إذا لم تكن موصولة أفادت مع أنَّ الحصر .

وذلكم : إشارة إلى الركب المثبط .

وقيل : المراد بالشيطان نعيم بن مسعود ، أو أبو سفيان .

فعلى هذا الأقوال تكون الإشارة إلى أعيان .

وقيل : ذلكم إشارة إلى جميع ما جرى من أخبار الركب العبديين عن رسالة أبي سفيان ، وتحميل أبي سفيان ذلك الكلام ، وجزع من جزع منه من مؤمن أو متردّد .

فعلى هذا تكون الإشارة إلى معانٍ ، ولا بد إذ ذاك من تقدير مضاف محذوف تقديره : إنما ذلكم فعل الشيطان .

وقدّره الزمخشري قول الشيطان ، أي قول إبليس .

فتكون الإشارة على هذا التقدير إلى القول السابق وهو : أن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم .

وعلى هذه الأقوال كلها فالخبر عن المبتدأ الذي هو ذلكم بالشيطان هو مجاز ، لأن الأعيان ليست من نفس الشيطان ، ولا ما جرى من قول فقط ، أو من قول ، وما انضم إليه مما صدر من العدوّ من تخويف ، وما صدر من جزع ، ليس نفس قول الشيطان ولا فعله ، وإنما نسب إليه وأضيف ، لأنه ناشىء عن وسوسته وإغوائه وإلقائه .

والتشديد في يخوّف للنقل ، كان قبله يتعدّى لواحد ، فلما ضعف صار يتعدّى لاثنين .

وهو من الأفعال التي يجوز حذف مفعوليها ، وأحدهما اقتصار أو اختصار ، أو هنا تعدّى إلى واحد ، والآخر محذوف .

فيجوز أن يكون الأوّل ويكون التقدير : يخوفكم أولياء ، أي شر أوليائه في هذا الوجه .

لأن الذوات لا تخاف ، ويكون المخوفون إذ ذاك المؤمنين ، ويجوز أن يكون المحذوف المفعول الثاني ، أي : يخوّف أولياءه شرّ الكفار ، ويكون أولياءه في هذا الوجه هم المنافقون ، ومَن في قلبه مرض المتخلفون عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أي : أنه لا يتعدّى تخويفه المنافقين ، ولا يصل إليكم تخويفه .

وعلى الوجه الأوّل يكون أولياءه هم الكفار : أبو سفيان ومن معه .

ويدل على هذا الوجه قراءة ابن مسعود وابن عباس يخوفكم أولياءه ، إذ ظهر فيها أن المحذوف هو المفعول الأوّل .

وقرأ أبيّ والنخعي : يخوفكم بأوليائه ، فيجوز أن تكون الباء زائدة مثلها في يقرأن بالسور ، ويكون المفعول الثاني هو بأوليائه ، أي : أولياءه ، كقراءة الجمهور .

ويجوز أن تكون الباء للسبب ، ويكون مفعول يخوّف الثاني محذوفاً أي : يخوّفكم الشرّ بأوليائه ، فيكونون آلة للتخويف .

وقد حمل بعض المعربين قراءة الجمهور يخوف أولياءه على أن التقدير : بأوليائه ، فيكون إذ ذاك قد حذف مفعولاً يخوف لدلالة ، المعنى على الحذف ، والتقدير : يخوفكم الشرّ بأوليائه ، وهذا بعيد .

والأحسن في الإعراب أن يكون ذلكم مبتدأ ، والشيطان خبره ، ويخوف جملة حالية ، يدل على أن هذه الجملة حال مجيء المفرد منصوباً على الحال مكانها نحو قوله تعالى : { فتلك بيوتهم خاوية } { وهذا بعلي شيخاً } وأجاز أبو البقاء أن يكون الشيطان بدلاً أو عطف بيان ، ويكون يخوف خبراً عن ذلكم .

وقال الزمخشري : الشيطان خبر ذلكم ، بمعنى : إنما ذلكم المثبط هو الشيطان ، ويخوّف أولياءه جملة مستأنفة بيان لتثبيطه ، أو الشيطان صفة لاسم الإشارة ، ويخوف الخبر .

والمراد بالشيطان نعيم أو أبو سفيان انتهى كلامه .

فعلى هذا القول تكون الجملة لا موضع لها من الإعراب .

وإنما قال : والمراد بالشيطان نعيم ، أو أبو سفيان ، لأنه لا يكون صفة ، والمراد به إبليس .

لأنه إذا أريد به إبليس كان إذ ذاك علماً بالغلبة ، إذ أصله صفة كالعيوق ، ثم غلب على إبليس ، كما غلب العيوق على النجم الذي ينطلق عليه .

وقال ابن عطية : وذلكم في الإعراب ابتداء ، والشيطان مبتدأ آخر ، ويخوف أولياءه خبر عن الشيطان ، والجملة خبر الابتداء الأوّل .

وهذا الإعراب خبر في تناسق المعنى من أن يكون الشيطان خبر ذلكم ، لأنه يجيء في المعنى استعارة بعيدة انتهى .

وهذا الذي اختاره إعراب لا يجوز ، إن كان الضمير في أولياءه عائداً على الشيطان ، لأن الجملة الواقعة خبراً عن ذلكم ليس فيها رابط يربطها بقوله : ذلكم ، وليست نفس المبتدأ في المعنى نحو قولهم : هجيري أبي بكر لا إله إلا الله ، وإنْ كان عائداً على ذلكم ، ويكون ذلك عن الشيطان جاز ، وصار نظير : إنما هند زيد يضرب غلامها والمعنى : إذ ذاك ، إنما ذلكم الركب ، أو أبو سفيان الشيطان يخوفكم أولياءه ، أي : أولياء الركب ، أو أبي سفيان .

والضمير المنصوب في تخافوهم الظاهر عوده على أولياءه ، هذا إذا كان المراد بقوله : أولياءه كفار قريش ، وغيرهم من أولياء الشيطان .

وإن كان المراد به المنافقين ، فيكون عائداً على الناس من قوله : { إن الناس قد جمعوا لكم } قوى نفوس المسلمين فنهاهم عن خوف أولياء الشيطان ، وأمر بخوفه تعالى ، وعلق ذلك على الإيمان .

أي إنَّ وصف الإيمان يناسب أن لا يخاف المؤمن إلا الله كقوله : { ولا يخشون أحداً إلا الله } وأبرز هذا الشرط في صفة الإمكان ، وإن كان واقعاً إذ هم متصفون بالإيمان ، كما تقول : إن كنت رجلاً فافعل كذا .

وأثبت أبو عمرو ياء وخافون وهي ضمير المفعول ، والأصل الإثبات .

ويجوز حذفها للوقف على نون الوقاية بالسكون ، فتذهب الدلالة على المحذوف .

/خ180