" إنما " حرف مكفوف ب " ما " عن العمل وقد تقدم الكلام فيها أول الكتاب . وفي إعراب هذه الجملة خمسةُ أوجهٍ :
الأول : أن يكون " ذلكم " مبتدأ ، " والشيطان " خبره ، و " يخوف أولياءه " حال ؛ بدليل وقوع الحالِ الصريحةِ في مثل هذا التركيب ، نحو قوله :{ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً } [ هود : 72 ] وقوله :{ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً } [ النمل : 52 ] .
الثاني : أن يكون " الشيطان " بدلاً ، أو عطف بيان ، و " يخوف " الخبر ، ذكره أبو البقاء .
الثالث : أن يكون " الشيطان " نعتاً لاسم الإشارة ، و " يخوف " على أن يرادَ ب " الشيطان " نعيم ، أو أبو سفيان - ذكره الزمخشري قال أبو حيّان : " وإنما قال : والمراد ب " الشيطان " نعيم ، أو أبو سفيان ؛ لأنه لا يكون نعتاً - والمراد به إبليس - لأنه إذ ذاك - يكون علماً بالغلبة ، إذ أصله صفة - كالعيُّوق - ثم غلب على إبليس كما غلب العيُّوق على النَّجْمِ الَّذِي ينطلق عليه " وفيه نظرٌ .
الرابع : أن يكون " ذلكم " ابتداء ، و " الشيطان " خبر ، و " يخوف " جملةٌ مستأنفةٌ ، بيان لشيطنته ، والمراد بالشَّيْطانِ هو المثبط للمؤمنين .
الخامس : أن يكون " ذلكم " مبتدأ ، و " الشيطان " مبتدأ ثانٍ ، و " يخوف " خبر الثاني ، والثاني وخبره خبرُ الأول ؛ قاله ابنُ عطيةَ ، وقال : " وهذا الإعرابُ خير - في تناسق المعنى - من أن يكون " الشيطان " خبر " ذلكم " لأنه يجيء في المعنى استعارة بعيدة " .
ورَدَّ عليه أبو حيّان هذا الإعراب - إن كان الضمير في " أولياءه " عائداً على " الشيطان " لخُلُوِّ الجملة الواقعة خبراً عن رابط يربطها بالمبتدأ - وليست نفس المبتدأ في المعنى ، نحو : هِجِّيرَى أبِي بكر لا إلَه إلا الله وإن كان عائداً على " ذلكم " - ويراد ب " ذلكم " غير الشيطان جاز ، وصار نظير : إنما هند زيد [ يضرب غلامها ]{[6202]} ، والمعنى : إنما ذلكم الركب ، أو أبو سفيان الشيطان يخوفكم أنتم أولياؤه ، أي : أولياء الركب ، أو أولياء أبي سفيان - والمشار إليه ب " ذلكم " هل هو عين أو معنى ؟ فيه احتمالان :
أحدهما : أنه إشارةٌ إلى ناسٍِ مخصوصين - كَنُعَيْم وأبي سفيانَ وأشياعهما - على ما تقدم .
الثاني : إشارة إلى جميع ما جرى من أخبارِ الركبِ وإرسال أبي سفيان وجزع من جزع - وعلى هذا التقدير فلا بُدّ من حذف مضافٍ ، أي : فعل الشيطان ، وقدَّره الزمخشري : قول الشيطانِ ، أي : قوله السابق ، وهو : { إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ } وعلى كلا التقديرين - أعني كون الإشارة لأعيان أو معان - فالإخبار ب " الشيطان " عن " ذلكم " مجاز ؛ لأن الأعيان المذكورين والمعاني من الأقوال والأفعال الصادرة من الكفار - ليست نفس الشيطان ، وإنما لما كانت بسببه ووسوسته جَازَ ذلك .
قوله : { يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ } قد تقدم ما محله من الإعراب . والتضعيفُ فيه للتعدية ، فإنه قَبْلَ التَّضْعيف متعدٍّ إلى واحدٍ ، وبالتضعيف يكتسب ثانياً ، وهو من باب " أعطى " ، فيجوز حذف مفعوليه ، أو أحدهما اقتصاراً واختصاراً ، وهو في الآية الكريمة يحتمل أوجُهاً :
أحدها : أنْ يكون المفعولُ الأولُ محذوفاً ، تقديره : يخوفكم أولياءه ، ويقوِّي هذا التقديرَ قراءة ابن عبَّاسٍ وابن مسعود هذه الآية كذلك{[6203]} ، والمراد ب " أولياءه " - هنا - الكفارُ ، ولا بُدَّ من حذف مضافٍ ، أي : شر أوليائه ؛ لأن الذوات لا يخاف منها .
الثاني : أن يكون المفعول الثاني هو المحذوف ، و " أولياءه " هو الأول ، والتقدير : يخوف أولياءه شَرَّ الكفار ، ويكون المراد ب " أولياءه " - على هذا الوجه - المنافقين ومَنْ في قلبه مرضٌ ممن تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج .
والمعنى : أن تخويفه بالكفار إنما يحصل للمنافقين الذين هم أولياؤه ، وأما أنتم فلا يصل إليكم تخويفه قاله الحسنُ والسُّدِّي{[6204]} .
الثالث : أن المفعولين محذوفان ، و " أولياءه " نعتٌ - على إسقاط حرف الجر - والتقدير : يخوفكم الشر بأوليائه . والباء للسبب ، أي : بسبب أوليائه فيكونون هم كآلةِ التخويف لكم .
قالوا : ومثل حذف المفعول الثاني قوله تعالى : { فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليَمِّ }
[ القصص : 7 ] أي : فإذا خِفْتِ عليه فرعونَ . ومثال حذف الجارّ قوله تعالى :
{ لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِّن لَّدُنْهُ } [ الكهف : 2 ] معناه لينذركم ببأسٍ ، وقوله : { لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاَقِ } [ غافر : 15 ] . وهذا قول الفرّاء والزّجّاج وأبي عليّ ، قالوا : ويدل عليه قراءة أبَيٍّ والنَّخَعِيِّ : يخوفكم بأوليائه{[6205]} .
قال شهابُ الدّينِ : فكأن هذا القائل رأى قراءة أبَيّ والنخعيّ " يخوف بأوليائه " فظن أنَّ قراءة الجمهورِ مثلها في الأصل ، ثم حُذِفتَ الباء ، وليس كذلك ، بل تُخَرَّج قراءةُ الجمهورِ على ما تقدم ؛ إذ لا حاجةَ إلى ادِّعاء ما لا ضرورة له .
وأما قراءة أبَيّ فيحتمل أن تكون الباء زائدة ، كقوله : [ البسيط ]
. . . *** سُودُ الْمَحَاجِرِ لا يَقْرَأنَ بِالسُّوَرِ{[6206]}
فتكون كقراءة الجمهور في المعنى .
ويحتمل أن تكون للسبب ، والمفعولان محذوفان - كما تقدم .
قوله : { فَلاَ تَخَافُوهُمْ } في الضمير المنصوب ثلاثةُ أوجهٍ :
الأول - وهو الأظهر - : أنه يعود على " أولياءه " أي : فلا تخافوا أولياءَ الشيطان ، هذا إن أريد بالأولياء كفار قريش .
الثاني : أنه يعود على " الناس " من قوله : { إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ } إن كان المراد ب " أولياءه " المنافقين .
الثالث : أنه يعود على " الشيطان " قال أبو البقاء : " إنما جمع الضمير ؛ لأن الشيطان جنس " والياء في قوله : " وخافوني " من الزوائد ، فإثبتها أبو عمرو وصلاً ، وحَذَفَها وقفاً - على قاعدته - والباقون يحذفونها مطلقاً .
فصل في ورود الخوف في القرآن الكريم
الأول : الخوفُ بعينه ، كهذه الآية .
الثاني : الخوف : القتال ، قال تعالى : { فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ }
[ الأحزاب : 19 ] أي : إذا ذهب القتال .
الثالث : الخوف : العِلْم ، قال تعالى : { فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً } [ البقرة :182 ] أي عَلِمَ ، ومثله قوله : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ } [ البقرة : 229 ] وقوله :
{ وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ } [ الأنعام : 51 ] . أي : يعلمون وقوله :
{ وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا } [ النساء : 35 ] أي : علمتم .
وقوله : { إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } جوابه محذوف ، أو متقدم - عند مَنْ يرى ذلك - وهذا من باب الإلهاب والتهييج . إلا فهم ملتبسون بالإيمان .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.