الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ يُخَوِّفُ أَوۡلِيَآءَهُۥ فَلَا تَخَافُوهُمۡ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} (175)

قوله تعالى : { إِنَّمَا ذلِكُمُ الشَّيْطَانُ } : " إنما " حرف مكفوف ب " ما " عن العمل ، وقد تقدَّم القول فيها أولَ هذا الكتاب . وفي إعراب هذه الجملةِ خمسةُ أوجه ، أحدها : أن يكون " ذلكم " مبتدأ و " الشيطان " خبره ، و { يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ } حالٌ بدليل قوع الحال الصريحة في مثل هذا التركيب نحو : { وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً } [ هود : 72 ] { فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً } [ النمل : 52 ] .

الثاني : أن يكونَ " الشيطانُ " بدلاً أو عطف بيان ، و " يُخَوِّفُ " الخبر ذكره أبو البقاء . الثالث : أن كونَ " الشيطان " نعتاً لاسمِ الإِشارة ، و " يُخَوِّفُ " الخبر ، على أن يُراد بالشيطان نعيم أو أبو سفيان . ذكره الزمخشري . قال الشيخ : " وإنما قال : " والمراد بالشيطان نعيم أو أبو سفيان " لأنه لا يكونُ نعتاً والمرادُ به إبليس لأنه إذ ذاك يكون علماً بالغلبة كالعَيُّوق ، إذ هو في الأصل صفةٌ ثم غَلب على إبليس " وفيه نظر . الرابع : أن يكون " ذلكم " ابتداءً وخبراً ، و " يُخَوِّف " جملةً مستأنفة بيانٌ لشيطنته ، والمرادُ بالشيطان هو المُثَبِّط للمؤمنين . الخامس : أن يكون : " ذلكم " مبتدأ ، و " الشيطانُ " مبتدأ ثانٍ ، و " يُخَوِّف " خبرُ الثاني ، والثاني وخبرُه خبر الأول قاله ابن عطية . وقال " وهذا الإِعرابُ خيرٌ في تناسق المعنى من أن يكون " الشيطان " خبر " ذلكم " لأنه يَجِيء في المعنى استعارةً بعيدة .

وَردَّ عليه الشيخ هذا الإِعرابَ إنْ كان الضمير في " أولياءه " عائداً على الشيطان ؛ لخلوِّ الجملة الواقعة خبراً مِنْ رابط يربطها بالمبتدأ وليست نفسَ المبتدأ في المعنى نحو : " هِجِّيرى أبي بكر : لا إله إلا الله " ، وإن عاد على " ذلكم " ويُراد بذلكم غيرُ الشيطان جاز ، ويصير نظيرَ : " إنما هند زيدٌ يضربُ عبدها " والمعنى : إنما ذلكم الركب أو أبو سفيان الشيطانُ يخوفكم أنتم أولياءَه أي : أولياءَ الركب أو أولياء أبي سفيان .

والمشار إليه ب " ذلكم " هل هو عينٌ أو معنى ؟ فيه احتمالان ، أحدهما : أنه إشارة إلى ناس مخصوصين كنعيم وأبي سفيان وأشياعهما على ما تقدم . والثاني : أنه إشارة إلى جميع ما جرى من أخبار الركب وإرسال أبي سفيان وجَزَعِ مَنْ جَزَعَ ، وعلى هذا التقدير فلا بد من حذف مضاف أي : فِعْلَ الشيطان ، وقَدَّره الزمخشري : " قولَ الشيطان " أي : قولَه السابق وهو { إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ } وعلى كلا التقديرين أعني كون الإِشارة لأعيانٍ أو معان فالإِخبار بالشيطان عن " ذلكم " مجاز ، لأنَّ الأعيان المذكورين والمعاني من الأقوال والأفعالِ الصادرة من الكفارِ ليست نفسَ الشيطان ، وإنما لما كانت بسببه ووسوسته جاز ذلك .

قوله : { يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ } قد تقدَّم ما محلُّه من الإِعراب ، والتضعيفُ فيه للتعدية ، فإنه قبل التضعيف متعدٍّ إلى واحدٍ وبالتضعيفِ يكتسب ثانياً ، وهو من باب أعطى ، فجوزُ حَذْفُ مفعوليه أو أحدهما اقتصاراً واختصاراً ، وهو في الآية الكريمة يَحْتمل أوجهاً ، أحدها : أن يكون المفعولُ الأول محذوفاً تقديره : يُخَوِّفكم أولياءه ، ويُقَوِّي هذا التقديرَ قراءةُ ابن عباس وابن مسعود هذه الآيةَ كذلك ، والمراد بأوليائه هنا الكفارُ ، ولا بد من حذف مضاف أي : شَرَّ أوليائه ، لأنَّ الذواتِ لا يُخاف منها . والثاني : أن يكونَ المفعول الثاني هو المحذوف ، و " أولياءه " هو الأول ، والتقدير : يُخَوِّف أولياءه شر الكفار ، ويكون المرادَ بأوليائه على هذا الوجه المنافقون ومَنْ [ في ] قلبه مرض مِمَّن تخلَّف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج ، والمعنى : أنَّ تخويفه بالكفار إنما يَحْصُل للمنافقين الذي هم أولياؤه ، وأما أنتم فلا يَصِل إليكم تخويفُه . والثالث ذكره بعضهم أن المفعولين محذوفان ، و " أولياءه " نصب على إسقاطِ حرف الجر ، والتقدير : يُخوِّفكم الشرَّ بأوليائه ، والباء للسبب أي : بسبب أوليائه ، فيكونون هم آلة التخويف ، وكأن هذا القائل رأى قراءة أُبيّ والنخعي : " يُخَوِّف بأوليائه " فظنَّ أن قراءة الجمهور مثلُها في الأصل ، ثم حُذِفت الباء ، وليس كذلك ، بل تخريجُ قراءة الجمهور على ما تقدَّم ، إذ لا حاجة إلى ادِّعاء ما لا ضرورة له . وأمَّا قراءةُ أُبَيّ فتحتمل الباءُ أن تكون زائدةً كقوله :

1495 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** سُودُ المَحاجِرِ لا يَقْرَأْنَ بالسُّوَرِ

فتكونُ كقراءةِ الجمهورِ في المعنى ، ويُحتمل أن تكونَ للسببِ والمفعولان محذوفان كما تقدَّم تقريرهُ .

قوله : { فَلاَ تَخَافُوهُمْ } في الضمير المنصوبِ ثلاثةُ أوجهٍ ، أظهرُها : أنه يعودُ على أوليائِه أي : فلا تَخافوا أَولياءَ الشيطان ، هذا إنْ أُريد بالأولياء كفارُ قريش . والثاني : أن يعود على " الناس " من قوله : { إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ } إنْ كان المرادَ بأوليائه المنافقون . والثالث : أن يعودَ على الشيطان على المعنى . قال أبو البقاء : " إنما جُمِع الضميرُ لأنَّ الشيطانَ جنس " . والياءُ في قوله : " وخافونِ " من الزوائد ، فأثبتها أبو عمرو وصلاً ، وحذفَها وقفاً على قاعدتِه ، والباقون يحذفونها مطلقاً .

وقوله : { إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } جوابُه محذوفٌ أو متقدِّم عند مَنْ يرى ذلك ، وهذا من بابِ الإِلهاب والتهييج ، وإلاَّ فهم متلبِّسون بالإِيمان .