وقوله تعالى : { ما كان محمد أبا أحد من رجالكم } إلى قوله تعالى : { كريماً } أذهب الله تعالى في هذه الآية ما وقع في نفوس منافقين وغيرهم من نقد تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب زوجة دعيه زيد بن حارثة لأنهم كانوا استعظموا أن تزوج زوجة ابنه ، فنفى القرآن تلك النبوة وأعلم أن محمداً لم يكن في حقيقة أمره أبا أحد من رجال المعاصرين له ، ولم يقصد بهذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن له ولد فيحتاج إلى الاحتجاج بأمر بنيه بأنهم كانوا ماتوا ، ولا في أمر الحسن والحسين بأنهما كانا طفلين ومن احتج بذلك فإنه تأول نفي البنوة عنه بهذه الآية على غير ما قصد بها وقرأ ابن أبي عبلة وبعض الناس » ولكن رسولُ الله «بالرفع على معنى هو رسول الله ، وقرأ نافع وأبو عمرو وعاصم والأعرج وعيسى » رسولَ الله «بالنصب على العطف على { أبا } ، وهؤلاء قرؤوا » ولكن «بالتخفيف ، وقرأت فرقة » ولكنّ «بشد النون ونصب » رسولَ «على أنه اسم » لكنّ «والخبر محذوف ، وقرأ عاصم وحده{[9529]} والحسن والشعبي والأعرج بخلاف » وخاتَم «بفتح التاء بمعنى أنهم به ختموا فهو كالخاتم والطابع لهم ، وقرأ الباقون والجمهور » خاتِم «بكسر التاء بمعنى أنه ختمهم أي جاء آخرهم ، وروت عائشة أنه عليه السلام قال : ( أنا خاتَم الأنبياء )
بفتح التاء ، وروي عنه عليه السلام أنه قال : «أنا خاتم ألف نبي »{[9530]} ، وهذه الألفاظ عند جماعة علماء الأمة خلفاً وسلفاً متلقاة على العموم التام مقتضية نصاً أنه لا نبي بعده صلى الله عليه وسلم ، وما ذكره القاضي ابن الطيب في كتابه المسمى بالهداية من تجويز الاحتمال في ألفاظ هذه الآية ضعيف ، وما ذكره الغزالي في هذه الآية وهذا المعنى في كتابه الذي سماه بالاقتصاد إلحاد عندي وتطرق خبيث إلى تشويش عقيدة المسلمين في ختم محمد صلى الله عليه وسلم النبوءة ، فالحذر الحذر منه والله الهادي برحمته{[9531]} ، وقرأ ابن مسعود «من رجالكم ولكن نبينا ختم النبيين » ، قال الرماني ختم به عليه السلام الاستصلاح فمن لم يصلح به فميئوس من صلاحه ، وقوله تعالى : { وكان الله بكل شيء عليماً } والمقصد به هنا علمه تعالى بما رآه الأصلح بمحمد وبما قدره في الأمر كله .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ما كان أيها الناس محمد أبا زيد بن حارثة، ولا أبا أحد من رجالكم، الذين لم يلده محمد، فيحرم عليه نكاح زوجته بعد فراقه إياها، ولكنه رسول الله وخاتم النبيين، الذي ختم النبوّة فطبع عليها، فلا تفتح لأحد بعده إلى قيام الساعة، وكان الله بكل شيء من أعمالكم ومقالكم وغير ذلك ذا علم لا يخفى عليه شيء... واختلفت القرّاء في قراءة قوله:"وَخاتَمَ النّبِيّينَ" فقرأ ذلك قرّاء الأمصار سوى الحسن وعاصم بكسر التاء من خاتم النبيين، بمعنى أنه ختم النبيين. ذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله: وَلَكِن نَبِيّا خَتمَ النّبِيّينَ فذلك دليل على صحة قراءة من قرأه بكسر التاء، بمعنى أنه الذي ختم الأنبياء صلى الله عليه وسلم وعليهم. وقرأ ذلك فيما يذكر الحسن وعاصم: خاتَمَ النّبِيّينَ بفتح التاء، بمعنى أنه آخر النبيين، كما قرأ: «مَخْتُومٌ خَاتمَهُ مِسْكٌ» بمعنى: آخره مسك من قرأ ذلك كذلك.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ما كان محمد أبا أحد من رجالكم} أبوة تحرم بها حلائل الأبناء، ولكن أبوة التعظيم له والتبجيل، وأبوة الشفقة والرحمة، وهو ما قال: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض} الآية [الحجرات: 2].
{ولكن رسول الله} لئلا يعاملوا رسوله معاملة آبائهم، ولا يصاحبوه صحبة غيره، ولكن ليعاملوه معاملة الرسل في التعظيم له والتبجيل والإكرام.
{وخاتم النبيين} جائز أن يكون ذكره، وأخبره أنه خاتم النبيين لما علم جل وعلا، أنه يسمى غيره بعده نبيا...
وكذلك روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا نبي بعدي) [مسلم 1842] أخبر أن به ختم النبوة.
{وكان الله بكل شيء عليما} أي لم ينزل الله بما كان ويكون وبما به صلاحهم عليما.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: كيف كان آخر الأنبياء وعيسى ينزل في آخر الزمان؟ قلت: معنى كونه آخر الأنبياء أنه لا ينبأ أحد بعده، وعيسى ممن نبئ قبله، وحين ينزل ينزل عاملاً على شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، مصلياً إلى قبلته، كأنه بعض أمته.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما أفاد هذا كله أن الدعي ليس ابناً، وكانوا قد قالوا لما تزوج زينب كما رواه الترمذي عن عائشة رضي الله عنها: تزوج حليلة ابنه، أخبر به سبحانه على وجه هو من أعلام النبوة وأعظم دلائل الرسالة فقال: {ما كان} أي بوجه من الوجوه مطلق كون {محمد} أي على كثرة نسائه وأولاده {أبا أحد من رجالكم} لا مجازاً بالتبني ولا حقيقة بالولادة، ليثبت بذلك أن تحرم عليه زوجة الابن، ولم يقل: من بينكم، وإن لم يكن له في ذلك الوقت وهو سنة خمس وما داناها -ابن، ذكر لعلمه سبحانه أنه سيولد له ابنه إبراهيم عليه السلام، مع ما كان له قبله من البنين الذين لم يبلغ أحد منهم الحلم- على جميعهم الصلاة والسلام.
ولما كان بين كونه صلى الله عليه وسلم أباً لأحد من الرجال حقيقة وبين كونه خاتماً منافاة قال: {ولكن} كان في علم الله غيباً وشهادة أنه {رسول الله} الملك الأعظم الذي كل من سواه عبده، فبينكم وبين رسوله من جهة مطلق الرسالة أبوة وبنوة مجازية، إما من جهته فبالرأفة والرحمة والتربية والنصيحة من غير أن تحرم عليه تلك البنوة شيئاً من نسائكم وإلا لم يكن لمنصب النبوة مزية، وأما من جهتكم فبوجوب التعظيم والتوقير والطاعة وحرمة الأزواج، وأما كون الرسالة عن الله الذي لا أعظم منه فهو مقتض لأن يبلغ الناس عنه جميع ما أمره به، وقد بلغكم قوله تعالى: {ادعوهم لآبائهم} ووظيفته الشريفة مقتضية لأن يكون أول مؤتمر بهذا الأمر، فهو لا يدعو أحداً من رجالكم بعد هذا ابنه.
ولما لم يكن مطلق النبوة ولا مطلق الرسالة منافياً لأبوة الرجال قال: {وخاتم النبيين} أي لأن رسالته عامة ونبوته معها إعجاز القرآن، فلا حاجة مع ذلك إلى استنباء ولا إرسال، فلا يولد بعده من يكون نبياً...
والحاصل أنه لا يأتي بعده نبي بشرع جديد مطلقاً ولا يتجدد بعده أيضاً استنباء نبي مطلقاً، فقد آل الأمر إلى أن التقدير: ما كان محمد بحيث يتجدد بعده نبوة برسالة ولا غيرها ولكنه كان -مع أنه رسول الله- ختاماً للنبوة غير أنه سيق على الوجه المعجز لما تقدم من النكت وغيرها، وهذه الآية مثبتة لكونه خاتماً على أبلغ وجه وأعظمه، وذلك أنها في سياق الإنكار لأن يكون بنيه أحد من رجالهم بنوة حقيقية أو مجازية بغير جهة الإدلاء بأنثى أو كونه رسولاً وخاتماً، صوناً لمقام النبوة أن يتجدد بعده لأحد لأنه لو كان ذلك بشر لم يكن إلا ولداً له، وإنما أوثرت إماتة أولاده عليه الصلاة والسلام وتأثير قلبه الشريف بها إعلاء لمقامه أن يتسنمه أحد كائناً من كان، وذلك لأن فائدة إتيان النبي تتميم شيء لم يأت به من قبله، وقد حصل به صلى الله عليه وسلم التمام فلم يبق بعد ذلك مرام "بعثت لأتمم مكارم الأخلاق "وأما تجديد ما وهى بما أحدثه بعض الفسقة فالعلماء كافون فيه لوجود ما خص به صلى الله عليه وسلم من هذا القرآن المعجز الذي من سمعه فكأنما سمعه من الله، لوقوع التحقق والقطع بأنه لا يقدر غيره أن يقول شيئاً منه، فمهما حصل ذهول عن ذلك قروه من يريد الله من العلماء، فيعود الاستبصار كما روي في بعض الآثار "علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل "
{وكان الله} أي الذي له كل صفة كمال أزلاً وأبداً {بكل شيء} من ذلك وغيره {عليماً} فيعلم من يليق بالختم ومن يليق بالبدء، قال الأستاذ ولي الدين الملوي في كتابه حصن النفوس في سؤال القبر: واختصاصه صلى الله عليه وسلم بالأحمدية والمحمدية علماً وصفة برهان جلي على ختمه إذ الحمد مقرون بانقضاء الأمور مشروع عنده وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين، وقد بين السهيلي هذا في سورة الحواريين من كتاب الإعلام -انتهى. وقد بينت في سورة النحل أن مدار مادة الحمد على بلوغ الغاية وامتطاء النهاية.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(ما كان محمد أبا أحد من رجالكم) فزينب ليست حليلة ابنه، وزيد ليس ابن محمد. إنما هو ابن حارثة. ولا حرج إذن في الأمر حين ينظر إليه بعين الحقيقة الواقعة.
والعلاقة بين محمد [صلى الله عليه وسلم] وبين جميع المسلمين -ومنهم زيد بن حارثة- هي علاقة النبي بقومه، وليس هو أبا لأحد منهم:
(ولكن رسول الله وخاتم النبيين)..
ومن ثم فهو يشرع الشرائع الباقية، لتسير عليها البشرية؛ وفق آخر رسالة السماء إلى الأرض، التي لا تبديل فيها بعد ذلك ولا تغيير.
فهو الذي يعلم ما يصلح لهذه البشرية، وما يصلحها؛ وهو الذي فرض على النبي ما فرض، واختار له ما اختار. ليحل للناس أزواج أدعيائهم، إذا ما قضوا منهن وطرا، وانتهت حاجتهم منهن، وأطلقوا سراحهن.. قضى الله هذا وفق علمه بكل شيء. ومعرفته بالأصلح والأوفق من النظم والشرائع والقوانين؛ ووفق رحمته وتخيره للمؤمنين.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف للتصريح بإبطال أقوال المنافقين والذين في قلوبهم مرض وما يلقيه اليهود في نفوسهم من الشك.
وهو ناظر إلى قوله تعالى: {وما جعل أدعياءكم أبناءكم} [الأحزاب: 4]. والغرض من هذا العموم قطعُ توهّم أن يكون للنبيء صلى الله عليه وسلم ولد من الرجال تجري عليه أحكام البنوّة حتى لا يتطرق الإِرجاف والاختلاق إلى من يتزوجهن من أيامى المسلمين أصحابِه مثل أمِّ سلمة وحفصة.
و {من رجالكم} وصف ل {أحد}، وهو احتراس لأن النبي صلى الله عليه وسلم أبو بنات. والمقصود: نفي أن يكون أبا لأحد من الرجال في حين نزول الآية لأنه كان وُلد له أولادٌ أو وَلَدَان بمكة من خديجة وهم الطيّب والطاهر (أو هما اسمان لواحد) والقاسم، ووُلد له إبراهيم بالمدينة من مارية القبطية، وكلهم ماتوا صبياناً ولم يكن منهم موجود حين نزول الآية.
والمنفي هو وصف الأبوّة المباشرة لأنها الغرض الذي سيق الكلام لأجله والذي وَهِم فيه من وَهِم فلا التفات إلى كونه جَدًّا للحسن والحسين ومحسن أبناء ابنته فاطمة رضي الله عنها إذ ليس ذلك بمقصود، ولا يخطر ببال أحد نفي أبوته لهم بمعنى الأبوة العليا، أو المراد أبوّة الصلب دون أبوة الرّحم.
وإضافة (رجال) إلى ضمير المخاطبين والعدول عن تعريفه باللام لقصد توجيه الخطاب إلى الخائضين في قضية تزوج زينب إخراجاً للكلام في صيغة التغليط والتغليظ.
وأما توجيهه بأنه كالاحتراز عن أحفاده وأنه قال: {من رجالكم} وأما الأحفاد فهم من رجاله ففيه سماجة وهو أن يكون في الكلام توجيه بأن محمداً صلى الله عليه وسلم بريء من المخاطبين أعني المنافقين وليس بينه وبينهم الصلة الشبيهة بصلة الأبوة الثابتة بطريقة لحن الخطاب من قوله تعالى {وأزواجه أمهاتهم} [الأحزاب: 6] كما تقدم.
واستدراك قوله: {ولكن رسول الله} لرفع ما قد يُتوهم مِن نفي أبوته، من انفصال صلة التراحم والبّرِ بينه وبين الأمة فذُكِّروا بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كالأب لجميع أمته في شفقته ورحمته بهم، وفي برّهم وتوقيرهم إياه، شأن كل نبيء مع أمته.
والواو الداخلة على {لكن} زائدة و {لكنْ} عاطفة ولم ترد {لكن} في كلام العرب عاطفة إلاّ مقترنة بالواو كما صرح به المرادي في « شرح التسهيل». وحرف {لكن} مفيد الاستدراك.
وعَطَف صفة {وخاتم النبيئين} على صفة {رسول الله} تكميل وزيادة في التنويه بمقامه صلى الله عليه وسلم وإيماء إلى أن في انتفاء أبوته لأحد من الرجال حكمةً قدَّرها الله تعالى وهي إرادة أن لا يكون إلا مثل الرُّسل أو أفضل في جميع خصائصه.
وإذ قد كان الرسل لم يخل عمود أبنائهم من نبيء كان كونه خاتم النبيئين مقتضياً أن لا يكون له أبناء بعد وفاته لأنهم لو كانوا أحياء بعد وفاته ولم تخلع عليهم خلعة النبوءة لأجل ختم النبوءة به كان ذلك غضاً فيه دون سائر الرسل وذلك ما لا يريده الله به.
ألا ترى أن الله لما أراد قطع النبوءة من بني إسرائيل بعد عيسى عليه السّلام صرف عيسى عن التزوج.
فلا تجعل قوله: {وخاتم النبيئين} داخلاً في حيّز الاستدراك لما علمت من أنه تكميل واستطراد بمناسبة إجراء وصف الرسالة عليه. وببيان هذه الحكمة يظهر حسن موقع التذييل بجملة {وكان الله بكل شيء عليما} إذْ أظهر مقتضى حكمته فيما قدره من الأقدار كما في قوله تعالى: {جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس} إلى قوله: {ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم} [المائدة: 97].
والآية نصّ في أن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيئين وأنه لا نبيء بعده في البشر لأن النبيئين عام فخاتم النبيئين هو خاتمهم في صفة النبوءة. ولا يعكر على نصيِّة الآية أن العموم دلالتُه على الأفراد ظنية لأن ذلك لاحتمال وجود مخصّص. وقد تحققنا عدم المخصص بالاستقراء.
وقد أجمع الصحابة على أن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل والأنبياء وعُرف ذلك وتواتر بينهم وفي الأجيال من بعدهم ولذلك لم يترددوا في تكفير مسيلمة والأسود العَنْسِي فصار معلوماً من الدين بالضرورة فمن أنكره فهو كافر خارج عن الإِسلام ولو كان معترفاً بأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله للناس كلّهم.