نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٖ مِّن رِّجَالِكُمۡ وَلَٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّـۧنَۗ وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٗا} (40)

ولما أفاد هذا كله أن الدعي{[55681]} ليس ابناً ، وكانوا قد قالوا لما تزوج زينب كما رواه الترمذي{[55682]} عن عائشة رضي الله عنها : تزوج حليلة ابنه ، أخبر به سبحانه على وجه هو من أعلام النبوة وأعظم دلائل الرسالة فقال : { ما كان } أي بوجه من الوجوه مطلق كون { محمد } أي على كثرة نسائه وأولاده { أبا أحد من رجالكم } لا مجازاً بالتبني ولا حقيقة بالولادة ، ليثبت بذلك أن تحرم عليه زوجة الابن ، ولم يقل : من بينكم ، وإن لم يكن له في ذلك الوقت وهو سنة خمس وما داناها - ابن ، ذكر لعلمه سبحانه أنه سيولد له ابنه إبراهيم عليه السلام ، مع ما كان له قبله من البنين الذين لم يبلغ أحد منهم{[55683]} الحلم - على جميعهم الصلاة والسلام .

ولما كان{[55684]} بين كونه صلى الله عليه وسلم أباً لأحد من الرجال{[55685]} حقيقة وبين كونه خاتماً منافاة{[55686]} قال : { ولكن } كان في علم الله غيباً وشهادة أنه{[55687]} { رسول الله } الملك الأعظم الذي كل من{[55688]} سواه عبده ، فبينكم وبين رسوله من جهة مطلق الرسالة أبوة وبنوة مجازية ، إما{[55689]} من جهته{[55690]} فبالرأفة والرحمة والتربية والنصيحة من غير أن تحرم عليه تلك البنوة شيئاً من نسائكم وإلا لم يكن لمنصب النبوة مزية ، وأما من جهتكم فبوجوب{[55691]} التعظيم والتوقير والطاعة وحرمة الأزواج ، وأما كون الرسالة عن الله الذي لا أعظم منه{[55692]} فهو مقتض لأن يبلغ الناس عنه جميع ما أمره به ، وقد بلغكم قوله تعالى : { ادعوهم لآبائهم } ووظيفته الشريفة مقتضية لأن يكون أول مؤتمر بهذا الأمر ، فهو لا يدعو أحداً من رجالكم بعد هذا ابنه .

ولما لم يكن مطلق النبوة ولا مطلق الرسالة منافياً لأبوة الرجال قال : { وخاتم النبيين } أي لأن رسالته عامة ونبوته معها إعجاز القرآن ، فلا حاجة مع ذلك إلى استنباء ولا إرسال ، فلا يولد بعده{[55693]} من يكون نبياً ، وذلك مقتض لئلا يبلغ له ولد يولد منه{[55694]} مبلغ الرجال ، ولو قضي أن يكون بعده نبي لما كان إلا من نسله إكراماً له لأنه أعلى النبيين رتبة وأعظم شرفاً ، وليس لأحد من الأنبياء كرامة إلا وله مثلها أو أعظم منها ، ولو صار أحد من ولده رجلاً لكان نبياً بعد ظهور نبوته ، وقد قضى الله ألا يكون بعده نبي إكراماً له{[55695]} ، روى أحمد{[55696]} وابن ماجه{[55697]} عن أنس وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال{[55698]} في ابنه إبراهيم : " لو عاش لكان صديقاً نبياً " ، وللبخاري نحوه عن البراء بن عازب رضي الله عنه ، وللبخاري{[55699]} من حديث{[55700]} ابن أبي أوفى رضي الله عنه : لو قضى أن يكون بعد{[55701]} محمد صلى الله عليه وسلم نبي لعاش ابنه ، ولكن لا نبي بعده .

والحاصل أنه لا يأتي بعده نبي بشرع{[55702]} جديد مطلقاً{[55703]} ولا يتجدد بعده أيضاً{[55704]} استنباء نبي مطلقاً{[55705]} ، فقد آل الأمر إلى أن{[55706]} التقدير : ما كان محمد بحيث يتجدد بعده نبوة برسالة ولا غيرها ولكنه كان{[55707]} - مع أنه رسول الله - ختاماً للنبوة{[55708]} غير أنه سيق على الوجه المعجز لما تقدم من النكت وغيرها ، وهذه الآية مثبتة لكونه خاتماً على أبلغ وجه وأعظمه ، وذلك أنها في سياق الإنكار لأن يكون بنيه أحد من رجالهم{[55709]} بنوة حقيقية أو مجازية بغير جهة الإدلاء بأنثى أو{[55710]} كونه رسولاً وخاتماً ، صوناً لمقام النبوة أن يتجدد بعده لأحد لأنه لو كان ذلك{[55711]} بشر لم يكن إلا ولداً له ، وإنما أوثرت إماتة أولاده عليه الصلاة والسلام وتأثير قلبه الشريف بها{[55712]} إعلاء لمقامه أن يتسنمه أحد كائناً من كان ، وذلك لأن فائدة إتيان النبي تتميم{[55713]} شيء لم يأت به من قبله ، وقد حصل به صلى الله عليه وسلم التمام فلم يبق بعد ذلك مرام " بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " وأما تجديد ما وهى بما أحدثه بعض الفسقة فالعلماء كافون فيه لوجود ما خص به صلى الله عليه وسلم من هذا القرآن المعجز الذي من سمعه فكأنما سمعه من الله ، لوقوع التحقق والقطع بأنه لا يقدر غيره أن يقول شيئاً منه ، فمهما حصل ذهول{[55714]} عن ذلك قروه{[55715]} من يريد الله من العلماء ، فيعود الاستبصار كما روي في بعض الآثار{[55716]} " علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل {[55717]} " وأما إتيان عيسى عليه الصلاة والسلام بعد تجديد المهدي رضي الله عنه لجميع ما وهن{[55718]} من أركان المكارم فلأجل فتنة الدجال ثم طامة ياجوج وماجوج ونحو ذلك مما{[55719]} لا يستقل بأعبائه غير نبي ، وما أحسن ما نقل عن حسان بن ثابت رضي الله عنه في مرثيته لإبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال :

مضى ابنك محمود العواقب لم يشب *** بعيب ولم يذمم بقول ولا فعل

رأى أنه إن عاش ساواك في العلا *** فآثر أن يبقى وحيداً بلا مثل

وقال الغزالي رحمه الله في آخر كتابة الاقتصاد : إن الأمة فهمت من هذا اللفظ - أي لفظ هذه الآية - ومن قرائن أحواله صلى الله عليه وسلم أنه أفهم عدم نبي بعده أبداً ، وعدم رسول بعده أبداً ، وأنه ليس فيه تأويل ولا تخصيص ، وقال : إن من أوله بتخصيص النبيين بأولي العزم من الرسل ونحو هذا فكلامه ، من أنواع الهذيان ، لا يمنع الحكم بتكفيره ، لأنه مكذب بهذا النص الذي أجمع الأمة على أنه غير مأول ولا مخصوص هذا كلامه في كتاب الاقتصاد ، نقلته منه بغير واسطة ولا تقليد ، فإياك أن تصغي إلى من نقل عنه غير هذا ، فإنه تحريف يحاشي حجة الإسلام عنه :

وكم من عائب قولاً صحيحاً *** وآفته من الفهم السقيم

وقد بان بهذا أن إتيان عيسى عليه الصلاة والسلام غير{[55720]} قادح في هذا النص ، فإنه من أمته صلى الله عليه وسلم المقررين لشريعته ، وهو قد كان نبياً قبله لم يستجد له شيء لم يكن ، فلم يكن{[55721]} ذلك قادحاً في الختم وهو مثبت لشرف نبيناً صلى الله عليه وسلم ، لولا هو لما وجد ، وذلك أنه لم يكن لنبي{[55722]} من الأنبياء شرف إلا وله صلى الله عليه وسلم مثله أو أعلى منه ، وقد كانت الأنبياء تأتي مقررة لشريعة موسى عليه الصلاة والسلام مجددة لها ، فكان المقرر لشريعة نبينا صلى الله عليه وسلم المتبع لملته من كان ناسخاً لشريعة موسى عليه الصلاة والسلام .

ولما كان المقام في هذا البت{[55723]} بأنه لا يكون له ولد يصير رجلاً مقام إحاطة العلم ، كان التقدير : لأنه سبحانه أحاط علماً بأنه على كثرة نسائه وتعدد أولاده لا يولد له ولد ذكر فيصير رجلاً { وكان الله } أي{[55724]} الذي له {[55725]}كل صفة{[55726]} كمال أزلاً وأبداً { {[55727]}بكل شيء } من ذلك وغيره { عليماً } فيعلم من يليق بالختم ومن يليق بالبدء{[55728]} ، قال الأستاذ ولي الدين الملوي{[55729]} في كتابه حصن النفوس في سؤال القبر : واختصاصه صلى الله عليه وسلم بالأحمدية والمحمدية علماً وصفة برهان{[55730]} جلي على ختمه إذ الحمد مقرون بانقضاء الأمور مشروع عنده{[55731]} وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ، وقد بين السهيلي هذا في سورة الحواريين من كتاب الإعلام - انتهى . وقد بينت في سورة النحل أن مدار{[55732]} مادة الحمد على بلوغ الغاية وامتطاء النهاية .


[55681]:من ظ ومد، وفي الأصل: الداعي.
[55682]:راجع جامعه 2/152.
[55683]:سقط من ظ.
[55684]:زيد من ظ ومد.
[55685]:من ظ ومد، وفي الأصل: رجال.
[55686]:من ظ ومد، وفي الأصل: مساواة.
[55687]:سقط من ظ ومد.
[55688]:من ظ ومد، وفي الأصل: ما.
[55689]:من ظ ومد، وفي الأصل: أبا.
[55690]:من ظ ومد، وفي الأصل: جهة.
[55691]:من ظ ومد، وفي الأصل: بنوجرت ـ كذا مصحفا.
[55692]:زيد من ظ ومد.
[55693]:من ظ ومد، وفي الأصل: بعد.
[55694]:زيد من ظ ومد.
[55695]:زيد من ظ ومد.
[55696]:راجع مسنده 3/138 و281.
[55697]:راجع أبواب الجنائز من سننه.
[55698]:من ظ ومد، وفي الأصل: قاله.
[55699]:راجع من صحيحه 2/914.
[55700]:من ظ ومد، وفي الأصل: طريق.
[55701]:في ظ: من.
[55702]:من ظ ومد، وفي الأصل: شرع.
[55703]:تقدم في ظ ومد على: نبي بشرع.
[55704]:سقط من ظ ومد.
[55705]:تقدم في ظ على "أيضا".
[55706]:زيد من ظ ومد.
[55707]:زيد من ظ ومد.
[55708]:في ظ ومد: للنبوات.
[55709]:في ظ: رجالكم.
[55710]:زيد من ظ ومد.
[55711]:زيد من ظ ومد.
[55712]:زيد من ظ ومد.
[55713]:في ظ: إتمام.
[55714]:من ظ ومد، وفي الأصل: وهون.
[55715]:من ظ ومد، وفي الأصل: قدره.
[55716]:زيد من ظ ومد.
[55717]:والحديث من الشهرة بحيث لا يحتاج إلى التعليق.
[55718]:في مد: وهي.
[55719]:من ظ ومد، وفي الأصل: ما.
[55720]:زيد من ظ ومد.
[55721]:زيد من ظ ومد.
[55722]:من ظ ومد، وفي الأصل: لشيء.
[55723]:من ظ ومد، وفي الأصل: البيت.
[55724]:زيد من ظ ومد.
[55725]:من ظ ومد، وفي الأصل: صفة كل.
[55726]:من ظ ومد، وفي الأصل: صفة كل
[55727]:تكرر في الأصل فقط بعد "وكان الله".
[55728]:من ظ ومد، وفي الأصل: بالبداة.
[55729]:هو محمد بن أحمد بن عثمان العثماني الديباجي الملوي ولي الدين أبو عبد الله المتوفى 774 هـ ـ معجم المؤلفين 8/289.
[55730]:زيد في الأصل: الدين، ولم تكن الزيادة في ظ ومد فحذفناها.
[55731]:زيد من ظ ومد.
[55732]:زيد من ظ ومد.