اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٖ مِّن رِّجَالِكُمۡ وَلَٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّـۧنَۗ وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٗا} (40)

قوله : { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِن رِجَالِكُمْ } لما تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - زينب قال الناس : إن محمداً تزوج امرأة ابنه فأنزل الله - عز وجل{[43624]} - { ما كان محمد أبا أحد من رجالكم } يعني زيد بن حارثة أي ليس أبا أحد من رجالكم الذين لم يلده فيحرم عليه نكاح زوجته بعد فراقه إياها . فإن قيل : أليس أنه كان له أبناء القاسمُ والمطهرُ ، وإبراهيم ، والطَّيِّبُ ، وكذلك الحَسَنُ ، الحُسَيْنُ ، قال - عليه ( الصلاة{[43625]} و ) السلام - : «إن ابني هذا سيد ؟ » .

فالجواب : هؤلاء كانوا صغاراً ولم يكونوا رجالاً ، والصحيح أنه أراد أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُم الذي لم يلده{[43626]} .

قوله : { ولكن رَسُولَ الله } العامة على تخفيف «لكن » ونصب «رسول » ، ونصبه إما على إضمار «كَانَ » لدلالة «كان » السابقة عليها ، أي ولكن كَانَ{[43627]} ، وإما بالعطف على{[43628]} «أَبَا أَحَدٍ » : والأول أليق ؛ لأن «لكن » ليست عاطفة لأجل الواو ، فالأليق بها أن تدخل على الجمل «كبل » التي ليست عاطفة{[43629]} . وقرأ أَبُو عَمْرٍو - في رواية - بتشديدها{[43630]} ، على أن «رسول الله » اسمها وخبرها محذوف للدلالة ، أي ولكن رسول الله هُوَ أي محمد ، وحذف خبرها سائغ وأنشد :

4094 - فَلَوْ كُنْتَ ضبّيّاً عَرَفْتَ قَرَابَتِي *** وَلَكِنَّ زِنْجِيّاً عَظِيمَ المَشَافِرِ{[43631]}

أي أنت ، وهذا البيت يروونه أيضاً «ولكن زِنْجِيٌّ » بالرفع ، شاهداً على حذف اسمها ، أي «ولكنك » .

وقرأ زيد بن علي ، وابن أبي عبلة بتخفيفها{[43632]} ورفع «رسول » على الابتداء ، والخبر مقدر أي هو ، أو بالعكس أي ولكن هُوَ رَسُولُ كقوله :

4094 - وَلَسْت الشَّاعِرَ السِّفْسَافَ فِيهِمْ *** وَلَكن مِدْرَهَ الحَرْبِ العَوَانِ{[43633]}

أي ولكن أنا مدره .

قوله : «وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ » قرأ عاصم بفتح التاء{[43634]} والباقون بكسرها ، فالفتح اسم للآلة التي يختم{[43635]} بها كالطَّابَع والقَالَب ، لما يطبع به ، ويقلب فيه هذا هو المشهور ، وذكر أبو البقاء فيه أَوْجُهاً أُخَرَ منها أنه في معنى المصدر قال : كذا{[43636]} ذكر في بعض الأعاريب ، قال شهاب الدين : وهو غلط{[43637]} محض كيف وهو مُحْوِجٌ{[43638]} إلى تَجَوُّزٍ أو إضْمار ، ولو حكى هذا في خَاتِم - بالكسر - لكان أقرب ، لأن قد يجيء المصدر على فاعل وفاعلة وسيأتي ذلك قريباً ، ومنها أنه اسم بمعنى{[43639]} «آخَرَ » ومنها أنه فعل ماض مثل «قَاتَل » فيكون «النَّبِيِّينَ » مفعولاً به ، قال شهاب الدين : ويؤيد هذا قراءة عبد الله المتقدمة{[43640]} . وقال بعضهم هو بمعنى المفتوح يعني بمعنى آخرهم لأنه قد ختم النبيين فهو خَاتم{[43641]} .

فصل :

قال ابن عباس : يريد لو لم أَختم به النبيين لجعلت له ابناً{[43642]} يكون من بعده نبيّاً ، وروى عطاء عن ابن عباس : أن الله تعالى لما حكم أنه لا نبي بعده لم يُعْطِهِ ولداً ذكراً يصير رَجُلاً{[43643]} ، وقيل : من لا نبي بعده يكون أشفق على أمته وأهدى لهم إذ هو كالوالد لولد ليس له غيره{[43644]} . { وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } أي علمه بكل شيء دخل فيه أن لا نبي بعده ، فعلم أن من الحكمة إكمال شرع محمد عليه ( الصلاة{[43645]} و ) السلام أن زوجه بزوجة{[43646]} دعيِّه تكميلاً للشرع ، وذلك من حيث إنَّ قول النبي – عليه الصلاة والسلام - يفيد شرعاً لكن إذا امتنع هو عنه يفيد في بعض النفوس نُفْرة ، ألا ترى أنه ذكر بقوله ما فهم منه حِلّ أكل الضَّبِّ ، ثم لما لم يأكله بَقِيَ في النفوس شيء ، ولما أكل لحم الجمل طاب أكله ، مع أنه في بعض الملل لا يؤكل وكذلك الأرنب{[43647]} ، روى أبو هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : «مَثَلِي ومَثَلُ الأنبياء كَمَثَلِ قَصْرِ أُحْكِمَ بُنْيَانُهُ تُرِكَ مِنْهُ مَوْضِعُ لَبِنَةٍ فَطَافَ بِهِ النُّظَّارُ يَتَعَجَّبُونَ مِنْ حُسْنِ بِنَائِهِ إِلاَّ مَوْضِعَ تِلْكَ اللَّبِنَةِ لاَ يُجِيبُونَ سِوَاهَا فَكُنْت أنَا مَوْضِع تِلْكَ اللَّبِنَةِ خُتِمَ بِهِ البُنْيَانُ ، وَخُتِمَ بِي الرُّشْدُ »{[43648]} ، وقال - عليه ( الصلاة{[43649]} و ) السلام : «إنَّ لِي{[43650]} أسْمَاءَ أَنَا مُحَمَّدٌ ، وَأَنَا أَحْمَدُ ، وَأَنَا الماحِي يَمْحُو اللَّهُ بِيَ الكُفْرَ ، وَأَنَا الحَاشِرُ الَّذِي يَحْشُرُ اللَّهُ النَّاسَ عَلَى قَدَمِيَ وأَنَا العَاقِبُ » والعاقِبُ الَّذي لَيْسَ بَعْدَهُ شَيْءٌ .


[43624]:قاله القرطبي في الجامع الكبير 14/196 وابن الجوزي في الزاد 6/393.
[43625]:زيادة من "ب".
[43626]:قاله القرطبي في المرجع السابق وانظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج 4/229 و 230 والخازن 5/264 و 365 والبغوي 5/264 و 265 وفيه "الذين لم يلدهم" بلفظ الجمع.
[43627]:هذا رأي أبي الحسن الأخفش فقد قال في المعاني 2/660: " أي ولكن كان رسول الله" واستحسن رأيه ابن الأنباري في غريب إعراب القرآن 2/270 وانظر: الدر للسمين 4/391 وإعراب القرآن للزجاج 4/230 والتبيان 1058 ومعاني الفراء 2/344.
[43628]:قاله أبو حيان في البحر 7/236 والسمين في الدر 4/391.
[43629]:المرجع السابق.
[43630]:مختصر ابن خالويه 120 والمحتسب 2/181 وهي من الشَّواذِّ.
[43631]:البيت من الطويل يهجو به رجلاً من "ضبة" وهو للفرزدق والمشافر جمع مشفر وهو من البعير كالشفة للإنسان وشاهده: ولكنَّ زِنْجِياً، حيث حذف خبر "لكن" أي "لا يَعْرِفُ قَرَابَتِي"، وإذا رفع زِنْجِيٌّ فإن المحذوف هو الاسم، والبيت لا يوجد بديوان الفرزدق وانظر: الكتاب 2/136 والبحر 7/236، والإفصاح 213 والمحتسب 2/182 والإنصاف 182 وأسرار البلاغة 129 وابن يعيش 8/81 والهمع 1/136 ومجالس ثعلب 105، وأمالي السهيلي 116، وتمهيد القواعد 2/117، واللسان "شفر" والمقرب 1/108، والمغني 291 وشرح شواهده للسيوطي 701 والمنصف 3/129 وقد وجد بديوانه بلفظ "مشافره".
[43632]:ذكر تلك القراءة الشاذة ابن خالويه في المختصر 120 وانظر: معاني الفراء 2/344 والبحر المحيط 7/236 والأخفش في معانيه 660.
[43633]:البيت من تمام الوافر وهو مجهول القائل. وقد تقدم.
[43634]:الحجة لابن خالويه 290 والنشر 2/348 وتقريبه 161 والسبعة 524 والإتحاف 355.
[43635]:انظر: اللسان: "خ ت م " 1101.
[43636]:التبيان 1058.
[43637]:الدر المصون 4/392.
[43638]:وفيه: "يحوج" بالمضارعة.
[43639]:المرجعان السابقان.
[43640]:لم يذكر المؤلف تقدماً لتلك القراءة وهي: "وخَتَمَ النَّبِيِّينَ" بلفظ الماضي وهي قراءة ابن مسعود ومن حذا حذوه، وانظر: مختصر ابن خالويه 120 ومعاني الفراء 2/244.
[43641]:المرجعان السابقان.
[43642]:نقله في زاد المسير 6/393.
[43643]:ذكره الخازن والبغوي في تفسيريهما 5/265.
[43644]:ذكره الفخر الرازي 25/214.
[43645]:زيادة من "ب".
[43646]:في "ب" بزوجته وما هنا هو الموافق لتفسير الرازي.
[43647]:قاله الإمام الرازي في التفسير الكبير 25/214.
[43648]:الحديث رواه الإمام السيوطي في كتابه: "جامع الأحاديث" عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. وانظر: كذلك مجمع البيان للطبرسي 8/567.
[43649]:زيادة من "ب".
[43650]:الحديث رواه جابر بن مطعم عن النبي – صلى الله عليه وسلم- ولقد أورده الإمام البخاري في صحيحه 3/201، والإمام مالك في الموطأ رقم "1" من أسماء النبي وأورده أحمد في مسنده 4/80 و 81 و 84.