المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{هَلۡ يَنظُرُونَ إِلَّآ أَن تَأۡتِيَهُمُ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ أَوۡ يَأۡتِيَ رَبُّكَ أَوۡ يَأۡتِيَ بَعۡضُ ءَايَٰتِ رَبِّكَۗ يَوۡمَ يَأۡتِي بَعۡضُ ءَايَٰتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفۡسًا إِيمَٰنُهَا لَمۡ تَكُنۡ ءَامَنَتۡ مِن قَبۡلُ أَوۡ كَسَبَتۡ فِيٓ إِيمَٰنِهَا خَيۡرٗاۗ قُلِ ٱنتَظِرُوٓاْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ} (158)

الضمير في { ينظرون } هو للطائفة التي قيل لها قبلك فقد جاءكم بينة من ربكم ، وهم العادلون بربهم من العرب الذين مضت أكثر آيات السورة في جدالهم ، و { ينظرون } معناه ينتظرون ، و { الملائكة } هنا يراد بها ملائكة الموت الذين يصحبون عزرائيل المخصوص بقبض الأرواح ، قاله مجاهد وقتادة وابن جريج . ويحتمل أن يريد الملائكة الذين يتصرفون في قيام الساعة ، وقرأ حمزة والكسائي «إلا أن يأتيهم » بالياء ، وقرأ الباقون «تأتيهم » بالتاء من فوق ، وقوله { أو يأتي ربك } قال الطبري : لموقف الحساب يوم القيامة ، وأسند ذلك إلى قتادة وجماعة من المتأولين ، ويحكي الزجاج أن المراد بقوله { أو يأتي ربك } أي العذاب الذي يسلطه الله في الدنيا على من يشاء من عباده كالصيحات والرجفات والخسف ونحوه .

قال القاضي أبو محمد : وهذا الكلام على كل تأويل فإنما هو بحذف مضاف تقديره أمر ربك أو بطش ربك أو حساب ربك وإلا فالإتيان المفهوم من اللغة مستحيل في حق الله تعالى ، ألا ترى أن الله تعالى يقول { فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا }{[5163]} فهذا إتيان قد وقع وهو على المجاز وحذف المضاف ، وقوله : { أو يأتي بعض آيات ربك } أما ظاهر اللفظ لو وقفنا معه فيقتضي أنه توعدهم بالشهير الفظيع من أشراط الساعة دون أن يخص من ذلك شرطاً يريد بذلك الإبهام الذي يترك السامع مع أقوى تخيله ، لكن لما قال بعد ذلك { يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها } وبينت الآثار الصحاح في البخاري ومسلم أن الآية التي معها هذا الشرط هي طلوع الشمس من المغرب ، قوى أن الإشارة بقوله : { أو يأتي بعض آيات ربك } إنما هي إلى طلوع الشمس من مغربها ، وقال بهذا التأويل مجاهد وقتادة والسدي وغيرهم ، ويقوي أيضاً أن تكون الإشارة إلى غرغرة الإنسان عند الموت أو ما يكون في مثابتها لمن لم يغرغر{[5164]} .

ففي الحديث «أن توبة العبد تقبل مالم يغرغر » ، وهذا إجماع لأن من غرغر وعاين فهو في عداد الموتى ، وكون المرء في هذه الحالة من آيات الله تعالى ، وهذا على من يرى الملائكة المتصرفين في قيام الساعة .

قال القاضي أبو محمد : فمقصد هذه الآية تهديد الكافرين بأحوال لا يخلون منها كأنه قال : هل ينظرون مع إقامتهم على الكفر إلا الموت الذي لهم بعده أشد العذاب ، والأخذات المعهودة لله عز وجل ، أو الآيات التي ترفع التوبة وتعلم بقرب القيامة .

قال القاضي أبو محمد : ويصح أن يريد بقوله : { أو يأتي بعض آيات ربك } جميع ما يقطع بوقوعه من أشراط الساعة ثم خصص بعد ذلك بقوله : { يوم يأتي بعض آيات ربك } الآية التي ترفع التوبة معها ، وقد بينت الأحاديث أنها طلوع الشمس من مغربها{[5165]} ، وقرأ زهير الفرقبي{[5166]} «يومُ يأتي » بالرفع وهو على الابتداء والخبر في الجملة التي هي «لا ينفع » إلى آخر الآية ، والعائد من الجملة محذوف لطول الكلام وقرأ ابن سيرين وعبد الله بن عمرو وأبو العالية «لا تنفع » بتاء ، وأنث الإيمان بما أضيف إلى مؤنث .

أو لما نزل منزلة التوبة ، وقال جمهور أهل التأويل كما تقدم الآية التي لا تنفع التوبة من الشرك أو من المعاصي بعدها ، هي طلوع الشمس عن المغرب .

وروي عن ابن مسعود أنها إحدى ثلاث ، إما طلوع الشمس من مغربها ، وإما خروج الدابة ، وإما خروج يأجوج ومأجوج{[5167]} .

قال أبو محمد : وهذا فيه نظر لأن الأحاديث ترده وتخصص الشمس .

وروي في هذا الحديث أن الشمس تجري كل يوم حتى تسجد تحت العرش وتستأذن فيؤذن لها في طلوع المشرق ، وحتى إذا أراد الله عز وجل سد باب التوبة أمرها بالطلوع من مغربها{[5168]} ، قال ابن مسعود وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فتطلع هي والقمر كالبعيرين القرينين{[5169]} ، ويقوي النظر أيضاً أن الغرغرة هي الآية التي ترفع معها التوبة ، وقوله { أو كسبت في إيمانها خيراً } يريد جميع أعمال البر فرضها ونفلها ، وهذا الفصل هو للعصاة المؤمنين كما قوله { لم تكن آمنت من قبل } هو للكفار ، والآية المشار إليها تقطع توبة الصنفين ، وقرأ أبو هريرة «أو كسبت في إيمانها صالحاً » وقوله تعالى : { قل انتظروا } الآية تتضمن الوعيد أي فسترون من يحق كلامه ويتضح ما أخبر به .


[5163]:- من الآية (2) من سورة (الحشر).
[5164]:- الحديث بلفظ (إن الله عز وجل ليقبل توبة العبد ما لم يغرغر) أخرجه الترمذي في الدعوات، وابن ماجة في الزهد، والإمام أحمد في أكثر من موضع. (المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي). ومعنى يغرغر: تبلغ روحه رأس حلقه. قاله القرطبي.
[5165]:- منها ما رواه أحمد، وعبد بن حميد، والترمذي، وأبو يعلى، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه- عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {يوم يأتي بعض آيات ربك) قال: (طلوع الشمس من مغربها)، وأخرج مثله الطبراني، وابن عدي، وابن مردويه- عن أبي هريرة، والأحاديث في ذلك كثيرة.
[5166]:- زهير الفرقبي بضم الفاء وسكون الراء- يعرف بالنحوي، وقيل له: الفرقبي لأنه كان يتاجر إلى ناحية فرقب، له اختيار في القراءة وكان في زمن عاصم. مات سنة 156، وقيل: 155 (راجع طبقات القراء).
[5167]:- في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانُها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا: طلوع الشمس من مغربها والدجّال ودابة الأرض).
[5168]:- أخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، ومسلم، وعبد بن حميد، وغيرهم- عن عبد الله ابن عمرو قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة ضحى، فأيتهما كانت قبل صاحبتها =فالأخرى على أثرها، ثم قال عبد الله- وكان قد قرأ الكتب- وأظن أولهما خروجا طلوع الشمس من مغربها، وذلك أنها كلماخرجت أتت تحت العرش فسجدت واستأذنت في الرجوع- إلى آخر الحديث وهو طويل. (الدر المنثور).
[5169]:- أخرجه سعيد بن منصور، والفريابي، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ والطبراني- عن ابن مسعود. (الدر المنثور)
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{هَلۡ يَنظُرُونَ إِلَّآ أَن تَأۡتِيَهُمُ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ أَوۡ يَأۡتِيَ رَبُّكَ أَوۡ يَأۡتِيَ بَعۡضُ ءَايَٰتِ رَبِّكَۗ يَوۡمَ يَأۡتِي بَعۡضُ ءَايَٰتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفۡسًا إِيمَٰنُهَا لَمۡ تَكُنۡ ءَامَنَتۡ مِن قَبۡلُ أَوۡ كَسَبَتۡ فِيٓ إِيمَٰنِهَا خَيۡرٗاۗ قُلِ ٱنتَظِرُوٓاْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ} (158)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول جلّ ثناؤه: هل ينتظر هؤلاء العادلون بربهم الأوثان والأصنام، إلا أن تأتيهم الملائكة بالموت فتقبض أرواحهم، أو أن يأتيهم ربك يا محمد بين خلقه في موقف القيامة "أوْ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبّكَ "يقول: أو أن يأتيهم بعض آيات ربك وذلك فيما قال أهل التأويل: طلوع الشمس من مغربها... أو ما شاء الله...

"يَوْمَ يَأْتي بَعْضُ آياتِ رَبّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسا إيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أوْ كَسَبَتْ في إيمانِها خَيْرا" يقول تعالى ذكره: يوم يأتي بعض آيات ربك، لا ينفع من كان قبل ذلك مشركا بالله أن يؤمن بعد مجيء تلك الآية. وقيل: إن تلك الآية التي أخبر الله جلّ ثناؤه أن الكافر لا ينفعه إيمانه عند مجيئها: طلوع الشمس من مغربها...

حدثني عيسى بن عثمان الرملي، قال: حدثنا يحيى بن عيسى، عن ابن أبي ليلى، عن عطية، عن أبي سعيد الخدريّ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسا إيمانُها قال: «طُلُوعُ الشّمْسِ مِنْ مَغْرِبها»..ز

وقال آخرون: بل ذلك بعض الآيات الثلاثة: الدابة، ويأجوج ومأجوج، وطلوع الشمس من مغربها... حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن فضيل، عن أبيه، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثَلاثٌ إذَا خَرَجَتْ لا يَنْفَعُ نَفْسا إيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أوْ كَسَبَتْ فِي إيمانِها خَيْرا: طُلُوع الشّمْسِ مِنْ مَغْرِبها، وَالدّجّالُ، وَدَابّةُ الأرْضِ»...

وأولى الأقوال بالصواب في ذلك، ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ذَلِكَ حِينَ تطلع الشمسُ من مغربها».

وأما قوله: "أوْ كَسَبَتْ فِي إيمانِها خَيْرا" فإنه يعني: أو عملت في تصديقها بالله خيرا من عمل صالح تصدق قيله، وتحققه من قبل طلوع الشمس من مغربها، لا ينفع كافرا لم يكن آمن بالله قبل طلوعها، كذلك إيمانه بالله إن آمن وصدّق بالله ورسله، لأنها حالة لا تمتنع نفس من الإقرار بالله العظيم الهول الوارد عليهم من أمر الله، فحكم إيمانهم كحكم إيمانهم عند قيام الساعة وتلك حال لا يمتنع الخلق من الإقرار بوحدانية الله لمعاينتهم من أهوال ذلك اليوم ما ترتفع معه حاجتهم إلى الفكر والاستدلال والبحث والاعتبار، ولا ينفع من كان بالله وبرسله مصدّقا ولفرائض الله مضيعا غير مكتسب بجوارحه لله طاعة إذا هي طلعت من مغربها أعماله إن عمل، وكسبه إن اكتسب، لتفريطه الذي سلف قبل طلوعها في ذلك... عن السديّ "يَوْمَ يأْتي بَعْضُ آياتِ رَبّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسا إيمانها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أوْ كَسَبَتْ فِي إيمانِها خَيْرا" يقول: كسبت في تصديقها خيرا: عملاً صالحا، فهؤلاء أهل القبلة، وإن كانت مصدّقة ولم تعمل قبل ذلك خيرا فعملت بعد أن رأت الآية لم يقبل منها. وإن عملت قبل الآية خيرا ثم عملت بعد الآية خيرا، قُبِل منها...

"قُلِ انْتَظِرُوا إنّا مُنْتَظِرُونَ" يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنام: انتظروا أن تأتيكم الملائكة بالموت، فتقبض أرواحكم، أو أن يأتي ربك لفصل القضاء بيننا وبينكم في موقف القيامة، أو أن يأتيكم طلوع الشمس من مغربها، فتُطوى صحائف الأعمال، ولا ينفعكم إيمانكم حينئذٍ إن آمنتم، حتى تعلموا حنيئذٍ المحقّ منا من المبطل، والمسيء من المحسن، والصادق من الكاذب، وتتبينوا عند ذلك بمن يحيق عذاب الله وأليم نكاله، ومَن الناجي منا ومنكم ومَن الهالك، إنا منتظرو ذلك، ليجزل الله لنا ثوابه على طاعتنا إياه، وإخلاصنا العبادة له، وإفرادناه بالربوبية دون ما سواه، ويفصل بيننا وبينكم بالحقّ، وهو خير الفاصلين.

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

ومعنى الآية: الحث على المبادرة إلى الإيمان قبل الحال التي لا تقبل فيها التوبة، وهي ظهور الآيات التي تقدم ذكرها، وفي ذلك غاية التهديد...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

الضمير في {ينظرون} هو للطائفة التي قيل لها قبلك فقد جاءكم بينة من ربكم، وهم العادلون بربهم من العرب الذين مضت أكثر آيات السورة في جدالهم، و {ينظرون} معناه ينتظرون، و {الملائكة} هنا يراد بها ملائكة الموت... ويحتمل أن يريد الملائكة الذين يتصرفون في قيام الساعة... وقوله {أو يأتي ربك}...يحكي الزجاج أن المراد بقوله {أو يأتي ربك} أي العذاب الذي يسلطه الله في الدنيا على من يشاء من عباده كالصيحات والرجفات والخسف ونحوه...

وهذا الكلام على كل تأويل فإنما هو بحذف مضاف تقديره أمر ربك أو بطش ربك أو حساب ربك وإلا فالإتيان المفهوم من اللغة مستحيل في حق الله تعالى، ألا ترى أن الله تعالى يقول {فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا} 1 فهذا إتيان قد وقع وهو على المجاز وحذف المضاف...

فمقصد هذه الآية تهديد الكافرين بأحوال لا يخلون منها كأنه قال: هل ينظرون مع إقامتهم على الكفر إلا الموت الذي لهم بعده أشد العذاب، والأخذات المعهودة لله عز وجل، أو الآيات التي ترفع التوبة وتعلم بقرب القيامة.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

اعلم أنه تعالى لما بين أنه إنما أنزل الكتاب إزالة للعذر، وإزاحة للعلة، وبين أنهم لا يؤمنون البتة وشرح أحوالا توجب اليأس عن دخولهم في الإيمان فقال: {هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة} ونظير هذه الآية قوله في سورة البقرة: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام} ومعنى ينظرون: ينتظرون، وهل استفهام معناه النفي، وتقدير الآية: إنهم لا يؤمنون بك إلا إذا جاءهم أحد هذه الأمور الثلاثة، وهي مجيء الملائكة، أو مجيء الرب، أو مجيء الآيات القاهرة من الرب...

ثم قال تعالى: {يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل} وأجمعوا على أن المراد بهذه الآيات علامات القيامة... وقوله: {لم تكن آمنت من قبل} صفة لقوله: {نفسا} وقوله: {أو كسبت في إيمانها خيرا} صفة ثانية معطوفة على الصفة الأولى، والمعنى: أن أشراط الساعة إذا ظهرت ذهب أوان التكليف عندها، فلم ينفع الإيمان نفسا ما آمنت قبل ذلك، وما كسبت في إيمانها خيرا قبل ذلك.

ثم قال تعالى: {قل انتظروا إنا منتظرون} وعيد وتهديد.

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

يقول تعالى متوعدًا للكافرين به، والمخالفين رسله والمكذبين بآياته، والصادين عن سبيله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} وذلك كائن يوم القيامة. {أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ [يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ]} 8 الآية، وذلك قبل يوم القيامة كائن من أمارات الساعة وأشراطها...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

بين الله تعالى في السياق الأخير من هذه السورة أصول الدين في الآداب والفضائل، في أثر تفصيل السورة لجميع أصول العقائد وقفى على ذلك بالإعذار إلى كفار مكة ومن يتبعهم من العرب الذين كانوا يقسمون بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم المجاورة لهم من أهل الكتاب فلما جاءهم النذير استكبروا وزادوا نفورا عن الإيمان، وقرن هذا الإعذار بالإنذار الشديد والوعيد بسوء العذاب في الآية التي قبل هذه الآية وفي هذه أيضا، فإنه حصر فيها ما أمامهم وأمام غيرهم من الأمم بما يعرفهم بحقيقة ما ينتظرون في مستقبل أمرهم وأنه غير ما يتمنون من موت الرسول وانطفاء نور الإسلام بموته صلوات الله وسلامه عليه فقال: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} أي أنهم لا ينتظرون إلا أحد هذه الثلاثة بمعنى أنه ليس أمامهم غاية ينتهون إليها في نفس الأمر أو بحسب سنن الله في الخلق إلا أن تأتيهم وقرأ حمزة والكسائي يأتيهم الملائكة أي ملائكة الموت لقبض أرواحهم فرادى أو ملائكة العذاب لاستئصالهم (هذا الأخير خاص بالأمم التي يعاند الرسل سوادها الأعظم بعد أن يأتوها بالآيات المقترحة) أو يأتي ربك أيها الرسول. قيل إن إتيان الرب تعالى عبارة عن إتيان ما وعد به النبي صلى الله عليه وسلم من النصر وأوعد به أعداءه من عذابه إياهم في الدنيا كما قال في الذين ظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله {فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا} (الحشر 2) الآية، وقيل إتيان أمره بالعذاب أو الجزاء مطلقا. فههنا مقدر دل عليه قوله في سورة النحل التي تشابه هذه السورة في أكثر مسائلها {هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك؟ كذلك فعل الذين من قلبهم وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} (النحل 33) وقيل بل المراد إتيانه سبحانه وتعالى بذاته في الآخرة بغير كيف ولا شبه ولا نظير، وتعرفه إلى عباده ومعرفة أهل الإيمان الصحيح إياه. وروي عن ابن مسعود "هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة "قال عند الموت "أو يأتي ربك" قال يوم القيامة. وعن قتادة مثله، وعن مقاتل في قوله "أو يأتي ربك" قال يوم القيامة في ظلل من الغمام.

وقد بينا هذا الوجه في تفسير قوله تعالى: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة} (البقرة 209) ونقلنا فيه عن الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى قولا نفيسا فليراجع (ج 2 تفسير) ولكن يضعف هذا الوجه هنا ذكره ثانيا، ولو كان هو المراد لجعل الأخير لأنه آخر ما ينتظر أو الأول لعظم شأنه.

وجوز بعض المفسرين أن يكون هذا الانتظار بحسب ما في أذهانهم لا بحسب الواقع فإنهم اقترحوا إنزال الملائكة عليهم ورؤية ربهم. وعلى هذا يكون إتيان بعض آيات الرب ما اقترحوه غير هذين، كنزول كتاب من السماء يقرؤونه وكتفجير ينبوع من الأرض بمكة، ويكون الاستفهام للتهكم لأن اقتراحهم كان للتعجيز. وأما على القول الذي جرينا عليه تبعا للجمهور من أن هذه الثلاث هي ما ينتظرونه كغيرهم في نفس الأمر فلا يصح أن يراد بهذا البعض شيء مما اقترحوه لأن إيتاء الآيات المقترحة على الرسل يقتضي في سنة الله هلاك الأمة بعذاب الاستئصال إذا لم تؤمن به كما قال تعالى: {فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده} (غافر 85) والله لا يهلك أمة نبي الرحمة. بل يصدق هذا بكل آية تدل على صدق الرسول أو بما يحصل لرائيها اليأس من الحياة أو الإيمان القهري الذي لا كسب له فيه ولا اختيار. ولذلك قال في بيان ذلك البعض بما يترتب عليه:

{يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} أي يوم يأتي بعض آيات ربك الموجبة للإيمان الاضطراري لا ينفع نفسا لم تكن آمنت من قبل إتيانها إيمانها بعده في ذلك اليوم، ولا نفسا لم تكن كسبت في إيمانها خيرا وعملا صالحا ما عساها من خير فيه، لبطلان التكليف الذي يترتب عليه ثواب الإيمان والعمل الصالح، فإنه أي التكليف مبني على ما وهب الله المكلف من الإرادة والاختيار بالتمكن من الإيمان والكفر وعمل الخير والشر وإنما الثواب والعقاب مبني على هذا التكليف. والبعض من هذه الآيات قد يطلع عليه الأفراد عند الغرغرة قبيل خروج الروح وهي القيامة الصغرى، ولا تراها الأمم كلها إلا قبيل قيام القيامة الكبرى، فإن لها آيات كآيات الموت بعضها ظني وبعضها قطعي، يترتب عليه حصول الإيمان القهري وفي الآية من الإيجاز البليغ ما ترى، فإن الفصل بين كلمة "نفسا" الدالة على الشمول لكونها نكرة في سياق النفي وبين صفتها التي هي جملة "لم تكن آمنت" إلخ بالفاعل وهو "إيمانها" وعطف جملة "أو كسبت في إيمانها خيرا" عليها قد أغنى عن التصريح بما بسطنا به المعنى آنفا.

وقد روي في أحاديث منها الصحيح السند والضعيف الذي لا يحتج به وحده بأن هذه الآية التي أبهمت وأضيفت إلى الرب تعالى لتعظيم شأنها وتهويله هي طلوع الشمس من مغربها قبيل تلك القارعة الصاخبة التي ترج الأرض رجا، وتبث الجبال بثا، فتكون هباء منبثا، إذا الشمس كورت، وإذا الكواكب انتثرت وبطل هذا النظام الشمسي. وقد كان طلوع الشمس من مغربها بعيدا عن المألوف المعقول ولا سيما معقول من كانوا يقولون بما تقول فلاسفة اليونان في الأفلاك والعقول، وأما علماء الهيئة الفلكية في هذا العصر فلا يتعذر على عقولهم أن تتصور حادثا تتحول فيه حركة الأرض اليومية فيكون الشرق غربا والغرب شرقا، ولا ندري أيستلزم ذلك تغييرا آخر في النظام الشمسي أم لا. وقد ورد في المأثور ما يؤيد هذا التوجيه فقد أخرج البخاري في تاريخه وأبو الشيخ في العظمة وابن عساكر عن كعب قال: إذا أراد الله أن تطلع الشمس من مغربها أدارها بالقطب (أي المحور) فجعل مشرقها مغربها ومغربها مشرقها اه وهذا من أحسن العلم المعقول الذي روي عن كعب والله على كل شيء قدير...

قال تعالى لرسوله عليه الصلاة والسلام: {قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ} أي انتظروا أيها الكفار المعاندون ما تتوقعون إتيانه ووقوعه بنا واكتفاء أمر الإسلام به إنا منتظرون وعد ربنا لنا ووعده لكم، كقوله تعالى: {فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين} (يونس 102) أو انتظروا ما ليس أمامكم سواه في الواقع ونفس الأمر، وإن كنتم تجهلونه ولا تفكرون فيه وهو هذه الأمور الثلاثة إنا منتظروها على علم وإيمان، وهي مجيء الملائكة لقبض أرواح الأفراد أو إتيان الرب تعالى أي أمره بما وعدنا من النصر. وأوعدكم من الخزي والخسر. أو إتيانه تعالى لحساب الخلق، أو إتيان بعض آياته الدالة على تصديق رسوله قبيل قيام الساعة…وهذا الأمر يتضمن التهديد كقوله تعالى: {وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون وانتظروا إنا منتظرون} (هود 120- 121) والآية المفسرة بمعنى قوله تعالى: {قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون فأعرض عنهم وانتظر إنا منتظرون} (السجدة 29- 30).

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

وأن الله تعالى حكيم قد جرت عادته وسنته، أن الإيمان إنما ينفع إذا كان اختياريا لا اضطراريا، كما تقدم. وأن الإنسان يكتسب الخير بإيمانه. فالطاعة والبر والتقوى إنما تنفع وتنمو إذا كان مع العبد الإيمان. فإذا خلا القلب من الإيمان لم ينفعه شيء من ذلك...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ويمضي في هذا التهديد خطوة أخرى، للرد على ما كانوا يطلبونه من الآيات والخوارق حتى يصدقوا بهذا الكتاب.. وقد مضى مثل ذلك التهديد في أوائل السورة عند ما كانت المناسبة هناك مناسبة التكذيب بحقيقة الاعتقاد. وهو يتكرر هنا، والمناسبة الحاضرة هي مناسبة الإعراض عن الاتباع والتقيد بشريعة الله: فقد جاء في أول السورة: (وقالوا: لولا أنزل عليه ملك! ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر ثم لا يُنظرون).. وجاء هنا في آخرها: (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك، أو يأتي بعض آيات ربك؟ يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً: قل: انتظروا إنا منتظرون).. إنه التهديد الواضح الحاسم. فقد مضت سنة الله بأن يكون عذاب الاستئصال حتماً إذا جاءت الخارقة ثم لم يؤمن بها المكذبون.. والله سبحانه يقول لهم: إن ما طلبوه من الخوارق لو جاءهم بعضه لقضي عليهم بعده.. وإنه يوم تأتي بعض آيات الله تكون الخاتمة التي لا ينفع بعدها إيمان ولا عمل.. لنفس لم تؤمن من قبل، ولم تكسب عملاً صالحاً في إيمانها. فالعمل الصالح هو دائماً قرين الإيمان وترجمته في ميزان الإسلام. ولقد ورد في روايات متعددة أن المقصود بقوله تعالى: (يوم يأتي بعض آيات ربك) هو أشراط الساعة وعلاماتها، التي لا ينفع بعدها إيمان ولا عمل. وعدوا من ذلك أشراطاً بعينها.. ولكن تأويل الآية على وفق السنة الجارية في هذه الحياة أولى. فقد سبق مثله في أول السورة، وهو قوله تعالى: (وقالوا لولا أنزل عليه ملك، ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون).. والملاحظ أن السياق يكرر وهو بصدد الكلام عن الشريعة والحاكمية، ما جاء مثله من قبل وهو بصدد الكلام عن الإيمان والعقيدة، وأن هذا ملحوظ ومقصود، لتقرير حقيقة بعينها. فأولى أن نحمل هذا الذي في آخر السورة على ما جاء من مثله في أولها من تقرير سنة الله الجارية. وهو كاف في التأويل، بدون الالتجاء إلى الإحالة على ذلك الغيب المجهول...

.