الآية 158 وقوله تعالى : { هل ينظرون إلا } كذا{[7968]} قال أهل التأويل : ما ينظرون ، [ وحرف هل : هو حرف استفهام وتعجب ، لكن أهل التأويل قالوا : ما ينظرون ]{[7969]} حملوا على الجواب ؛ لأنه لم يخرج له جواب . فجوابه ما قالوا : { ما ينظرون } كما في قوله تعالى : { ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا } أي ا أحد أظلم ممن كذب ، هو جواب ؛ لأن جوابه لم يخرج . فجوابه ما قالوا : لا أحد أظلم ؛ لأنه سؤال واستفهام ، فجوابه ما ذكروا . فعلى ذلك قوله تعالى : { هل ينظرون } هو استفهام ، ولم يخرج له الجواب ، فجوابه : لا ينظرون كقوله تعالى : { ما ينظرون إلا صيحة واحدة } [ يس : 49 ] .
ثم قوله تعالى : { هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك يوم يأتي بعض آيات ربك } هذا ، والله أعلم ، يشبه أن تكون الآية في المعاندين منهم والمتمردين الذين همتهم العناد والتعنت ؛ خرج على إياس رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصا على إيمانهم مشفقا على أنفسهم حتى كادت نفسه تهب حسرات عليهم حرصا على إيمانهم وإشفاقا على أنفسهم كقوله تعالى : { فلا تذهب نفسك عليهم حسرات } [ فاطر : 8 ] وكقوله تعالى : { فلعلك باخع نفسك } الآية [ الكهف : 6 ، والشعراء : 2 ] ونحوهما{[7970]} .
فآيسه الله تعالى من إيمان أولئك الكفرة لئلا يطمع في إيمانهم وإسلامهم بعد ذلك ، ولا تذهب نفسه حسرات عليهم ، وليتخذهم{[7971]} أعداء ، ويبغضهم ، ويخرج الشفقة التي في قلبه لهم ، وليتأهب لعداوتهم ، ويتبرأ منهم كما فعل إبراهيم : { فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه } [ التوبة : 114 ] وكما قال لنوح { أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون } [ هود : 36 ] آيسه الله من إيمان قومه إلا من قد آمن ، ونهاه أن يحزن عليهم ، وعلى فوت إيمانهم . فعلى ذلك هذا آيس رسول الله صلى الله عليه وسلم من إيمانهم ، ونهاه أن يحزن عليهم كقوله تعالى : { ولا تحزن عليهم } إلا للوقت الذي ذكر أنهم يؤمنون في ذلك الوقت ، وهو{[7972]} وقت نزول الملائكة وإيتائهم بآياته{[7973]} ، وهو قوله تعالى : { إلا أن تأتيهم الملائكة } .
ثم قال بعضهم : { تأتيهم الملائكة } بقبض الأرواح مع اللعن والسخط . فعند ذلك يؤمنون بالله . وقال بعضهم : قوله تعالى : { إلا أن تأتيهم الملائكة } يوم القيامة ، وهو كقوله تعالى : { يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا } [ الفرقان : 2 ] .
وقوله تعالى : { أو يأتي ربك } على الأمر ؛ كأنه قال : أو يأتي أمر ربك على ما ذكر في سورة النحل { أو يأتي أمر ربك } [ الآية : 33 ] . ثم الأمر ، فيه عذاب الله كقوله تعالى : { ولما جاء أمرنا } [ هود : 58و . . . ] يعني عذابنا ، فعلى ذلك في هذا أمر الله عذاب الله .
والأصل في ما أضيف إلى الله في موضع الوعيد ، لا يراد به الذات ، ولكن يراد به نقمته وعذابه وعقوبته كقوله تعالى : { ويحذركم الله نفسه ؛ [ آل عمران : 28 و30 ] ، لا يريد به [ ذاته ]{[7974]} ، ولكن يريد نقمته وعذابه كقوله تعالى : { من كان يرجوا لقاء الله } [ العنكبوت : 5 ] لا يريد لقاء ذاته ، وكذلك قوله تعالى : { وإلى الله المصير } [ آل عمران : 28و . . ] وقوله تعالى{[7975]} : { وإلى الله ترجع الأمور } [ البقرة : 210 و . . . ] وغيرها من الآيات لا يراد به ذاته ، ولكن يراد به عذابه ونقمته . أو نقول : إن كل شيء ، يراد به تعظيمه ، يضاف إلى الله تعالى ، فيراد [ بإضافة اليوم إلى الله تعالى ]{[7976]} تعظيم ذلك اليوم أو تعظيم عذابه ونقمته .
وقوله تعالى : { أو يأتي بعض آيات ربك } تحتمل بعض آياته ما قال عز وجل : { فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده } [ غافر : 84 ] وكقوله تعالى : { فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم } الآية [ الأحقاف : 24 ] وكقوله تعالى : { سأل سائل بعذاب واقع } [ المعارج : 1 ] ونحوها{[7977]} من الآيات ؛ يؤمنون عند معاينتهم العذاب ، ولا ينفعهم الإيمان .
ويحتمل ما قال أهل التأويل : طلوع الشمس من مغربها وخروج الدجال وخروج الدابة . وعلى ذلك روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ أنه ]{[7978]} قال : ( ثلاث إذا خرجن { لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا } ) [ مسلم : 158 ] .
وقال أبو هريرة رضي الله عنه : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( بادروا بالأعمال ستا : طلوع الشمس من مغربها والدجال والدخان ودابة الأرض وخويصة أحدكم وأمر العامة ) [ مسلم 2947/129 ] وخويصة /166-ب/ أحدكم : الموت ، وأمر العامة : الساعة إذا قامت .
وعن ابن مسعود رضي الله عنه [ انه ]{[7979]} قال : التوبة معروضة حتى تطلع الشمس من مغربها . ثم قال : مهما يأت عليكم عام ، فالآخر شر . ونحوه من الأخبار . فإن ثبتت فهي المعتمدة .
وعن عائشة رضي الله عنها [ أنها ]{[7980]} قالت : إذا خرج أول الآيات طرحت الأقلام ، وحبست الحفظة{[7981]} وشهدت الأجساد على الأعمال .
وقوله تعالى : { لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل } أخبر أن الإيمان ، لا ينفع في ذلك الوقت [ لوجوه :
أحدها : أنه ]{[7982]} ليس بإيمان اختيار في الحقيقة ، إنما إيمان دفع العذاب والبأس عن أنفسهم كقوله تعالى : { فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده } [ غافر : 84 ] وقوله تعالى : { ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون } [ الأنعام : 28 ] أخبر أنهم لو ردوا إلى الدنيا لعادوا إلى تكذيبهم الرسل وكفرهم بالله . فدل أن إيمانهم في ذلك الوقت إيمان دفع العذاب والبأس وإيمان خوف ، وهو كإيمان فرعون حين{[7983]} { أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين } [ يونس : 90 ] لم ينفعه إيمانه في ذلك [ الوقت ]{[7984]} لأنه إيمان دفع الهلاك عن نفسه لا إيمان حقيقة باختيار .
والثاني : أنه في ذلك الوقت وقت نزول العذاب لا يقدر أن يستدل بالشاهد على الغائب ليكون [ قول المرء ]{[7985]} قولا عن معرفة وعلم ، وإنما هو قول يقوله بلسانه لا عن معرفة في قلبه في ذلك الوقت لما ذكرنا ، وهو قوله تعالى : { وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن } [ النساء : 18 ] لأنه إيمان دفع البأس والعذاب .
[ والثالث أنه ]{[7986]} : يبالغ بالاجتهاد حتى يكون إيمانه إيمانا باجتهاد ؛ لذلك كان ما ذكرنا .
والرابع{[7987]} : أن يكون في طلوع الشمس من مغربها وخروج الدجال ودابة الأرض وما ذكر من البلاء والشدة والعذاب ما يضطرهم إلى الإيمان به ، فيكون إيمانهم إيمان اضطرار ولا اختيار .
ويشبه أن تكون [ الأحاديث ]{[7988]} التي رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا تقبل التوبة بعد طلوع الشمس من مغربها وبعد خروج الدال ودابة الأرض ؛ أي لا يثابون على طاعاتهم ، وإلا فمن البعيد أن يدعو إلى الإيمان والطاعات . ثم إذا أتوا بها لم تقبل منهم ، لكنه يحتمل ما ذكرنا ألا يثابوا{[7989]} على ذلك ، ويعاقبوا{[7990]} بما كان منهم من الكفر وكفران النعم ؛ لأن جهة الثواب إفضال وإحسان ، وفي الحكمة شرك{[7991]} الإفضال بالثواب في الطاعات ، إذا كان من الله عز وجل من النعم ما يكون ذلك شكرا له ، والعقاب على الكفر مما توجبه الحكمة . لذلك كان ما ذكرنا .
ولهذا يخرج قول أبي حنيفة رضي الله عنه حين قال : لا ثواب للجن على طاعاتهم لأن طريق وجوبه الإفضال ، ولم يذكر [ لهم ]{[7992]} ذلكن ويعاقبون بما كان منهم من الكفران والأجرام ما ذكرنا من المعنى الذي وصفنا ، والله أعلم بذلك .
وقوله تعالى : { لا ينفع نفسا إيمانها } عند معاينة العذاب والبأس والآيات إذا { لم تكن آمنت من قبل } .
وقوله تعالى : { أو كسبت في إيمانها خيرا } أي لا ينفع ذا إلا بذا ؛ إذا عملت خيرا ، ولم تكن آمنت ، لا ينفعها{[7993]} ذلك ، [ ولن نفعها إيمانها ]{[7994]} عند معاينة العذاب والآيات إذا لم تكن كسبت قبل ذلك خيرا .
وقيل : قوله تعالى : { لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا } أي لا ينفع نفسا إيمانها إذا لم تعزم ألا ترتد ، ولا ترجع عنه أبدا . وقيل : { لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل } أي لا ينفع إيمانها { أو كسبت في } تصديقها التعظيم لله والإجلال . فعند ذلك ينتفع صاحبه ، لأنه لا كل تصديق يكون فيه التعظيم لله والإجلال ، إذا لم يكن فيه التعظيم له . وقيل : { أو كسبت في إيمانها خيرا } أي لم تكن عملت في تصديقها خيرا قبل معاينة الآيات .
وقوله تعالى : { انتظروا إنا منتظرون } هو يخرج على الوعيد ؛ أي انتظروا إحدى هذه الثلاث التي ذكرنا فإنا منتظرون . وهو كقوله : { قل تربصوا فإني معكم من المتربصين } [ الطور : 31 ] أي انتظروا العذاب فإنا منتظرون بكم ذلك .